طلاسم

الذنب

الذنب

يتسلل صوت ذلك الرنين المزعج إلى أذني معلنًا بداية يوم جديد.. يخترق الصوت جنبات عقلي مطلقًا سراح صداع يومي لا ينتهي.. يوم آخر في حياتي عديمة الهدف والمعنى، يوم آخر من تأنيب الضمير!

تباعدت جفون عيني ببطء سامحة لي برؤية الضوء الذي اخترق غرفتي ليزينها بلون ذهبي.. نهضت بتكاسل من فراشي واتجهت للحمام لأقف أمام المرآة أتأمل قسمات وجهي التي تغيرت بفعل الوحش الذي يعيش داخل كياني ليذيقني العذاب يوميًا.. الوحش الذي يذكرني كل يوم في مثل هذا الوقت وأمام هذه المرآه بتلك القضية…

 

فتاة بعمر العاشرة تعود إلى منزلها وحيدة بعد يوم طويل في المدرسة.. تشعر بالجوع وهي تسير بحذر على رصيف المشاة تتذكر تحذيرات والدتها بألا تعبر الطريق إلا بعد أن تنظر يمينًا و يسارًا.. يسير حولها المارة في كل اتجاه لتختفي بينهم بلا أثر..

لا زلت أستطيع سماع صوت والدتها وهي تبكي في مركز الشرطه تتوسل حتى نجد ابنتها الوحيدة، لا زلت أتذكر كيف قرروا إعطائي هذه القضية، لا يزال ذلك المشهد يتكرر أمام عيني حينما أوقفتني والدة الطفلة وجعلتني أعدها أني سأعيد لها ابنتها سليمة.. سأعيد لها ابنتها حيه..

 

حسنًا نحن بشر ولا يمكننا تغيير القدر هذا إن كنت مؤمنًا بالقدر.. لذا وبعد شهر طويل من التحقيق المتواصل والنوم المتأخر والأعين المرهقة والبحث المستمر استطعنا تحديد هوية المشتبه به..

بالطبع يمكنك توقع ما حدث بعد ذلك.. حاصرنا منزله، رفض الخروج من المنزل، اقتحمناه ثم تركتهم يعتقلونه وبدأت بالبحث عن الفتاة ولكن يبدو أنني قد تأخرت!

فكما ترون كان الخاطف يحب الكلاب وحينما بحثت في ذلك المنزل القديم عن أثر للفتاة الصغيرة لم أجد شيئًا، بحثنا في كل مكان داخل المنزل بلا أثر ولم يتبقى غير حظيرة الكلاب، حينها قررت البحث في الحظيرة…

 

وهنا وجدتها، حسنًا لم أجدها، فقط وجدت بقاياها، عظمة ساق تتصارع عليها الكلاب، بالطبع أدركت حينها ماذا فعل ذلك القذر بالفتاة الصغيرة.. ذلك الشيء القذر!

فقدت السيطرة على نفسي وتهجمت عليه وسط زملائي وانهلت عليه بالضرب حتى أنني حطمت أنفه، ولكن ما أثار جنوني حينها وكاد أن يجعلني أقتله هو ابتسامته! كان يبتسم برضى غريب ومرعب! هذا الشخص لم يكن بشريًا.. لا كان وحشًا!

لو لم يثبتني زملائي حينها لكنت قتلته، ولكن ماذا حدث بعد ذلك؟

 

حسنًا لم يتم إعدامه؛ فقد كان مجنونًا أو يدعي الجنون وتم إيداعه بالمستشفى.. ألمني ذلك بالفعل، ولكنه لا يساوي شيئًا أمام نظرة والدة الفتاة إليّ وألم كفها الذي التحم بعظام وجهي، ربما لو لم أتأخر ربما لو بذلت المزيد من الجهد لكانت الفتاة حية الآن.

والآن أعاني من عقدة الذنب!

 

قطع تأملي أمام المرآة صوت هاتفي على المنضدة بجوار سريري، غسلت وجهي بسرعة ثم عدت إلى غرفتي لأجيب على الهاتف، كان صوت شريكي تود:

“صباح الخير يا جايك”

“صباح الخير يا تود.. ما الأمر، ألا يمكنك الانتظار إلى أن آتي للمركز؟”

“في الواقع لا.. بالإضافة أنني لست في المركز”.

“إذا ما الأمر؟”

أخذ نفسًا عميقًا كان بصوت عال استطعت سماعه على الهاتف

“لقد ضرب قاتل السينما ضربته مجددًا.. أنا الآن في سينما (….) في الجهة الشرقية من المدينة.. أقف أمام جثة ضحيته الجديدة.. وأظن أنه عليك أن تسرع بالقدوم إلى هنا”

“حسنًا.. أنا قادم بأقصى سرعة.. لا تسمح لأي أحد كان بلمس الجثة”.

“حسنًا إذًا.. أنا في الانتظار”.

 

قاتل السينما.. ذلك الاسم الذي أطلقناه على ذلك القاتل المتسلسل.. قاتل يرتكب كل جرائمه في صالات السينما.. فبينما أنت تشاهد فيلمك المفضل بجوار صديقتك التي تتهامس معها بين الفينة والأخرى بالطبع لن يختر في بالك أن هناك قاتل معك في المكان يتربص بك وينتظر اللحظة المناسبة كمفترس ما ليسيل دمائك بكل لذة ونشوة ممكنة!

في البداية بعد أول جريمة قتل والتي وقع ضحيتها حبيبان ما، وجدت جثتهما في حمام السينما ظننا أنها عملية سرقة.. لم نكن نتوقع الكثير، ولكن حينما بدأت الجرائم تتكرر بدأنا نعتقد أنه قاتل متسلسل…

ففي الجريمة الثانية.. كان الضحية أب لعائلة، وفي الجريمة الثالثة كان مراهقًا، والآن هذه الجريمة الرابعة.

 

بعد الجريمة الثانية بالطبع بدأت بالبحث عن الرابط بين الجريمتين والمتمثل في الضحايا لأكتشف أن حبيبيّ الجريمة الأولى كانا يمارسان الابتزاز الجنسي على أصدقائهما مقابل المال، والأب في الجريمة الثانية كان يمارس التحرش الجنسي بأطفاله، ثم جاءت الجريمة الثالثة لتؤكد شكوكي.. فالمراهق كان يروج للمخدرات..

إذًا قاتلنا يظن أنه يمارس نوعًا من العقاب أو تحقيق العدالة، ولكن بالرغم من وصولي لهذا الاستنتاج لم أستطع الوصول لنمط يمكنني من توقع ضحاياه المستقبليين.. لذا ها أنا أمام جثة جريمته الرابعة..

فتاة في حوالي العشرين من العمر تبدو جميلة وترتدي زيًا قصيرًا.. تصلب جسدها على كرسي السينما بينما عيناها مغمضتين بهدوء وكأنها نائمة مع لون أزرق احتل ثنايا وجهها..

 

“مسكينة! ماتت ولم يلحظ أحد ذلك.. ويبدو أن عمال السينما لم يلاحظوا الجثة إلا في الصباح الباكر”.

كان ذلك صوت شريكي تود الذي وقف بجانبي وقطع تأملي مجددًا.. في الحقيقة أنها موهبة بالنسبة إليه لذا سألته:

“وما سبب الوفاة؟”

“الاختناق.. يبدو أن قاتلنا قد قتلها عن طريق الخنق باستخدام سلك معدني رفيع.. يمكنك رؤية أثاره بوضوح إذا رفعت رأس الجثة”.

“هل حددتم هويتها؟”

“بالطبع.. ماري فيتزجيرالد، فتاة في مقتبل العمر، تخرجت من الثانوية ثم بدأت في ممارسة الدعارة ويبدو أنها كانت هنا للعمل.. النوع المفضل لقاتلنا”.

“هل يوجد بصمات، شعر أي شيء قد أوقعه خلال جريمته؟ أم أننا سنصل لطريق مسدود في النهاية!”

“في الواقع هذه المرة مختلفة”

“ماذا تقصد؟”

” لقد ترك قاتلنا رسالة”

قالها ثم أخرج ظرفًا من جيبه ليكمل حديثه:

“الظرف بلا أي بصمات بالطبع.. ولكن الشيء الغريب فعلًا غير تركه رسالة هو أنه تركها لك.. بالاسم”.

 

أخذت الظرف بيدي لأقرأ ما كتب عليه بخط رديء:

“هذه الرسالة إلى المحقق جيك هاورد فقط.. أتمنى ألا يقرأها أو يفتح الظرف شخص غيره وإلا ستعانون من حمل جثث ضحايا المرة القادمة من كثرتهم”.

نظرت إلى تود والذي كان قد قرأ التحذير ليقول:

“علينا أن نأخذ تحذيراته بجدية مهما بدت مبالغة فيها.. فأرواح الناس على المحك”

“حسنًا إذًا.. لنرى ماذا يريد مني قاتلنا!”

 

فتحت الظرف لأخرج الورقة المطوية بداخله.. تأملت الخط الرديء والذي كان مختلفًا عن الخط على الظرف وبدأت بالقراءة..

“المحقق جيك.. أتمنى أن تكون أنت من يقرأ هذه الرسالة، الآن أعلم أن هناك الكثير من الأسئلة تتسارع في ذهنك وأنا هنا في هذه الرسالة لأجيبك عن بعض هذه الأسئلة..

من أنا؟ حسنًا ستعرف الإجابة في النهاية وأؤكد لك أنها قريبة جدًا.

لماذا هؤلاء الضحايا بعينهم؟ حسنًا أظن أنك عرفت الإجابة بالفعل، فهذه عدالة السماء التي قد وقعت عليهم.

لماذا أفعل هذا وأعاقب هؤلاء المذنبين؟ للإجابة على هذا السؤال أحتاج إلى إخبارك قصة..

 

في الماضي في مزرعة بعيدة ومنعزلة، وفي كوخها الصغير يعيش طفل لم يكمل العاشرة بعد، كان الطفل لوالدين مؤمنين، يربيانه على التزام الطريق المستقيم والإبتعاد عن الخطايا والذنوب، يعلمانه أن الغفران ليس شيئًا سهلًا.. أن الغفران صعب المنال ويجب على مرتكب الذنب أن يتعذب حتى يستحقه.. لذا حينما كان الطفل يرتكب ذنبًا ما مهما كان صغيرًا.. إذا كذب أو سب أو حتى تأخر في النوم أو أخذ نصيبًا زائدًا من الطعام كانا يعذبانه أشد العذاب.

كم قضى الفتى من ليالٍ لا يستطيع النوم بسبب الألم؟! كم من مرة يتحسس جسده المليء بالندوب والجروح الدالة على ذنوب سابقة ليبكي في صمت؟! ولكن مهما فعلوا به كانوا والداه، كان يحبهم ويعلم في قرارة نفسه أن ما يفعلونه هو الشيء الصحيح…

 

إلى أن أتى ذلك اليوم الذي خسروا فيه المزرعة وانتقلوا فيه للمدينة.. بالطبع لم يستطع الأب إيجاد عمل مناسب وحالة الأم كانت سيئة وبالتالي حالة الصغير.. لكن أترى الشيء الذي حدث هنا هو أن حياتهم جميعًا قد تغيرت.. فالأب المؤمن الذي لا يتحمل أن يرتكب صغيره ذنبًا صغيرًا قد أصبح مدمنًا على الخمر.. والأم في حالة من اليأس أصبحت تعمل في الدعارة لأجل توفير المال اللازم.. وبالتالي ضل الإثنان طريقهما وبقى الصغير على ما تعلمه دائمًا..

يراهما مذنبين، يراهما يستحقان العقاب، يستحقان العذاب ولكنهما والداه.. إنه يحبهما، ما الذي عليه فعله، بل ما الذي يمكنه فعله لإنقاذهما من براثن الشيطان؟!

في يوم مشمس كان يجلس الصبي وحيدًا على إحدى جوانب الطريق.. يتأمل السماء ويشعر بالثقل على قلبه من أجل والداه.. تتردد في رأسه جملة واحدة فقط..

” أتمنى أن أنقذهما”.

ويبدو أن الإله قد سمع أمنية الفتى الصغير فقد أرسل له ملاكًا على هيئة رجل غريب ظهر فجأة أمامه على الجانب الآخر من الطريق.. كان الرجل طويلًا جدًا يرتدي بذلة سوداء مع قبعة تشبه قبعات رعاة البقر.. اتسعت عينا الصبي وهو يراقب ذلك الغريب يقترب منه.. شعر بالخوف يتزايد بداخله مع كل خطوة بل شعر بأن ضربات قلبه قد تزامنت مع خطوات الغريب.

حينما اقترب الغريب منه بالشكل الكافي استطاع رؤية ملامح وجهه.. كان الغريب رجلًا عجوزًا.. كان يبتسم ابتسامة دافئة جعلت الصبي يشعر بالأمن بعد الخوف.. تأمل الصبي الغريب الذي وقف أمامه مباشرة في صمت.

ليسأل الرجل العجوز الصبي:

“هل يمكنني الجلوس بجوارك؟”

لم يجب الصبي بل بقى صامتًا يتأمل العجوز الذي لم ينتظر إجابته ليجلس، وجلس بجواره.. نظر العجوز للسماء واتسعت ابتسامته:

“أتعلم.. حين تحاصرنا الذنوب وتثقلنا الخطايا هناك دائمًا حل واحد للغفران”

شعر الصبي بالفضول وسأله بينما تتأمل عينيه العجوز:

“وما هو؟”

ليجيبه العجوز:

“النار”..

ترددت الكلمة في عقل الصبي.. أزاح بنظره لثوانٍ قليلة ليفكر فيما فهمه من العجوز ليعود بنظره إليه فلا يجده.. اختفى العجوز تمامًا.. ولكن لا يهم، فقد وصلت الرسالة الإلهية وفهم الصبي ما عليه فعله.. وأنقذ والديه من الذنوب.. لقد أحرق منزله الجديد وهما بداخله.. لقد سمع صرخاتهما تخترق ألسنة اللهب والدموع تتسارع من بين جفونه ولكن لا يهم.. لقد أنقذهما.

 

بالطبع تعلم الآن من هو الصبي أيها المحقق.. ولكن ليس هذا هو سبب الرسالة.. فكما ترى أيها المحقق لقد كنت أراقبك وأعلم ماضيك جيدًا، وأعلم أيضًا أن هناك ذنبًا يطاردك.. لذا سألعب معك لعبة صغيرة إذا نجحت بإنهائها سينتهي كل شيء.. ولكن قبل أن نبدأ لعبتنا عليك أن تصل لرسالتي الأخرى.. ورسالتي ستكون مع غريمك.. ومع أكثر شخص تكرهه في هذا العالم… ”

 

وهكذا انتهت رسالة القاتل ليعطيني طرفًا آخر للخيط رسالة في مع غريمي.. بالطبع أعلم من هو.. الشخص الوحيد الذي أردت قتله وأنقذوه مني..

“علينا الإسراع لمستشفى الأمراض العقلية”

رد علي تود:

” لماذا؟ ماذا قال في الرسالة؟”

” هراء.. الكثير من الهراء مع طرف خيط وحيد.. ضحيته التالية جيم نيكولاس”.

“ذلك المجنون؟ الذي كدت أن تقتله؟”

” نعم .. هيا بسرعة علينا أن نذهب الآن ”

 

في السيارة اتصل تود بالمشفى ليسألهم عن حالة المريض جيم وقالوا أنه في غرفته وبحالة جيدة.. لذا يبدو أنني سأتحدث معه قليلًا..

وصلنا المستشفى ودخلنا غرفة الاستقبال وتحدثنا مع الطبيب المسئول عن حالته..

“لا يمكنني السماح لك بالحديث مع المريض.. أنت تمتلك ماضيًا معه”

قالها لي الطبيب بينما ابتعد حتى لا أحطم وجهه فلقد أعادت عليه جملة أن حياة المريض في خطر ثلاث مرات ولا يزال يجيبني بنفس الرد لذا أفسحت المجال لتود:

“اسمع سيدي.. هناك فتاة قتلت اليوم ومن ثم تلقينا تهديدًا مباشرًا من القاتل المتسلسل الذي قتلها بقتله المريض والذي هو تحت مسؤوليتك.. لذا إذا كنت مستعدًا لتحمل مسؤولية موت مريضك فلا يمكننا الحديث أكتر من ذلك، فقط سأغادر أنا وزميلي”

استطعت رؤية تعبير وجه الطبيب وهو يتغير والخوف الذي اعتلاه حينما وافق أخيرًا.. واتجه بنا في صمت لغرفة مريضه جيم نيكولاس..

 

دخلنا الغرفة نحن الثلاثة.. كان جيم يجلس على طاولة في منتصف الغرفة والتي كانت ضيقة جدًا يقرأ كتابًا ما، لم أنتبه لعنوانه.. ولكنه رفع رأسه لينظر في عيني ويقول:

“مرحبًا مرحبًا.. ضيوف غير متوقعين، يبدو أن هذا يوم سعدي”

حاولت تمالك أعصابي أمامه وأكاد أجزم أن تود شعر بغضبي وهو يقف بجواري.. سحبت كرسيًا وجلست أمام جيم وتحدثت:

“حسنًا للأسف.. أنا هنا لحمايتك.. يبدو أن هناك قاتلًا ما يريد قتلك”

ليبتسم ذلك الوغد ويجيب ببرود:

“ولكن أيها المحقق.. لا أظن أن أحدًا يريد قتلي غيرك، وغير تلك العاهرة”.

شعرت بالغضب يشتعل لمجرد أنه وصف والدة الفتاة بالعاهرة، ولكن يجب أن أتمالك نفسي.. شعر تود أنني لن أستطيع إكمال المحادثة لذا تحدث هو:

“حسنًا إذًا بما أنه ليس لديك أعداء غيرهما.. سوف نبقى هنا لحمايتك”.

يبدو أن تود لا يريد أن نبقى هنا أكثر من اللازم فقرر إنهاء المحادثة ووضع يده على كتفي لنغادر الغرفة، فقمت لأغادر ولكن قبل أن أخرج قدمي خارج الغرفة مباشرة سمعت ذلك الشيء يقول جملة لعينة:

“لقد أعجب الكلاب طعمها”.

وقفت لثوانٍ قليلة.. ثوانٍ فقط أواجه الصراع بداخلي بأن أقتله الآن، ولكن تود سحبني من الغرفة وأغلق الطبيب الباب..

 

خرجنا من الممرات ليعود الطبيب لمكتبه ونتجه أنا وتود لغرفة الاستقبال:

“يجب أن أذهب للحمام”

قالها تود لي قبل نخرج من المشفى:

“حسنًا سأنت…”

ليقطع كلماتي اصطدامي بذلك الطبيب الآخر.. ليعتذر لي ويكمل طريقه بينما ذهب تود للحمام وجلست على أحد المقاعد لأنتظره.. وتمر دقيقتين لأسمع صوت ذلك الصراخ القادم من غرف المرضى.. ركضت من مكاني بسرعة لمصدر الصراخ للمكان الذي يتجمع فيه الناس..

أنا أعلم هذه الغرفة.. لقد كانت غرفة جيم.. اخترقت الصفوف لأدخل الغرفة وأجده غرقًا في دمائه على الأرض.. تفصحت نبضه وكان صامتًا معلنًا إنتهاء حياة هذا الوحش، لقد تم طعنه بوحشية.. لا أعلم هل أنا سعيد لموته أم حزين لعدم مقدرتي على إيقاف القاتل!

 

اتصلت بالمركز وأخبرتهم بما حدث بينما أتجه للحمامات لأستعجل تود والذي لم يكن هناك.. تود لم يكن بالداخل.. هل خرج ولم أقابله؟ بالتأكيد سمع صوت الصراخ ولكن أين هو؟ أخرجت هاتفي من جيبي وحاولت الإتصال به.. رن الجرس ثلاث مرات ثم أجاب:

“تود أين أنت لقد قتل جيم”

“أعلم ذلك يا جيك”

لم يكن ذلك صوت تود.. كان صوت شخصًا آخر!

“من.. من أنت وأين تود؟”

“إنه هنا معي.. لا تقلق هو فاقد الوعي فقط، ولكن لا يمكنني ضمان سلامته لوقت أطول، هذا هو وقت لعبتنا الصغيرة.. سأنتظرك في هذا العنوان (…..) أريدك أن تأت وحدك وإلا لن ترى تود مجددًا.. سنتحدث قليلًا ثم سننهي كل شيء لمرة أخيرة” وأغلق الخط…

 

وبسرعة خرجت من المشفى وركبت سيارتي واتجهت لذلك العنوان.. كان عنوان مصنع قديم على حافة المدينة.. ترجلت من السيارة ثم اتجهت لذلك المصنع.. دخلت من باب صغير وكان المكان مظلمًا وبدأت بالنداء..

“توود! تووود!”

 

فجأة اشتعل الضوء وألمتني عيناي.. أخذت ثوان لأستطيع الرؤية مجددًا.. كان تود على مقعد في وسط المصنع مكممًا ويقف بجواره شخص ما.. ركضت بسرعة باتجاههم وكلما اقتربت اتضحت ملامح وجهه، لقد كان الطبيب في المشفى! الطبيب الذي اصطدم بي!

استطعت رؤية ابتسامته وهو يتحدث:

“أهلًا بالمحقق جيك.. المحقق الذي يطاردني منذ شهور”

” حسنا إذا أنا هنا … ما الذي تريده الأن ؟ ”

“شيئًا بسيطًا.. أريدك أن تتصل بالشرطة الآن وتخبرهم أن يأتوا إلى هنا”

“ماذا؟ أنا لا أفهم؟”

ازدادت ابتسامته اتساعًا:

“ستفهم بعد قليل.. فقط افعل ما أطلبه منك”

 

أخرجت هاتفي من جيبي واتصلت بالمركز وأخبرتهم أن يأتوا إلى هنا، ثم أعدت الهاتف لجيبي مجددًا لأسئلة:

” وماذا الآن؟ ”

” الآن يمكننا أن نتحدث.. لدينا دقائق فقط قبل أن تصل الشرطة إلى هنا وينتهي كل شيء”

” ماذا تعني.. ستسلم نفسك لنا؟”

” حسنًا يمكنك أن تقول هذا بشكل أو بآخر.. قل لي أيها المحقق.. هل أنت مذنب؟ هل إخفاقك في إنقاذ تلك الفتاة يجعلك مذنبًا؟”

نظرت إلى تود والذي لا يزال فاقدًا للوعي ثم للقاتل مجددًا وأجبته:

” نعم أظن ذلك ”

” حسنًا إذًا.. بالنسبة إليّ أنا مذنب، قتلت والدي، قتلت هؤلاء الناس جميعًا، ربما أنا أمثل العقاب الإلهي فعلًا، ولكني يجب أن أخضع لذلك العقاب أيضًا وإلا لن يكون إلهيًا”

” بمعنى؟ ”

” صديقك تود هنا.. لم يخبرك أنه شرطي فاسد أليس كذلك؟ يسرق الأدلة ليحمي المجرمين.. لقد قدم لي عرضه الخاص منذ فترة ”

” ماذا تقصد؟ تود !!”

” للأسف هو ميت الآن.. لقد حق عليه العقاب”

 

لم أحتمل الجملة الأخيرة لأهم بإخراج مسدسي من جيبي لأشعر بالطلقة التي اخترقت صدري.. تبًا إنه سريع!

شعرت بالدماء الدافئة تهرب من جسدي لأسقط على الأرض وأنا أنظر إليه..

” لماذا؟ ”

 

اقترب مني ليقف أمامي مباشرة وقال:

” لأني أعلم.. لأن الرجل الغريب الذي أخبرتك عنه في رسالتي تلك يخبرني بكل شيء.. ولقد أخبرني أنك من دبر عملية خطف الفتاة لأجل المال.. يبدو أنك لم تكن تعلم أن شريكك في العملية مجنون وأفسد عليك كل شيء.. نعم أنت لم تكن تريد للفتاة أن تموت ولكنك كنت سبب موتها لذا أنت أيضًا تستحق العقاب”.

لم تعد لدي القوة لأنطق بالكلمات:

” من.. أنت؟”

” اسمي هو ريو.. وأنا العقاب الإلهي”.

 

بدأت جفوني تتثاقل وأنا أرى أفراد الشرطة يقتحمون المكان.. رأيت ريو يرفع مسدسه باتجاههم ليطلقوا عليه النار ويردوه قتيلًا بجوراي.. وأظلم كل شيء.

 

” مشهد عظيم.. أليس كذلك؟ ”

سمعت ذلك الصوت يتردد في أذني.. فتحت عيني لأرى المشهد من حولي قد تحول لظلام تام .. ولكن من أين جاء الصوت …

” أوه بالطبع لا تفهم شيئًا مجددًا.. فالبرغم أنها مرتك الرابعة في شخصية المحقق جيك إلا أنك تفقد ذاكرتك في كل مرة”

لا أفهم شيئًا.. من هذا؟ صرخت بكل قوتي:

” أين أنت.. أنا لا أفهم شيئًا؟ ”

لأسمع صوت ضحكاته من كل اتجاه حولي وكأنها تأتي من كل مكان..

” بل تفهم يا ريو .. تفهم أنك نصبت نفسك إلهًا لتقتل البشر.. تفهم أنك بعدما قتلت المحقق جيك انتحرت في هذا المشهد الدرامي الرديء.. يبدو أنك كنت متحمسًا لحياة ما بعد الموت.. و لكن أخبرني ماذا كنت تتوقع على الجانب الآخر بالنسبة إليك؟ ”

” أنا .. ريو؟ ”

” سأخبرك ماذا كنت تتوقع.. كنت تتوقع أن النعيم بانتظارك بعدما حققت العدالة على نفسك أيضًا ولكن يا صديقي … ما ينتظرك على الجانب الآخر هو العكس تمامًا… أنت مذنب و ذنوبك لا يغفرها الموت كما تظن .. فهو مجرد مرحلة عبور فقط ”

” ماذا تعني .. ما الذي يحدث هنا .. أين أنا؟ ”

اخترق صوت ضحكاته أذني مجددًا

” أنت في الجحيم .. بعد انتحارك تم إرسال روحك البائسة إليّ مباشرة بما إن علاقتنا لها ماض.. ولأنني أحب عقاب أمثالك صممت لك عقابًا خاصًا .. ستعيش كشخصيات ضحاياك .. ستمر بما مروا به في آخر يوم في حياتهم .. ستشعر بذنوبهم وستلتهمك مشاعرهم ومعاناتهم وآلام موتهم مرارًا و تكرارًا في دائرة أبديه… أتفهم الآن يا ريو .. لقد كذبت عليك .. النار ليست الوسيلة الوحيدة للغفران ”

” إنه.. إنه أنت .. العجوز، و لكن أنت من كنت تخبرني عنهم.. أخرجني من هنا .. أتوسل إليك أخرجني من هنا! ”

“ألم يعلمك والداك ألا تثق في شيطان؟ .. للأسف يا ريو لن يحدث هذا فأنت عالق هنا للأبدية.. و الآن حان وقت أن تعيش آخر يوم في حياة ضحية أخرى من ضحاياك”.

صرخت بكل قوتي وأنا أنظر حولي في كل اتجاه محاولًا اختراق الظلام

” لااااا!! ”

وشعرت بالأرض تنهار من تحتي لأسقط في حفرة أبدية..

……..

 

لفح وجهي ضوء الشمس الذي اخترق الغرفة.. فتحت عيني ونظرت حولي لأجد ذلك الشخص الغريب في سريري .. نهضت واتجهت للحمام لأقف أمام المرآة أتأمل وجهي .. لأقول وأنا أحدث نفسي:

” ألن ينتهي هذا يا ماري .. غريب آخر على سريرك ” …

زر الذهاب إلى الأعلى