تصوير الضوء: بقلم محمود علام
اللي انتوا هتقروه في المقال ده، هو أشبه بالسحر منه للعلم.. علم متقدم لدرجة لا تستوعب، إلى حد إننا ممكن نعتبره خيال علمي..
أعتقد إنه مفيش بشري كان مُقدَر ليه إنه يشوف حاجة زي كده.. في أعمارنا القليلة القصيرة جدًا، وضعفنا وحجمنا الصغير اللي لا يذكر أصلًا في وسط الكون العملاق الأنيق، كون إننا النهارده نقدر نتكلم عن حاجة زي دي ونشوفها بعيوننا، هو في حد ذاته خيال، مستحيل كان حد من علماء العصور السابقة المشاهير أمثال أينشتاين وماكس بلانك ونيلز بور وشرودينجر ونيوتن، يقدر مجرد يتخيل إننا ممكن نعمله.. مش يشوفه رأي العين..
أنا بس حبيت أوضحلكم قد إيه انتم محظوظين، إنكم جيتوا في اللحظة المناسبة من التاريخ والزمن عشان تشوفوا وتقروا اللي جاي ده..
تشوفوا الضوء نفسه وهو بيتحرك!
خلونا نبدأ من البداية..
البداية دي كانت في مختبرات جامعة كاليفورنيا للعلوم والتكنولوجيا، أو اللي بيسموها (كالتِك Caltech)، واللي هي تعتبر واحدة من أكبر المختبرات البحثية والجامعات العلمية في العالم بأكمله، وأكثرها تقدمًا.. واللي كانت موطن للعديد من العلماء الأسطوريين أمثال ستيفن هوكينج Stephen Hawking و فرانك أوبنهايمر Frank Oppenheimer، وأيضًا مر عليها علماء مشاهير أمثال ريتشارد فاينمان Feynman وألبرت أينشتاين Einstein..
الجامعة دي فيها مختبرات علمية على أعلى مستوى عرفته البشرية منذ بداية التاريخ العلمي للبشر.. و بداخل الجامعة دي ومختبراتها العظيمة، كان في فريق من العلماء دول، تحت قيادة (ليونج وانج Lihong Wang)، رئيس قسم التصوير البحثي والعلمي في كالتِك، واللي إسمه COIL، اختصارًا لـ Caltech Optical Imaging Laboratory.. الفريق ده قدر إنه يطور تكنولوجيا جديدة، مكنتهم من إنهم يبتكروا كاميرا، تعتبر هي أسرع كاميرا على وجه الأرض، وأكثرها تقدمًا..
الكاميرا دي بتستعمل تقنية إسمها (التصوير – فيمتو Femto – Photography).. أيوه الفيمتو بتاع أحمد زويل.. هو نفسه.. الفيمتو ده هو يعتبر جزء يعادل 1/مليار من الثانية!.. واللي قدر أحمد زويل إنه يكتشفه بتجربة علمية شديدة التعقيد باستعمال تقنيات التصوير الليزري بردو، وابتكر أول كاميرا فيمتو عشان يعمل ده، واللي نال عنها جائزة نوبل في العلوم والتكنولوجيا..
المهم.. الكاميرا المحسّنة دي بتقدر إنها تصور الفيديو بتقنية حوالي 100 مليار فريم أو لقطة في الثانية الواحدة!
متخيلين الرقم؟ الكاميرا بتلقط 100 مليار لقطة في ثانية واحدة فقط! عشان تقدروا تفهموا الموضوع بشكل أوضح، يكفي إني أقولكم إن أقوى كاميرا معروفة بتلقط الفيديوهات بسرعة 30 أو 60 أو 120 لقطة في الثانية الواحدة.. مصطلح الفريم في الثانية ده بيختصروه بـ FPS، أو Frames Per Second.. كاميرات الموبايل مثلًا بتلقط بسرعة 30 FPS.. كاميرات التصوير السينمائي القوية ممكن تلقط لحد 120 FPS، وساعات أعلى من كده بشوية صغيرين، اللي هي كاميرات الـ 4K.. لكن تخيلوا الفرق الشاسع مثلًا بين الكاميرا دي، وبين أقوى كاميرا موبايل معروفة، اللي هي مثلًا كاميرا الـ iPhone Xs.. الكاميرا الجديدة اللي سموها (T-Cup) أقوى من كاميرا الآيفون بما يعادل 3 مليار مرة!
طيب حلو أوي.. الكاميرا دي بقى بتعمل إيه بالظبط؟
بص يا سيدي..
الكاميرا باختصار في صورتها الأصلية، بتقدر إنها تلتقط 100 مليار لقطة في الثانية دفعة واحدة دون وجود مصدر ضوء خارجي. يعني مش محتاجة مصدر ضوئي أساسًا عشان تصور زي الكاميرات العادية.. بس اللي بيحصل ساعتها إنهم مش بيقدروا يراجعوا البيانات الناتجة عنها بشكل دقيق، بسبب عدم وجود أي جهاز كمبيوتر سريع بما فيه الكفاية إنه يجري 100 مليار عملية حاسوبية في الثانية الواحدة، عشان يقدر يعمل Save لكل اللقطات دي.. اللي حصل بقى عشان يقدروا يخرجوا الشكل النهائي للكاميرا، هو إنهم ضافوا لنظام الكاميرا دائرة إلكترونية تانية متكاملة.. الدايرة الإلكترونية دي هي نوع من أجهزة الاستشعار Sensors، إسمه الجهاز المقترن بالشحن، أو CCD.. وده وظيفته إنه يقدر يساعد في حفظ اللقطات دي، بمساعدة مصفوفة Matrix أو خوارزمية رياضية محسنة لإعادة بناء البيانات اللي الكاميرا بتلقطها.. الخوارزمية دي بتجمع البيانات من الجهازين المقترنين بالشحن، أو العدسة بتاعت الكاميرا نفسها، عشان تقدر إنها تقدم صور بجودة أعلى، وبسرعة أعلى تتناسب مع سرعة التقاط الفريمات..
العلماء دول استعرضوا التحسينات دي في صورتها النهائية، بتصوير فيلم لومضة ليزر، سرعتها هي سرعة الضوء ( 299,792,458 م/ث) في فترة مدتها (بيكو ثانية Pico Second) تتحرك عبر الهواء في مسافة ميلليمتر واحد! البيكو ثانية بالمناسبة هي جزء من تريليون جزء من الثانية..
الفيديوهات دي هتلاقوها على يوتيوب، في قناة إسمها The Slow Mo Guys، وهي أهم حاجة في المقال أصلًا.. متعوا عينيكم برؤية أشياء لم يكن مقدرًا لبشر ف يوم إنه يشوفها بعيونه الفانية..
طيب إيه فايدة تقنيات التصوير دي بقى؟
الفوايد مهمة جدًا.. وكتيرة جدًا.. على سبيل المثال، أكبر تطبيق لتقنيات التصوير دي، هيكون في المجال الطبي.. خصوصًا طب المخ والأعصاب.. عشان التقنية دي بتَعِد بإنها تقدر تصور التفاعلات الكيميائية والإشارات العصبية بين خلايا المخ العصبية نفسها! هنقدر لأول مرة نعرف ماهية التفاعلات الكيميائية المخية بينها وبين بعض، وحتى التفاعلات الكيميائية العادية..
باستعمال تليسكوب فائق القوة، معاه كاميرا الـ T-Cup، هنقدر نغوص بداخل مكونات الذرة نفسها، ونشوف الذرات والإلكترونات وهي بتتفاعل مع بعضها! تخيلوا مدى حجم وتأثير اكتشاف زي ده!
اكتشاف هيقدر إنه يغير شكل الطب في السنين اللي جاية، ويعالج أمراض مستعصية، ولأول مرة يفهمنا بشكل كامل طريقة عمل المخ والخلايا العصبية.. وده اللي هيفتح لينا المجال إننا نقدر نطلق طاقات المخ البشري لحدها الأقصى.. وتطبيقات ده كتير جدًا محتاجة مقال لوحدها..
ده غير إن مستقبلًا، علماء المشروع ده عندهم تقنية شغالين عليها حاليًا، هتقدر إنها تزود قدرة الكاميرا أضعاف مضاعفة، لحد ما توصل لإنها تصور اللقطات بسرعة تصل لحوالي كوادريليون لقطة في الثانية! عشان تتخيلوا الرقم ده، هاتوا آلة حاسبة جنبكوا، لإنه مينفعش يتكتب.. إكتبوا بس على الآلة الحاسبة 10 أُس 15..
سرعة زي دي في الواقع هتقدر إنها لأول مرة تكشف لينا عن الأسرار اللي بقالنا قرون بنحاول نعرفها، عن طريقة تفاعل الضوء مع المادة.. وده مش بس هيفتحلنا الطريق لدراسة الثقوب السوداء.. لأ ده هيفتح الطريق لكشف أسرار الفيزياء كلها، ومعاها هنقدر إننا فعلًا نفهم الكون، ونطوعه لينا.. ده شيء مش محتاج شرح.. هسيبكوا تستوعبوه..
عاوزكم بس تفتكروا إن كل الاكتشافات دي عمرها ما كانت هتبقى حقيقة، ولا هتتم، من غير مجهودات عالم عبقري فتح الطريق لكل ده لما اكتشف الفيمتو ثانية Femto Second، هو العالم المصري العظيم الدكتور أحمد زويل، الفايز بجايزة نوبل للعلوم والتكنولوجيا عن اكتشافه ده، سنة 1999..
العالم اللي إحنا لحد دلوقتي لسه بنشوهه، وبنتفه من فتوحاته في مجال العلوم والفيزياء، وهو في الواقع واحد من آباء التصوير الحديث، والفيزياء التطبيقية في الولايات المتحدة الأمريكية و أوروبا..
يومًا ما، مصر كانت عظيمة بعلماءها وتعليمها.. كنا بنصدر العلم والفيزياء، والعباقرة للعالم.. لكن دلوقتي إحنا فين؟ إحنا مالناش وجود أصلًا.. والزمن لوحده هو اللي هيحكم في المستقبل علينا، وعلى عصر الجهل والاضمحلال والتردي الثقافي والعلمي اللي بنعيشه حاليًا..
وحده الله ومشيئته هو اللي يقدر يخرجنا من كبوتنا دي دلوقتي..