ومن الحب ما يغير مسار الحياة.. “الجزء الأول”
في البداية أحب أعرفكم على نفسي.. أنا نور ١٩ سنة وماشي في ال ٢٠، بدرس في أولى المراحل الجامعية، كنت عايش في البيت مع أهلي في أسرة صغيرة متكونة من أب وأم وولدين.
اتعودت في حياتي إني أكون لوحدي، بدون لمة بدون صحاب، حتى في البيت مفيش بيني وبين أهلي تواصل قوي، دايمًا كنت كل ما أبتدي أخد على حد وأحبه كنت بلاقيه بينفر مني ويبعد عني، كانوا خايفين من اللي ورايا، من ضهري وسندي، أبويا!
بابا راجل أعمال كبير في البلد وليه بيزنس ومشاريع كتير وعلاقات مهمة مع ناس من كبار الدولة.
معظم وقته وقعدته في البيت مقضيها إما مع تستيف أوراقه، وإما مع تليفوناته، وإما مع الناس اللي بتجيله كتير وبيقعدوا في المكتب بالساعات، عمره ما فضى ليا، اتناقش معايا، أو سألني عن حالي..
عمري ما حسيت إنه أب ليا فعلًا، يهتم لأمري، صحيح مكانش بيحرمني من أي حاجة أطلبها وبتتنفذ وقتها، بس الفلوس والماديات مش كل حاجة، شغله وطبيعة عمله خطفته مني، وكمان اتخطف من حنيتي ليه، عمري ما عرفت إيه طبيعة الشغل اللي بيشتغله، بس من طريقة تخبيته ليها والتخفي أكيد شغلانة حساسة، وهي اللي قدرت توصله للنفوذ دي كلها في وقت قصير.
كان راجل ظالم وبطاش، الكلمة دي اللي قالهالي مستر العربي وزعلت منه ومفهمتش معناها وقتها.. كنت فاكر إنه بيغير منه أو بيحسده على مكانته، لكن تبينت ليا الحقيقة بعدين..
مستر العربي هو أستاذي أحمد رجب، مدرس أول لغة عربية، وكل الناس بتشهدله بعلمه وبأخلاقه، تميز بلغة فصحى صماء جعلته يتعين بأفضل الصحف المصرية المحلية.. قلمه حر، لا يهاب أحد، يكتب كل ما هو شائك ويخاف الكثيرون منه، يحارب الفساد وأيادي الدمار الخفية، ذو قلب نابض لا تهمذه الأموال والمناصب.
فقط يكتب كل ما خطر بباله، عرضت عليه الكثير من الرشاوي من قبل، وهي ما كانت سبب وقوع الكثيرين بالسجن، وهو ما جعله في موضع الانتقام، أراد الجميع أن يسكت لسانه ويكسر يده، ويفرغ حبر قلمه.. ولكن عمله الصالح ما ساعده على استقراره وثبات موضعه.
وفي ذات يوم من الأيام قد أعد مقالًا جديدًا، عندما علم أبي به قد هز عرشه، وانتفض قلبه ولم يهدأ له بال، فكما أخبرتكم من قبل أن موضعه حساس، وطبيعة عمله شائكة، إلا أن أستاذي لم يسلم من بطشه؛ فقد أجرى أبي هاتفًا قبل أن تنشر الجريدة خبرها وتوزع تلك الصحف، هدد رئيسها بإغلاق الجريدة إن نشر هذا المقال، كما أنفق بعض من ماله في سبيل إخفاء تلك الأمور، ولم يكتفي بذلك بل أمر بتسريح هذا الصحفي الذي طالما حارب الفساد، وقد فعل المدير، علاوة على ذلك قضى على حياة هذا المسكين نهائيًا وعلى مستقبل أسرته، لقد قام بتلفيق قضية مخدرات لهذا البائس، وقد حكم عليه بالسجن المؤبد، إلا أن الحق لا ينام عدله، يمهل ولا يهمل.
كون أبي طيلة حياته الكثير من العداوات، وكل من يخالف أمره يقوم بلدغه، ساعدته نفوذه على ذلك.. لم يكن أبي يعمل مع حاله، لطالما سانده بعض رجال ورموز الدولة، وكما يطلق حاميها حراميها!
في ظل مرور الأيام تزيد العداوات مع أبي، ويبطش بكل من يقف أمامه، تزيد نفوذه وتتعدد خطاياه عند المولى، يمهله كي يفيق ويتوب بينما يزيد طغيانه أكثر فأكثر.
تاجر في كل ما هو مخالف لأمر الله: الأسلحة، الخمور، المخدرات، حتى قد وصل فجوره إلى تجارة الأعضاء! حتى هذا الأمر لم يسلم منه.. أراد الله أن يكثر من آثامه فعمى قلبه وأظلم عقله، فعميت عيناه عن الحقيقة، ودام يفعل ما يعصي به الله.
والآن قد أمهل الكثير ولم يتراجع، لم يحسن، لم يتوب ويستغفر ربه، لذا جاءه عذاب الله، الحي العدل الذي لا يسهو ولا ينام، أراد أن يصيبه في أعز ما لديه، كما قام بتشريد وتدمير حياة أسر ومجتمعات على مر السنوات، أصاب أمي بالمرض اللعين، السرطان، ذلك المرض الذي قام بتدمير جسدها حيه، أنهك قواها، وأنخر عظامها، أتى عذاب الله شديدًا جدًا، فلم ينزل العذاب على أبي فقط، بل نزل على قلبي وقلب أخي.. ولماذا أمي؟ أمي لم تعلم قط بعمل أبي، لم يكن ليخبرنا بذلك يومًا، قامت على رعايتنا وتربيتنا تربية سليمة، أمرتنا بالقيام على شرع الله، عودتنا على الصلاة والصيام، أخبرتنا عن إخراج الزكاة والصدقات وإعطاء حق الفقير، نهتنا عن الزور والجور، كانت أمًا صالحة.. فلماذا يا ربي أبليتها بذلك؟ فقد أصيبت قلوبنا بالجفاء، وأنهكت عقولنا بالعناء، لم يحل هذا العذاب والاختبار بأبي فقط، بل أحل بحياتنا..
أمي، لقد كانت الأكسجين الذي نتنفسه، النور الذي نبصره، والسند الذي نتكيء عليه، رحلت عنا أمي وأنا في سن العاشرة، فقد كنت صغيرًا جدًا لأتعذب بمثل هذا الوقت، ولكنها حكمة الله التي أراد، دعوت وقولت اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكني أسألك اللطف فيه، أنزل ربي السكينة على قلبي وتجاوز عني ذلك الحزن، ولكن في كل ليلة عندما أجتمع بنفسي أتذكر هذا الأمر وأنهال بالبكاء، ولكنه قضاء الله لا اعتراض عليه.
ورغم ما حل بنا في هذا الأمر، إلا أن أبي لم يتوقف عن عمله وإيذاءه، ولكن هناك فوق السحاب من لا يمل ولا ينسى، يراقب ويمهل، إلا أنه لا يهمل أبدًا، يعطي كل ذي حق حقه، أذى أبي وآذانا في أعز ما لدينا ليتعظ ويتوب، إلا أن المشركين عميت قلوبهم، وغرورهم جعلهم يصرون على المواصلة في الأخطاء.
كملت حياتي أنا وأخويا الكبير محمد، أكبر مني بكتير كان عنده ٢٧ سنة، خريج كلية طب، كان مجتهد أوي في دراسته وربنا حققله مبتغاه، ونعم الولد الصالح، بحكم نفوذ أبي قدر يعفيه من الجيش رغم أنه كان رافض الفكرة دي بس كان إصرار أبويا فوق الكل، وكلمته لازم تمشي، وقد ربتنا أمي على السمع والطاعة، هكذا أحستنا يومًا فيومًا على فعل ذلك، ولا نريد إحزانها في قبرها بفعل المحذورات، لذا رضي أخي بالأمر الواقع ونفذ ذلك.
اشتغل محمد في فترة الدراسة كتير جدًا وقدر يفصل بين شغله ودراسته، حوش مبلغ مش بطال وقدر يفتح بيه عيادة في وضع متوسط، صحيح كانت عيادة صغيرة إلا إنه كان بيتقي الله في كل المرضى اللي عنده، نفذ عهده اللي وعده لأمي في مرضها إنه يعالج كل غير مقتدر مجانًا، وكمان يساعده في تمن العلاج، ربنا رزقه ببنت الحلال اللي اتعرف عليها في عيادته، اسمها كان بيبدأ بحرف N، كانت بنت جميلة أوي، هادئة ولطيفة، حسنة الملبس، حنينة وطيبة، عوضتني فقدان أمي، وجودها في البيت حسسني إن أمي رجعتلي، نفس الطباع والأخلاق الحسنة اللي أمي ربتنا عليها تمامًا..
تزوجها أخويا وعملوا فرح جميل جدًا حضرته كل العائلة، وبعد فترة من كرم ربنا إنها حملت في طفل، أخويا محمد وأنا كنا طايرين من السعادة، أخيرًا ربنا هيرزقه بطفل، وأنا كمان ربنا هيرزقني بأخ أو أخت صغيرة تعوضني عن الوحدة اللي عشتها، حسينا إن الدنيا ابتدت تنور من جديد وتفتحلنا دراعتها، وبعد فترة من الحمل مرت تقريبا ٥ شهور، تم تحديد نوع الجنين وكان بنت، أخويا قرر يسميها على اسم أمي، تيمنا بيها، وشكر لكل اللي عملته علشاننا.
وفي يوم من الأيام أخويا جاله بعثة بره مصر، البعثة دي كانت لأمريكا لمدة ٦ شهور، أخويا طار من الفرحة، فرصة زي دي متتعوضش وكفيلة إنها تنقله نقلة تانية لأنه كان هيشارك في بعض العمليات الجراحية الكبيرة هناك وهياخد شهادة معتمدة بده، محمد كان رافض في بداية الأمر علشان ميسيبش مراته لوحدها، وبعد زن منها كتير أقنعته أخيرًا إنه يسافر، سافر أخويا وكان بيكلمنا كل يوم يطمننا على نفسه ويطمن علينا، وبعد ٤ شهور من السفر كان لازم يرجع، ساب كل اللي وراه وقدامه واستأذن إنه ينزل علشان ميعاد ولادة مراته، نزل فعلًا من الطيارة وكان في أسعد لحظاته لما قابلناه، وقرر إننا نطلع مصيف أو رحلة نقاهة احتفالًا وتأهيلًا للطفلة اللي جاية في الطريق..
حجز الحجز الخاص بينا في الفندق وخدنا عربية وطلعنا على طريق مطروح، اتحركنا بالليل علشان يكون الجو هادي وبعيد عن الزحمة، وكمان مع طول الطريق نوصل الصبح مرتاحين، السواق كان متسرع وأكتر من مرة أخويا يحذره، وأخيرًا التزم شوية، عنينا غفلت في الطريق وصحينا على صوت فرملة شديد جدًا، الصوت كان صادر عن انقلاب وزحف عربية بترول قدامنا، واللي اتدحرجت على الطريق قدامنا قفلت الطريق كله، السواق كان استغل إننا نمنا وزود سرعته في اللحظة دي، وبحكم سرعته المهولة مع الموقف ده مقدرش يتحكم في سرعة العربية والفرامل مأثرتش على توقف العربية…
العربية اتشقلبت عدة شقلبات في الجو وفي واحد من الأبواب اتفتح واتنطرت على الطريق فقدت الوعي ومحستش بحاجة بعدها، أما العربية وباقي اللي فيها وقعت واصطدمت بعربية البترول اللي قدامنا، حصل حريق مسك في كل اللي حوليها، ومات كل اللي في العربية.. أخويا ومراته والسواق والجنين..
لحقوني الناس من على الطريق وأسعفوني لأقرب مستشفى، وهناك عرفت بكل اللي حصل! الدنيا اسودت في وشي.. لتاني مرة ربنا بيخالف كل المقدرات وبيصيبني في أعز ما ليا، ولتاني مرة ربنا بيحقق مقولة يمهل ولا يهمل.
يُتبع…