
جزيرة بوشيب (الجزء الأول)
اعتدت السفر برفقة أصدقائي بحرًا، فقد جمعتنا مدرسة واحدة وشارع واحد، فهم أكثر من الإخوة بالنسبة لي، عز وأيمن كنز حقيقي دائمًا ما كان يطلق علينا الثلاثي المرح (عز وأيمن وعمرو)، خاصةً لمشاركتنا لأغلب الاهتمامات سويًا، منها نفس الاهتمامات لأي شاب جامعي، مثل لعب الكرة والألعاب الإلكترونية وما إلى ذلك، ومنها اهتمامات مميزة مثل الصيد، الغطس، تعلم الرماية والقراءة وغيرهم.
كان لنا كل أسبوع رحلة بحرية على متن مركب والد عز، نستغل كوننا سكان محافظة تطل على البحر الأحمر ونذهب لمناطق عدة للغطس والتمتع بالطبيعة الخلابة والصيد، نقضي يومين أو ربما ثلاث وسط الأمواج ومن ثم نعود.
قررنا ذات يوم أن نذهب خارج البلاد، يجب أن نستثمر حبنا للبحر والغطس في المغامرة، أتممت بعض من البحث واتصلت بعز وأيمن ودعوتهم على العشاء الذي طلبت من أمي أن تعده سلفًا، وعرضت عليهما فكرة إيجار قارب كبير والسفر به لاستكشاف مناطق جديدة، فقد كنا تقريبًا قد زرنا كل المحافظات المطلة على البحر الأحمر، وأود أن نطور صداقتنا لصداقة مثمرة، وأخبرتهم أن علينا أيضًا عمل قناة على (اليوتيوب) لتوثيق رحلتنا وكسب المال من المشاهدات.
فكانت الخطة هي إعداد أوراقنا وحجز تذاكر طيران لدولة المغرب، سنقضي هناك أسبوعًا للسياحة والتمتع بجمال البلد ثم نستأجر مركبًا لمدة أسبوع آخر لاستكشاف المحيط الأطلسي.. وافق عز وأيمن على الفور فنحن نتشارك نفس سمات حب المغامرة.
بعد عدة محاولات في استرضاء أهلي وكذلك أيمن، ولكن وافق واد عز على التو لأنه يحب المغامرة مثلنا، أعددنا أوراقنا وحقائبنا وحان ميعاد السفر، توجهنا لمطار الغردقة الدولي وحلقنا في الجو لمدة تقارب الست ساعات، كان والد عز ذو نفوذ ولذلك استأجر لنا شقة في منطقة سياحية جميلة، زرنا الكثير من الأماكن وصنعنا الكثير من الأفلام لتوثيق رحلتنا ولرفعها على قناة اليوتيوب الخاصة بنا والتي حققت الكثير من المشاهدات، خاصةً تلك التي يقوم بها أحدنا بالقفز في شلال أو أيًا من الحركات الخطيرة.
انتهى أسبوع إقامتنا في البلد، وقد حجز لنا والد عز أيضًا مركب فخم وقد تساهل الرجل معنا في مبلغ التأمين والإيجار ولم يأخذ منا أوراق لأنه على علاقة جيدة بوالد عز، كان للرجل بضعة تنبيهات علينا وهي أن بعد ثلاث أيام سيكون هناك عاصفة ولا يجب أن يكون أحد بالمحيط، وأن علينا أن نعود بعد يومين للراحة ومن ثم استكمال رحلتنا البحرية عندما تزول العاصفة، وأعطانا ورقة بالمستلزمات التي يجب أن نشتريها من معلبات للأكل ومياه للشرب وما إلى ذلك، اشترينا كل شيء وبدأنا أول يوم بالمحيط ومعنا خريطة بأماكن تصلح للغوص ولكن قررنا أن نبتعد أكثر قليلاً، فقد قلنا إنه يجب أن نذهب خارج خط السير المعروف فهكذا تكون المغامرة.
انطلقنا وضربنا بالخريطة عرض الحائط، وفي منتصف الوقت توقفنا للسباحة قليلًا وللصيد، ثم نكمل بالمركب في المحيط، ونتوقف في أماكن ونغوص بها وهكذا لمدة يومين.. والآن من المفترض أن نعود لأن العاصفة قادمة، استخدمنا البوصلة وتحديد الموقع على الهاتف لنعرف طريق العودة ولكن مر وقت طويل ولم نرى أي بوادر للشاطئ! ها نحن تائهون رغم البوصلة وخريطة الهاتف، بعد عدة محاولات فاشلة في إيجاد شبكة للاتصال بأحدهم، واكتشفنا أن الخريطة المفتوحة على الهاتف كانت خريطة خاطئة، ولكن هناك أمر غريب! لماذا تخطئ البوصلة؟ لماذا تهتز إبرتها هكذا؟!!
أتى الليل وبدأت العاصفة أن تكشر عن أنيابها وتلطم بنا الأمواج من كل جانب وعكفنا على إزاحة المياه من داخل المركب طوال الوقت خوفًا من الغرق، عمل ثلاثتنا أقصى ما بوسعه، هدأت العاصفة قليلاً مع ساعات النهار الأولى، وافترشنا الأرض من كثرة التعب لم يعي أيًا منا متى نام، ما هي إلا ساعات قليلة أو ربما كثيرة لا ندري فقد كان إغماء أكثر منه نوم عادي ما مررنا به، استقظنا على مياه المحيط على وجهنا تيقظنا لنجد أن العاصفة تبدأ من جديد، ولكن في محاولاتنا هذه المرة لإنقاذ المركب من الغرق زلت قدمي ووقعت في المحيط، هرع أيمن يلقي لي طوق النجاة وسترة نجاة، التقطت سترة النجاة ولبستها بصعوبة وسط الأمواج الهائجة، والتقطت طوق النجاة أيضًا ولكن انقطع الحبل الواصل بين طوق النجاة والمركب، لينتهي بي الحال وسط المحيط الواسع لا أدري أين أنا ولا أدري كيف سأنجو، كنا تائهين بالفعل، فكيف سيعثروا عليّ الآن؟ يا لها من مأساة…
ظللت عائم في المحيط كنت أغفو أحيانًا وأستيقظ وحل بي التعب ولا أعلم كيف نجوت من أسماك القرش بالتأكيد لا يكون من العدل أن أتوه في وسط المياه وتهاجمني أسماك القرش أيضًا.
حل بي تعب كبير خاصةً وأن مرّ عليّ ليلتين كاملتين في المياه بدون أكل أو شرب، رأيت مركبًا.. ها هو هناك جاء لينقذني.. لا إنني أهلوس مرة أخرى.
استيقظت وأسماك القرش تحوم حولي اعتقد أنها تستكشف هل أنا صالح للأكل أم لا، تذكرت أن عليّ أن أبقى ثابتًا ففعلت.. حتى انطلق سهمًا لا أرى مكان انطلاقه واخترق واحدة من أربع سمكات تحوم حولي، ففر الثلاثة الباقين، ذعرت عندنا سمعت صوت شيء ما اصطدم بالمياه، وتلفت حولي سريعًا واكتشفت أنه حبل في نهايته طوق من الخشب وألياف النخل.. تمسكت به سريعًا وتم سحبي، في وسط المسافة من مكاني لمكان النجاة كنت أسقط مغشي عليّ تارة واستيقظ تارة..
رأيت الشاطئ ورأيت أشخاص غريبي الأطوار لا أعتقد أنهم من البشر، أشكال غريبة منها كان بطول بني آدم ولكن تكسوه الشعر أولًا عن آخر، ومنها من يملك وجه شبيه بالكلب وغيرهم ولكن عندما وصلت للشاطئ ولمس جسدي رمله استسلمت للإغماء الذي داعبني طوال فترة بقائي في المياة.
وعندما استيقظت وجدت نفسي في وسط خيمة من الخوص والقش وبجواري ما لذ وطاب من مأكولات، ولكن سرعان ما تذكرت ما رأيته وأنا في طريقي للجزيرة من أشكال كائنات غريبة، انتفض جسدي وتوقعت أن تكون إحدى الجزر المسكونة بالجن والعفاريت.. ولكن قطع أفكاري أحد الأشخاص، رجل في العشرينات في مثل سني، فزعت لدخوله ولكنه تحدث باللغة العربية، فتيقنت أن البحر جرفني لإحدى الجزر القريبة من المغرب وأنا الآن في أمان، ولكن ما الذي رأيته!
قصصت على الرجل الذي يدعى (ناذر) ما رأيت من أشكال غريبة لإنسان نصف إنسان ونصف كلب وذلك الكائن المشعر، فضحك وقال كم لبست في البحر يا صديقي لابد أن الشمس أصابتك بضربة جعلتك تهلوس..
بعد أن أكلت وشربت ونمت كثيرًا، أتى لي ناذر في المساء وقال أن عائلته تود التعرف عليّ، ذهبنا إلى داخل الجزيرة وتخطينا أشجار كثيفة خلفها وعلى عكس الإنطباع الذي تراه من الشاطئ الذي يوحي أنها جزيرة مهجورة، كانت بلدة معمورة بالسكان وبيوت مكونة من طابق واحد متراصة بجوار بعضها البعض تنم عن نظام أهلها، وأطفال تركض ومحلات تجارية على الجانب الآخر من البيوت السكنية، يلبسون لبس عربي أقرب لطريقة لبس المغاربة، ولكن يوجد بهم شيء مختلف لم أقدر أن أحدده في وقتها ولكن عرفته فيما بعد…
ذهبنا إلى منزل أكبر من باقي المنازل وقال لي أن والده يكون زعيم القبيلة، كان جامد الملامح طاعن في السن ولكنه ذو بنية قوية لا أملكها أنا شخصيًا.. رحب بي وقال: مرحبًا بك في جزيرتنا، أنا (بوشيب) والد ناذر زعيم القبيلة التي تسكن الجزيرة، أتمنى أن تعجبك جزيرتنا رغم أننا غير معتادين على استقبال زوار، لأن جزيرتنا نائية بعض الشيء عن أي مكان، فقد جاء أجدادنا الأوائل لهذه الجزيرة منذ أن هبط آدم الأرض.. ثم ضحك وضحكت ولكني لم أفهم ما هو المضحك تحديدًا فقد شعرت بالإرتياب خاصةً عندما تلفت لأجد سيدة كبيرة سنًا ملامحها جامدة هي الأخرى ولكن مع ابتسامة مصطنعة تبرز أسنانها السوداء.
وقال ناذر أن هذه والدته ولكنها صماء بكماء، أشار لي ناذر أن أتبعه فاستأذنت من الزعيم بوشيب وخرجت مع ناذر، وقال لي أنه سعيد بوجودي فليس له الكثير من الأصدقاء في مثل سنه بسبب تقاليد الجزيرة، سألته ما هي تلك التقاليد، قال إن كل خمسة سنوات يجب على كل عائلة كبيرة أن تضحي بولد في سن العشرينات من أجل إرضاء الإله!! ولكن بوجودك تحل الكثير من الأشياء ولن يضطر والدي التضحيه بي!! لم أفهم وظللت أسأله ماذا يفعل وجودي، فقال لا شيء سوى أن الآن لدي صديق ولا يجب أن أرحل واتركك، لم يبرد صدري رده وأعتقد أن علامات الاستفهام خرجت خارج رأسي وبدأت تحوم فوق رأسي، ولكن أنا تائه في جزيرة نائية وأصدقائي أيضًا تائهون في وسط المحيط، ولا يوجد أي وسيلة للعودة حتى الآن فماذا أتوقع أسوء من ذلك؟!
أخذني جولة في الجزيرة، وكانت ذات طبيعة خلابة تسلب العقل قدرته على استيعاب أنها ليست قطعة من الجنة، ولكن لاحظت أن سكان الجزيرة يتحركون بطريقة ديناميكية أكثر من التصرف بطريقة طبيعية، فهم أشبه بالحشود في الأفلام القديمة يتصرفون بطريقة مصطنعة ولكن لم ألق لذلك بالًا.
سألت ناذر إذا هناك طريقة للتواصل مع أقرب مكان خارج الجزيرة أو هل هناك مركب بإمكانها إيصالي للمغرب، ولكنه تجهم وقال: لا يمكننا الاتصال بالعالم الخارجي، منذ عقود وما أن وطئت قدم أحد غريب على جزيرتنا إلا وكان يطمع في خيرها أو مستكشف أو عالم يجري التجارب علينا ولذلك قررنا أن نختفي وزرع أجدادي الأشجار التي تخفي مدينتنا عن الأنظار للمراكب ويظنون أنها مجرد جزيرة مهجورة، ثم لماذا تريد العودة هل ضايقك أحدهم، فسوف تنعم بحياة رغدة هنا وسوف نصبح أصدقاء، لا تقلق هناك العديد من الأنشطة يمكننا ممارستها لا تقلق لن تشعر بملل أبدًا، فقط أخبرني بما تحلم وسوف تجده عندنا.
أخبرته فقط أنني أريد أن أعود لمنزلي وأطمئن على أصدقائي، قال في الصباح سيأمر أن يخرج قارب للبحث عنهم، سعدت كثيرًا لعلمي أن لديهم قارب ما يمكنه الذهاب لأي مكان خارج هذه الجزيرة المريبة رغم أنني لا أعلم حتى الآن ما هو المريب بظبط!
مر يومين وأنا أعامل معاملة الملوك، حيث ملابس من الحرير وأكل ما لذ وطاب، ولكن كنت أسمع همس يحاوطني طول الوقت وحينما أتلفت على حين غرة أجد من يتبعني بنظراته من أهل الجزيرة، ما أثار الخوف في نفسي وقررت أن أسأل ناذر إذا هناك خبر عن أصدقائي فقال لا، قلت له أنني أريد منه أن يخرجني من تلك الجزيرة بدون إبداء أسباب.. ولكن أحمر وجهه وقال بصوت عالي مشروخ: لن تغادر أبدًا.. ألم تفهم بعد؟!
يتبع…