قصص الرعب

الميراث

الميراث
لم استطع الاستمرار مع تعاظم الاختناق الناتج من تخلخل الأتربة الثقيلة  لصدري! قبل استبدالها للأكسحين الذي يجري في دمي بحبيباتها الصغيرة لتستمر في الانتشار ونشر إحساس صعوبة التنفس ..فقررت أن يكون هذا  هو وقت الراحة, برفق وضعت المعول أرضا ثم تراجعت بحرص متسلقا السلم الخشبي الذي استخدمه للهبوط لداخل قبو منزلنا, أخفيت المدخل بأجولة العلف و لم يمض الكثير من الوقت إلا وأنا جالسا على المقهى استمتع بسيجارتي و حرارة كوب الشاي  محاولا منح جسدي بعضا من الراحة بعد يوما حافلا من الحفر والتنقيب.

معذرة لقد أخذت في الاستطراد ولم تعرف بعد من يتحدث لك. اسمي “محمد” ابلغ من العمر ثلاثين عاما, أعمل بإحدى المصالح الحكومية في قريتي الصغيرة بالصعيد, أعلم أن اسمي ليس من تلك الأسماء المعتاد أن تحدث لها ما يستحق تسجيله و انه كان من الأفضل لو كنت “ادهم”,”حسام” أو حتى “مهند” ولكنها كانت أمنية والدي أن يحظى بولده “محمد”..أمنية الحج “كامل”.

لم تكن الأمور على خير حال بيننا خاصة في الفترة الأخيرة من حياته, فقد دفعني ضيق الأحوال في قريتنا إلى اتخاذ  قراري النهائي بالانتقال للقاهرة للإقامة الدائمة وافتتاح أحدى تلك المشروعات التجارية التي أثبتت نجاحها على يد الكثير من الأقارب كالمخابز على سبيل المثال,  لكن بالطبع كنت في حاجة لمبلغ من المال يساعدني في ضربة البداية على الأقل فاقترحت بيع بيتنا القديم المتهالك والاستفادة بثمنه للانتقال وبداية عملنا الخاص. بدون الخوض في المزيد من التفاصيل التي قد لا تهمك  فلقد أدى انفعال والدي أثناء شجارنا -الذي نشأ عند محاولتي عرض الفكرة عليه- إلى مرضه الشديد وتمضية أيامه الأخيرة في المستشفى عاجزا عن الحركة أو الكلام بسبب تلك الجلطة اللعينة حتى اختاره الله للراحة.

مررت بوقت عصيبا من الشعور بالذنب والندم و المسئولية عن ما أصاب والدي الحبيب! ولكن مثل أي شيء أخذ الشعور في الخفوت تدريجيا حتى أصبح غير مسموعا تقريبا..وفي النهاية قررت تنفيذ خطتي المؤجلة والارتحال للقاهرة حيث أن جميع العوائق قد أزيلت أو هكذا ظننت وقتها.

***

كنت قد انتهيت تقريبا من حزم مقتنياتي القليلة في عدة حقائب ولم يتبق  سوى غرفة والدي لإفراغها..لم ادخلها منذ رحيله لأنها دوما ما كانت تؤجج بداخلي ذاك الشعور الخانق والذي كنت أحاول جاهدا القضاء عليه  طوال الفترة الماضية, كنت أمني نفسي أنها الخطوة الأخيرة لنهاية تلك المرحلة وبداية مرحلة جديدة في حياتي مزدحمة بالنجاحات مؤجلة ولكنني كنت واهما! تبدل كل شيء عندما وجدت ذلك الخطاب الموجه لي من والدي , كان مخفيا داخل صندوقه الخشبي الصغير والذي يحوي  ذكرياته العزيزة والتي يقوم بتجميعها منذ شبابه كما أخبرني في احد المرات.و حتى لا أطيل عليك فإنه كان لا يحتوي أيضا على الكثير من السطور و لكنها كانت كافية لتغيير كل شيء .

***

ضربات  قليلة أخيرة واكون قد انتهيت من فتح  مدخل في الحائط لأتمكن من العبور خلاله لداخل غرفة الكنز و التي تم أخفائها وراءه..لا أخفيك سرا أني لم اكن سأعطي لتعليمات الخطاب أي قيمة لولا التمثال الذهبي الصغير الذي وجدته في الصندوق الخشبي والذي ذكر أبي أنه شيئا لا يذكر بالنسبة للكنوز المخفية في تلك الغرفة. أسئلة كثيرة كانت تؤرقني  عن سبب إغلاقه لها وعدم إخراج الكنوز منها ولكن اكبر عيوب الخطابات انك لا تستطيع الحصول منها على أية إجابات لما قد يخطر ببالك أثناء قراءتها ! فقط تقف لتتلقى تسديدات المرسل حتى يصمت للأبد وتبدأ أنت في التساؤل بدون أي رد.

إنها كبيرة بحق! غرفة كاملة لم أعلم بوجودها طوال حياتي الطويلة في هذا المنزل .. أظن أنها هنا من البداية والحائط الذي قمت بالعبور من خلاله منذ قليل هو فقط من إنشاء والدي. أخذ الكشاف القوي يرسل ضوءه هنا وهناك, ينير جزءا  ويتيح للظلال الخروج من مخابئها بالظلام الذي ينشره بغيابه عن بقعة وجودها, سامحا لها بالانتشار لتكمل عملية أحاطتي من جميع الاتجاهات والتخطيط للحظة الانقضاض المناسبة.

تتساءل عن محتوياتها؟ّ! كانت فارغة تقريبا..حوائط قديمة للغاية تنبع منها رائحة العطن الثقيل, أرضيه ترابية مستوية..ولكن مهلا ليست كلها  مستوية..هناك جزءا معينا منها يبدو غير متسقا مع الشكل العام..لعله مكان دفن الكنز؟!..هرولت باتجاهه بعد أن أحضرت الجاروف و خلال دقيقة واحدة  كان جليا ما تم دفنه..أكوام من العظام الملقاة في مجموعات متفرقة هنا وهناك..بقايا أقمشة مهترئة أظنها كانت ثيابا يوما! لا سبائك ذهبية, لا تماثيل أثرية ولا حتى ثروة ثقافية من الكتب النادرة!  فقط عظام..الكثير منها.

***

انحنيت أتفحص ما أمامي مبالغا تقززي  و لم أجد شيء إضافيا سوى كيس من القماش المطوي بعناية على نفسه و الذي كان مدفونا بالقرب من إحدى المجموعات العظمية! أخرجت محتوياته بأصابع مرتعشة متحمسة  ولكني ما لبثت أن شعرت باليأس عندما استكشفت محتوياته! لم يكن يحوي سوى أوراق! العديد من الأوراق الحكومية ..إثباتات شخصية من النوع القديم الذي كانت تلتصق صورتك عليها بدباسة الأوراق قبل أن يشوهها ذلك الختم الأزرق كوسيلة  عبقرية للحماية من التلاعب ..وجوه لم أتعرف على أصاحبها او اسمع عنهم من قبل! لم استطع استخلاص أي عوامل مشتركة بين أصحاب تلك الإثباتات الشخصية سوى انهم جميعا بدون أي استثناءات كانوا من النساء!

ياله من ميراث غريب تركته لي يا أبي..أتمني فقط انك كنت تحبني بشدة و لذلك خصصتني بمجموعتك المفضلة والأقرب إلى  قلبك من البقايا البشرية والتي كنت عزيزة لدرجة احتفاظك بهم جوارك طوال حياتك! ثم أخذت في التفكير هل كان أبي الطيب هو النسخة الصعيدية من السفاح جاك ؟ هل هو عالم مجنون يجري تجاربه على البشر في سرية  باحثا عن الكشف الذي سيغير مصير العالم ؟ أو لعله أحد العملاء السريين و الذي احكم سيطرته على شبكة جاسوسية نسائية خطيرة واستحقوا جزاءهم العادل على يده! لا اعلم ولا أظنني سأعلم يوما.. و لكن على الأقل  يمكنني الفخر بأن أبي قد ترك لي ميراثا مختلفا..بيتا قديما بغرفة سرية..تمثال ذهبيا صغيرا لا أعرف مصدره..والعديد من بقايا العظام البشرية والتي سأمضي معها وقتا مسليا محاولا نسج الكثير من القصص عنهم وعن ماهيتك يا أبي .

تمت

اقرأ أيضاً

شبح ماري الغيور

شبح شيبيتا المظلومة

زر الذهاب إلى الأعلى