حكايات كرة القدم الإفريقية.. «الاستادات» الخلود والأبدية لأرواح اللاعبين
الاستادات.. لا يوجد دليل على حب الجمهور لشخص، أكثر من أن يطلقوا اسمه على الاستاد.. وبعيداً عن الجنرالات والطغاة الذين حاولوا أن يفعلوا ذلك، إلا أن هذه التسميات سريعا ما تسقط وتزول، ويبقى اسم المحبوب، صاحب الاسم الأول، وصاحب الحب الأول، ليطلق اسمه مرة أخرى على أكثر مكان قداسة، بالنسبة إلى محبي تلك اللعبة، وإلى مدمني الذهاب إلى موقع المعركة، كي يساهموا في مجد النادي ويشاركوا في انتصاراته.
الاستادات الإفريقية
في كينشاسا بالكونغو، استاد العاصمة بني في عام 1952، حينما كانت الكونغو تعاني من الاستعمار البلجيكي. وقد وجد المسؤولون هناك أنه من اللائق بأن يسمى الاستاد باسم استاد روي بودوان أي (ملعب الملك بودوان)، الذي تولى العرش في عام 1951، ولكن في عام 1967 تم تغيير اسم الاستاد إلى استاد 20 مايو.
وبعد سقوط نظام الرئيس موبوتو سيسي سيكو في عام 1997، أعيدت تسمية الملعب باسم استاد تاتا رفائيل أي الأب رافاييل دي لا كيثول دي ريهوف، الذي كان قد شارك في بناء العشرات من المدارس الابتدائية والثانوية، وكذلك الجمعيات والمرافق الرياضية إلى أن مات عام 1956. وبناء على إصرار من سكان كينشاسا، أعيد جثمانه الذي تم دفنه في بلجيكا إلى الكونغو، حيث دفن هناك في 28 يوليو 1956، ولم يجد الكونغوليون طريقة ليعبروا فيها عن مدى حبهم، سوى أن يطلقوا اسمه، تاتا رافائيل، على ملعب كرة القدم، تلك اللعبة التي يعشقونها، تخليدا لذكراه.
الأسماء المعلقة بين الملعب والسماء
ربما يعتقد البعض أن تلك الملاعب لا تحمل سوى العشب والمدرجات ومقاعد الاحتياطي وعارضات وقوائم المرمى، متناسين أنها تحمل ما هو أهم من كل هذا، إنها الأسماء المعلقة بين الملعب والسماء، تلك الأسماء التي تظل مخلدة بذكرها في كل مباراة تلعب.
في مصر يفطر المصريون الفول، ويتغدون بمشاهدة مباريات الكرة، ويتعشون بأغاني أم كلثوم. استاد القاهرة والذي يعتبر الاستاد الأهم والأكبر لمباريات كرة القدم، تسمّى باسم جمال عبد الناصر في بدايته، ثم قررت الدولة أن تزيل اسمه من فوق الاستاد وتطلق عليه اسم استاد القاهرة، مثلما أزالت اسمه أيضا من فوق أشياء أخرى عظيمة، كان قد ساهم في بنائها، وظل المصريون لسنوات طويلة يقولون استاد ناصر.
ولكن هناك استادين لم تستطع الدولة أن تمحو اسميهما، وتضع أسماء أخرى عليها، إنهما استادا مختار التتش وحلمي زامورا، فهما الاستادان الوحيدان في مصر اللذان يحملان اسمي لاعبي كرة قدم، من أبناء الطبقة المتوسطة واللذين لم يشاركا في أي شيء غير كرة القدم. لم تستطع الدولة أن تغيرهما إلى استاد الأهلي والزمالك، فظلا صامدين بذكراهما تخليداً لكل تلك السعادة التي منحاها في يوم ما لملايين الأشخاص من الشعب المصري.
الشجعان في العصور الغابرة
في المملكة الغامضة للكرة، حيث يكافأ محرزو الأهداف كما كان يكافأ الشجعان في العصور الغابرة، يمنحون المجد ويخلدون على كل لسان بذكرهم طوال الوقت.
في مملكة الأشانتي في غانا، حيث ينام الأطفال وكل أحلامهم تدور فقط حول كرة القدم والقائمين والعارضة وحراس المرمى الشبيهين بالمردة، والحكام المرتدين عباءات السحرة السوداء، هناك فقط، حينما تذكر كرة القدم، يبتسم الجميع ويحنون رؤوسهم باحترام بالغ لما ذكرته.
بابا يارا، كان أحد هؤلاء الفرسان، الذي ما زال الأطفال يحلمون به، بابا يارا والذي كان يطلقون عليه ملك الأجنحة، كان بطل أساطير كرة القدم في الأشانتي إن لم يكن في غانا كلها.
الكأس الذهبية
لم يبدأ بابا يارا علاقته بالرياضة بالركض أو الوثب أو السلة أو الملاكمة كالكثير من أبطال إفريقيا الآخرين، لقد بدأ فارسا يمتطي الخيل ويقفز به من فوق الحواجز. كان فعلا كبطل أسطوري، قبل أن يبدو كلاعب كرة قدم.
منحه نادي أكرا تورف البداية اللائقة، والخطوة التمهيدية للاعتراف به كلاعب كرة قدم، وذلك ما بين عامي 1950 – 1955، إلى أن رأته قبيلة الأشانتي، حيث كانوا ينتظرون ذلك الفارس الذي سيأتي من أجل أن يمنحهم الكأس الذهبية، ويعيد إليهم مكانتهم كقبيلة للمحاربين.
وحينما شارك لأول مرة مع منتخب غانا، كانت مباراته الأولى ضد نيجيريا، وحينها فاز النجوم السمر بسبعة أهداف نظيفة على الأفيال، وأحرز بابا يارا حينها هدفين، وشارك في صناعة أربعة أهداف.
في عام 1963 لم يكن بابا يارا قد تخطى السادسة والعشرين من عمره، وبعد مباراة ضد نادي فولتا في مدينة كباندو، أصيب بابا يارا في العمود الفقري في حادث سيارة، وتم نقله إلى المستشفى، حيث تبينت خطورة الإصابة، فتم نقله إلى مستشفى أفضل في إنجلترا، حيث عاد من هناك بعد ثلاثة شهور على كرسي متحرك.
ذكريات الأشانتي
بابا يارا ولمدة 6 سنوات، كان مصاباً بالشلل ولا يملك القدرة على الحركة، وخلال تلك السنوات لم يكن بابا يارا يتوقف عن الحلم بأن يحرك قدمه إلى أن مات في نهاية المطاف، قبل أن يرى الأشانتي يحملون كأس أفريقيا في عام 1970، مات بابا يارا قبل المباراة النهائية بما يقرب من عام، تاركا لأطفال الأشانتي ذكريات وأهدافاً لا تنسى.
وبعد ستة وثلاثين عاما، تمّ تسمية ملعب كوماسي الرياضي باسم بابا يارا تخليدا لذكراه وتكريما لما منحه لناديه، حتى اللحظة الأخيرة من حياته.
في مالي، وذلك في عام 1898، كان الفرنسيون يدكون جدران مدينة سيكاسو بوابل من المدفعية، حيث كان تيبا تراوري حاكم المدينة وملك إمبراطورية كينيدوغو التي كانت عاصمته سيكاسو، قد مات أثناء دفاعه عن المدينة ضد الفرنسيين. في ذلك الوقت كان أخوه الأكبر بابيما تراوري يخوض الأدغال ويقطع الطرق نهارا وليلا من غينيا، كي ينقذ أخيه وينقذ المدينة من الجيش الفرنسي.
استاد تراوري
وحينما وصل إلى سيكاسو كان الفرنسيون على وشك الدخول إلى المدينة. بابيما تراوري، رفض الاستسلام للقائد الفرنسي وأمر حراسه أن يقتلوه وألا يدعوا الفرنسيين يأسروه، وهو عمل لا يزال يحتفل به إلى اليوم في مالي، كفعل مقاومة ضد الاستعمار. في عام 2001، قام الماليون بإنشاء استاد في سيكاسو، ولم يجدوا أفضل من بابيما تراوري كي يخلدوا اسمه ويضعوه على لافتة الاستاد.
موديبو كيتا، أحد الأفارقة الذين حملوا شعلة التنوير والتغيير والاستقلال، هو المؤسس الأول لدولة مالي، وصاحب المشروع السياسي والثقافي والاقتصادي لكي تخرج من ظلمات التبعية إلى شمس الحرية. موديبو كيتا أول رئيس لمالي المستقلة، وصاحب الشجاعة في تحدي فرنسا طوال فترة رئاسته، كما كان من أهم المؤسسين والداعمين لمنظمة الوحدة الإفريقية، وأحد رجالات الأفرقة والاعتماد على الذات من دون اللجوء إلى المؤسسات الاقتصادية الدولية، لكنه لم يكن محبوبا من الجنرالات، الذين كانوا جزءا من المؤسسة الأوروبية الاستعمارية، ومن ثم أصبحوا ممثلين لها بعد رحليها عن إفريقيا.
في نوفمبر من عام 1968 قام الجنرالات بانقلاب عسكري على موديبو كيتا، وتمت الإطاحة به، واستلم السلطة الجنرال موسى تراوري (الذي قام بعد ذلك بحل الأحزاب وإيقاف العمل بالدستور).
ولما كان موديبو كيتا يتمتع بشعبية جارفة عند الشعب المالي، تم القبض على موديبو كيتا وإيداعه سجن كيدال في أقصى شمال البلاد، وبقي فيه حتى عام 1969، وظل سجينا فيه حتى تم نقله إلى زنزانة في ثكنة بارا ادجيكوراني في باماكو عام 1977، حيث تم تسميمه بعد ذلك بشهور قليلة، ليتم التخلص منه في ظل الظروف التي كانت تعصف بمالي من جراء الحكم العسكري وفساد الجنرالات.
وصباح يوم 16 مايو، علم الشعب المالي بموت زعيمه من خلال خبر مقتضب في الإذاعة الوطنية المالية التي أشارت إلى أن موته كان بسبب إصابته بالتهاب صدري مات على إثره. لكن كل المعلومات ترجح بأنه مات بجرعة من السم، إذ أرغمه الجنود الموالون للجنرال موسى تراوري على شربها.
استاد موديبو كيتا
في عام 1963، وبالتعاون مع الاتحاد السوفيتي في تلك الحقبة، تم بناء استاد موديبو كيتا من أجل استقبال المباريات المهمة والرسمية. وبعد انقلاب موسى تراوري، تم محو اسم موديبو كيتا من على كافة منشآته كما هي العادة في كل إفريقيا.
لكن الشعب الذي أحب موديبو كيتا، ظل يربط اسمه بالاستاد طوال الوقت. ونتيجة لتزايد الغضب الشعبي ضد موسى تراوري، والذي وصل إلى درجة الثورة، تمت إعادة الاعتبار لموديبو كيتا عام 1987، قبل الإطاحة بموسى تراوري في عام 1991.
ومن خلال الثورة الشعبية، تم القبض على موسى تراوري. وفي الوقت الذي كان يتم الإعلان عن جرائم موسى تراوري التي لا تحصى في حق الشعب المالي، وفي الوقت الذي كان اسمه مرتبطا باللعنة والخيانة، كان اسم موديبو كيتا يلمع فوق استاد باماكو، وينظر إلى المسيرات والمظاهرات بفخر.
البساط الأخضر
صمويل ليبي، الذي ولد في عام 1936، ولاعب نادي أوريكس دوالا في الخمسينات والستينات، صمويل شارك زملاءه في البساط الأخضر للحصول على خمسة ألقاب للدوري الكاميروني وثلاثة ألقاب لبطولة الكأس، ومثلها في بطولة إفريقيا للأندية البطلة.
كان كل الذين يرونه يؤكدون على قدرته غير العادية في رؤية الملعب بالكامل، إضافة إلى قدراته القوية التي كانت لا تفسر، كوتو كولبيرت، زميل ليبي في تلك الفترة يحكي عن حادثة من تلك الحوادث التي اشتهر بها ليبي: “خلال المباراة التي كنا نلعبها أمام فريق إديا، حصلنا على ركلة حرة مباشرة من خارج منطقة جزاء الفريق الخصم. ليبي كان هو المتخصص في تلك الركلات، فكنا نتركها له. وحينما سدد ليبي الكرة، اصطدمت الكرة بالعارضة، ومن قوتها كسرت العارضة”.
أساطير كرة القدم
ذاع صيت ليبي في كل أرجاء القارة. كانت الأساطير والحكايات تدور في الملاعب قبل أن يخطو فوقها. كان الجمهور يقسم بأن ليبي في إحدى المرات سدد بقدمه كرة تنس في الهواء، ولم تسقط من قوتها إلا بعد أربعة أيام من تسديدها.
المارشال، القائد، يموت فقيرا، في عشية عيد الميلاد من عام 1985 في مدينة دوالا، التي خلدها في البطولات ومنحها عصرها الذهبي.
الاستاد الذي بني في عام 1958، وكان يعتبر كواحد من الملاعب الرئيسية في الكاميرون، لم يجد من عاشوا كرة القدم في الكاميرون شيئا يردون به على ما قام به ليبي، سوى أن يطلقوا اسمه على ذلك الاستاد. هناك فقط تجد روح صمويل ليبي السكينة والراحة، حيث تركض في أنحاء الملعب، تسدد وتحرز الأهداف إلى ما لا نهاية.
الاستادات في إفريقيا، ليست مباني إسمنتية، تحتل جزءا من الفراغ، إنها الخلود والأبدية لأرواح اللاعبين الذين يأتون حينما يغادر الجميع بعد المباريات، كي يقوموا بما تعودوا عليه طوال سنوات لعبهم كرة القدم، يلعبون ويلعبون حتى يتعبوا، وعندما يتعبون يرفعون عيونهم إلى حيث اللافتات التي تحمل أسماءهم، ويبتسمون.