تاريخ

حينما تمثلت العدالة في أنثى

حينما تمثلت العدالة في أنثى
كتبت- رنا مسعد:

هل تخيلتم يومًا الحياة بدون متناقضات؟ أو تسائلتم ماذا لو كانت الدنيا خير دائم أو شر مطلق؟

هل توقفتم لتسألوا من أين جاء الخير والشر؟ متى؟ أو كيف كان سيبدو العالم بدون توازن قوى العدالة والظلم؟

هل عرفوا البشر قديمًا هذه التساؤلات؟ وإن عرفوا بالفعل فكيف كانت نظرتهم في الإجابة عليها؟

إن لم تحصلوا على إجابة ما فعليكم بالبحث، ولذلك، إليكم بداية الخيط في مقال اليوم، فالبداية من “كمت”، أيّ من مصر القديمة.

في معتقدات قدماء المصريين، العالم كان في حالة فوضى متصلة وحينما خُلقت “ماعت” تحقق التوازن بين الفضيلة والرذيلة والخير والشر وغيرهم من المتضادات.

كانت “ماعت” إلهة الصدق والمثالية وربة للحق والعدل وتمثل الصفات الإيجابية التي لابد وجودها في الحياة لتستقيم وتستمر.

ظهرت في النقوش على المعابد وفي المقابر بهيئاتٍ عديدةٍ واقفة أو جالسة، يعلو رأسها ريشة النعام المميزة لها والتي أحيانًا كانت تمسكها في يدها. وعرفت كزوجة للمعبود “چحوتي” رب الحكمة.

وبرغم شهرتها وأهميتها في حياة المصريين إلا أنهم لم يشيدوا لها معابد خاصة لعبادتها، وإنما أخذ مفهوم ماعت بالتعمق في حياتهم بشكل كبير.

صورة توضح هيئة ماعت:

D2A51877 10AD 4F69 A008 971EC47C5AD4

عن مفهوم ماعت:

كانت ماعت فكرة مجردة، هي الحق والعدالة والحقيقة والنظام، من دونها يتحول العالم إلى شر مطلق ويتهدم الكوّن ويتحول نظامه إلى عبث وفوضى.

ومن هنا كان يحاول المصريين تطبيق مبادئها في حياتهم حتى ترضى عنهم فتحفظهم وتحرس الكون واستقراره وأيضًا لإيمانهم بقوة تعاليمها.

وكثيرًا ما تم تصوير الملوك في النقوش وهم يُقدمون تمثال على هيئة ماعت كقربان للآلهة الأخرى، كدليل على أن الملك يقوم بوظيفته على الأرض ويطبق العدالة وبذلك تستمر ماعت وتواجه الفساد وغيره من المُسيئات.

وكذلك رجال القضاء كانوا يلقبون بكهنة ماعت، وكبير القضاة كان يضع حول عنقه تمثالًا صغيرًا لها يرمز به لوظيفته، كما حظيت هذه الربة بشهرةٍ وتقدير كبير في أوساط المتعلمين، لأنها ببساطة كانت تدعم وجود الفضيلة على الأرض وهي ما تساعد على السموّ الإنساني والكوني أيضًا.

وتأثر العامة بها وكانوا دومًا في حاجة لها نظرًا لوجودها في محاكمة المتوفي بعد الموت، حيث قلبه يوزن أمام ريشتها وعلى أساس ذلك يتحدد هل سيتمكن من العبور  للعالم الآخر وينعم بالخلود أم لا، فالأمر يتوقف على لمن سترجح الكفّة، ريشة ماعت أم قلبه المثقل بالذنوب؟

صورة للملك سيتي الأول وهو يقدم تمثال ماعت كقربان:

C7542F06 40D8 45A7 BA32 9A46D8B60C05

فماعت معبودة قديمة جدًا واعتبروها قديمة قدم الكون نفسه، ولم تكن قريبة وذات أهمية للبشر فقط، بل مهمة وقريبة من بقية الآلهة الخالقة، كذلك لأنها في اعتقاد المصريين عاشت بين المعبودات منذ خلق الكون ووفرت لهم الحماية والحياة المتجددة.

قديمًا قالوا عنها:

“إن ماعت تُحيط بالخليقة كلها وبالبشرية”

“إن كل من يقلل الكذب يُعزز ماعت، ومن يدعم الخير يمحو الشر كالشبع عندما يأتي يقضي على الجوع، والكساء يقضي على العري، والماء الذي يطفئ الظمأ”

“إن ماعت ضرورة مثل الهواء الذي يتنفسه الناس، إن ماعت نسمة هواء للأنف”

“تحدثي يا ماعت، نفذي يا ماعت ذلك، لأنك عظيمة وقوية وخالدة”

“إن ماعت تحفظ هذا العالم الصغير معًا وتجعله في جزء تكويني لنظام العالم”

وفي النهاية، لقد رحل زمن قدماء المصريين ورحلت عقائدهم معهم، ولكن تبقى الأفكار الإنسانية النبيلة صديقًا مشتركًا بين عصرنا وعصرهم، لن يختلف عليها إلا من تجرد منها قهرًا.

زر الذهاب إلى الأعلى