قصص الرعب

حوار

حوار

تابعنى الملايين من الناس و أنا أقتحم عالم الدجالين و المشعوذين. لم يكُن الغرض من
البرنامج التلفزيونى هو إبهار الجماهير, بالعكس. كان كُل رغبتى إظهار مدى كذب هؤلاء الأفاقين المُدعين. فلا وجود للسحر و المس, لا وجود للجِن و العفاريت. حتى قابلت من أقنعنى بذلك, أو بمعنى أصح…أرغمنى على الإقتناع!

أنا “أيمن النحاس”, مذيع بإحدى القنوات الخاصة. لدى برنامج تلفزيونى يعُرَض إسبوعياً يسمى “إختراق”. برنامج مُختَص بالظواهر الغريبة. الموسم الأول فاق نجاحُه التوقعات, مروراً بالموسم الثانى. و بعد تصوير أولى حلقات الموسم الثالث, ظهر على الساحة شخص ما يدعى “سليمان المُطَلِع”. رجُل صاحب كرامات (كما يطلق عليه أتباعُه). أبهر العديد و العديد من الناس, تركوا المستشفيات و الأطباء و توجهوا إليه طالبين العلاج. أثر هذا الرجل بالسلب على المُجتَمع, و أثر بالسلب على البرنامج التلفزيونى….إلى أن حدثنى رئيس القناة:

– أيمن, شوفلك حل فى الموضوع ده! سليمان الزفت ده طلعلنا منين؟ البرنامج بقى فى النازل!

-يا فندم و أنا فى إيدى إيه أعملُه بس؟ ده مش بس غطا على البرنامج, ده كمان أغلب الدجالين و المشعوذين بقوا بيطلبوا منه العِلم! عايزين يستفيدوا من خبرات سعادتُه!

– أنا مليش دعوى بالقصة دى يا أيمن! إتصرف و شوف هتعرف تعمل إيه…البرنامج بيقع يا أيمن!

– مممم…أنا عندى فكرة! إيه رأى حضرتك لو نستفيد منه؟ يبقى هو نجم الحلقة الجاية؟!

– هتطلب منه يطلع فى حلقة يا أيمن عشان تكشفُه قُدام الناس؟! إزاى يعنى؟ ده اللى بيحبوه ياكلونا أكل!

– لا لا لا, مش هكشفُه ولا حاجه. أنا هعمل حلقه معاه نتكلم فيها عن مجدُه و طريقتُه فى العلاج…هحسِسُه إن إحنا بنعلى نجمُه قُدام الناس…و أكيد هيُقَع زى… ما غيرُه وقع!

و قد كان, أخذت موافقة رئيس القناة و بدأت أن أجرى إتصالاتى لأصل لهذا المشعوذ المُتكَبِر. و بالفعل, إستطعت أن أصل لمن يُسمى (بمدير أعمالُه). تركت رقم هاتفى, ووعدنى أن يتم الإتصال بى فى أسرع وقت.

و خلال يومان, فى تمام الثامنة مساءاً…جائنى إتصال هاتفى:

– ألو, مين معايا؟

– أستاذ أيمن, مع حضرتك “سليمان المُطَلِع”.

– أه…أهلاً أهلاً يا شيخ سليمان, التليفون نور يا راجل, إنت بنفسك بتكلمنى!؟

– أنا بكلمك بناءاً على طلبك…مش حضرتك عايز تشوفنى و تعمل لقاء معايا؟

– أنا أتشرف طبعاً يا شيخ سليمان, أنا جاهز اى وقت….. حضرتك شوف الوقت إللى تحبُه.

– دلـــــوقــــتـــــــى!!

قالها بصوت مخيف, مُرعِب! صوت غليظ بعيداً كُل البُعد عن أصوات البشر! و فجأة وجدتنى كمن يهوى من فوق جبل! جسدى يسقط لأسفل بشدة و بسُرعة فى هاوية مُظلِمة لا تحمل أى تفاصيل واضحه, غير اللون الأسود. لم يسعنى فِعل أى شئ سوا الصُراخ, الصُراخ فقط! ثُم إرتطمت جالساً على كرسى ضخم! و أخذتُ ألهث كمن كان يركُضُ لأيام فى الصحراء.

بعدما تمالكتُ نفسى و إنتظمت أنفاسى, أدركتُ بعدها أننى فى غُرفة قديمة الطراز, تعود لمئات السنين. كأننى فى قصر من قصور الملوك القُدامى. و أمامى, يجلسُ شخص حاد الملامح, مُبتسم إبتسامة غريبة, خبيثة. يرتدى بدلة سوداء اللون و قلادة ذهبية غريبة الشكل. ملامح الرجُل تدُل على أنُه فى منتصف الأربعينات…أخذ ينظُر لى فى ثبات….

– ح..حض..حضرتك….!!

– أيوة…أنا سليمان المُطَلِع يا أستاذ أيمن. معلش أنا أسف على الطريقة إللى جبتك بيها هنا, تقول إيه بقى؟ مشعوذ…ههههههه!!

– إزاى؟ أنا جيت هنا إزاى؟!

– أنا نقلتك من البُعد إللى إنت كُنت فيه, للبُعد ده…كدة أسرع يا راجل بدل زحمة الشوارع…ها…تحب تشرب إيه؟

– ممم…ميه…عايز ميه!!

لم تمُرُ ثوانى على طلب المياه, حتى بدأت فى سماع صوت خطوات ثقيلة قادمة من خلف سليمان. فوجئت بشخص أزرق البشرة, مطموسة ملامحُه. يحمل كأس المياه, إقترب ووضع الكأس على المنضدة, و عاد من حيث أتى!

– ممم…مم…مين ده؟!

– إهدا, إهدا يا أستاذ أيمن…ده خادم من خُدامى, متقلقش…ها…تحب نبدأ الحوار إزاى؟

حاولت تمالُك نفسى قدر ما إستطعت للحفاظ على مهنيتى, أخذتُ نفساً عميقاً…و بدأت الحديث:

– حضرتك بتشتغل فى الموضوع ده من إمتى؟

– أنهى موضوع بالظبط؟ التحضير؟ الأعمال؟ السِحر السُفلى؟ فك المندل و رؤية المُستقبل؟

– هو حضرتك بتعرف تعمل كُل ده؟

– على حسب المحتاج ما بيطلُب…كُل واحد و ليه إحتياج لشئ معين. فى إللى بيحب يشوف إيه إللى هيحصل فى المُستقبل, فى إللى بيحب يأذى حد مضايقُه…هكذا.

– و حضرتك بتعرف تحقق دايماً المطلوب؟

– دايماً بنجح! مفيش مرة إتطلب منى حاجه و معملتهاش…الغريب فى الموضوع, إن إللى بيطلبوا أذى الناس أكتر بكتير جداً من اللى بيتعالجوا…الناس بقيت شياطين يا أستاذ أيمن هههههه!!

– بتشتغل فى الأمور دى من إمتى؟

– مش فاكر…أصل الموضوع ده من زمان أوى!

– زمان؟ زمان من قد إيه تقريباً؟

– مقدرش أقولك تحديداً…تقريباً 200 أو 300 سنة!!

– قصدك العائلة ؟ جدود حضرتك يعنى إشتغلوا فى الموضوع ده؟

– لا لا…..أنا..أنا إللى بدأت أشتغل فى الموضوع ده!

نزلت كلمات الرجُل كالصاعقة على رأسى. أنا الأن أجلسُ أمام شخص على قيد الحياة مُنذُ أكثر من ثلاثمئة عام. و لكن سرعان ما تمالكت نفسى أمام هذا الشيطان…و خرجت الكلمات منى بكُل ثقة و قوة و أنا أقول:

– حضرتك عايز تقنعنى إنك عايش من 300 سنة يا شيخ سليمان؟

– لا أنا مش عايز أقنعك بأى شئ…إنت بتسأل و أنا بجاوب. تصديقك ليا من عدمُه مش مهم فى أى حاجة…إنت إللى طلبت تعرف.

-مين علمك المهنة دى؟ يعنى, أكيد فى حد إستفدت منُه من الناس.

– لا…هو الصراحة أنا متعلمتش حاجه من أى بنى أدم. أنا إللى ثقفت نفسى بنفسى. و لما بدأت أتوغل فى بحر العِلم ده, قولت أكيد بدل ما حد ينقل الثقافة دى ليا و يكون طريقته تشوبها أى شائبة, أفضل شئ إن أنا أخد من المصدر…الجِن!

– حضرتك إتعلمت السِحر من الجِن؟

بالظبط, أنا لقيت إن أفضل طريقة أقدر أتواصل بيها مع الجن مباشرة, هى الخلوات. بدأت أدخُل فى حالات روحانية كتير.قضيت شهور فى الصحارى لوحدى, قضيت أسابيع فى مركب فى البحر لوحدى. إتواصلت مع شتى أنواع الجن. إتعلمت كتير أوى منهم.

ها…لنَضِف القليل من الإستفزاز لإشعال نيران الحوار…

– و السلسلة إللى فى رقبتك دى برضُه سِحر؟ ولا دى عشان تحسس الناس إنك ساحر بجد بقى و كده, هههههه؟

“لا يا بشرى يا أحمق, أنا الخادم المُغَلَل, أسير القلادة المُكَبّل!!”

لم يكُن سليمان هو مصدر الإجابة. بل كانت القلادة! القلادة هى من تحدثت بصوت مبحوح و مرعب و أجابتنى. بصعوبة حاولت الكلام…

– ش..شش..شيخ سليمان, مين إللى إتكلم؟

– هههههههه!! خوفت ولا إيه يا أستاذ؟على فكرة, أنا سايبك براحتك تتكلم و تقول إللى عندك…بس خُد بالك, مش كُل اللى معانا هنا هيتحملوك!!

– هو في حد معانا هنا غير اللى جاب الميه… و غير إللى فى السلسلة؟

– كتير!…كتير جداً…تعالى هات ودنك…(أنا إللى واقف مابينهم و مابينك, حاول تلتزم الأدب شوية…عشان ميحصلش خساير!)

هل إستطاع الرَجُل أن يزرع الخوف (بالفِعل) فى نفسى؟ أم هو ممثل بارع ذو إمكانيات تمثيلية رهيبة, و كُل ما أراه الأن هو جزء من المسرحية؟ و لكن هل مجيئى إلى هنا (بتلك الطريقة المُخيفة) مسرحية؟ هل القلادة الناطقة مسرحية؟ هل اللوحات المُعلقة على الجدران من حولى!… و التى تنظُرُ لى بغضب!… هى أيضاً مسرحية؟

– إنت ليه عايز تقتنع إنها تمثيلية؟

– أنا مش عايز أقتنع إنها تمثيلية, أنا….

– هو إنت فاكر إنى مش عارف برنامجك بيشتغل فى إيه؟ بتفضحوا المشعوذين و السحرة, مش كده؟

– لا انا بظهر الحقايق, أنا…

لم أكاد أنهى جُملتى لأجد سليمان أخر! يخرُج من جانب الغُرفه المُظلم من جهة اليسار! نعم, نسخة أخرى من سليمان…!

– عايز تيجى تعمل لقاء و تتشهر و الناس تضحك عليا و تقول إن أنا كداب و مشعوذ, صح؟

و توالت نسخ سليمان فى الظهور حتى أصبحت الغُرفة ممتلئة بسليمان!! أطفال, سيدات, كبار سن!! كلهم يحملون نفس وجه سليمان!!

– عايز تيجى تدمرنى زى ما دمرت إللى قبلى؟

– إنت حطيت حاجه فى الميه!! إنت حطيت حبوب هلوسة عشان أشوف إللى بشوفه ده, صح؟!

– غبى, غبى زى غيرك من الناس. مش إنت مؤمن بربك برضه؟ إزاى تبقى مؤمن بربك و مش مؤمن و مصدق إن فى حاجات تانية إتخلقت معاك؟ إزاى مش مؤمن بوجود الكيانات العظيمة إللى إتخلقت على عاشت فى الأرض من قبلك؟ يبقى إنت كده يا صديقى مش مؤمن بربك…صح؟

– ربى إيه و غيرى من الناس إيه؟ إنت إيه بالظبط؟ إنتوا إيه؟!!

– “أنا من تخلى عن صفات البشر الفانى, أنا من سيجعل الجسد الطينى يُعانى”

قالها بصوت غليظ, مرعب! و أخذت عيناه فى الإتساع حتى أصبحتا مثل فجوتان سودائتان. و إقترب منى هو كُل أشباهَهُ من الكيانات الأخرى, و أخذوا يرددوا نفس الجملة…

” أنا من تخلى عن صفات البشر الفانى, أنا من سيجعل الجسد الطينى يُعانى”
” أنا من تخلى عن صفات البشر الفانى, أنا من سيجعل الجسد الطينى يُعانى”

– كفاية إبعدوا عنى, إبعدوا عنى!! إبعدهم عنى يا شيخ سليمان!!

” أنا من تخلى عن صفات البشرى الفانى, أنا من سيجعل البشرى الطينى يُعانى”
” أنا من تخلى عن صفات البشرى الفانى, أنا من سيجعل البشرى الطينى يُعانى”

– إرحمونى, متأذونيش أنا أسف والله!! أنا أسف!!

– أستاذ أيمن, أستاذ أيمن…مالك فيه إيه…يا أستاذ فوق!!

– أرجوكم إبعدوا عنى أبوس إيديكُم, أرجوك يا شيخ إبعدهم عنى!!

-أبعد عنك مين؟ محدش معانا فى الأوضه غيرنا, و أنا متحركتش من مكانى يا حضرة الإعلامى المرموق, ههههههه!!..ها… كُنت عايز تكلمنى فى إيه بقى؟

– ولا حاجه يا شيخ سليمان, ولا حاجه… أستأذنك…أنا عايز أمشى.

– ليه؟ و اللقاء الصحفى؟ و برنامج “إختراق” المختص بإظهار حقيقة الدجالين الخادعة؟ مش ده كان طبيعة الحوار؟

لم أنبُس ببنت شفة, و فهمت مغزى ما جرى من نظرات سليمان الخبيثة لى. لقد تعرضت لمجرد جزء بسيط مما يسطيع هذا الرجُل أن يفعلُه. هذا الرجُل, ليس كباقى الدجالين البُسَطاء اللذين كشفتُ أمرِهِم. هذا الرجُل قد وهب نفسُه لشىء شرير, و هذا الشئ قد منحَهُ قوة مرعبة. كان كُل ما رأيت فى تلك الغُرفة هى تحذيرات من أن أتمادى…. أكمل الرجُل حديثُه بكلمات لم أفهمها…

– إنت تعرف يا أستاذ أيمن إن الوقت من أخطر الحاجات الموجودة فى الدنيا؟ الناس بتخاف من الوقت جداً. الوقت هو إنتظار للموت, إنتظار لرفدك من شغلك بسبب غلطه. المشاهير بيخافوا من الوقت بسبب النسيان, بيخافوا يتنسوا و تاريخهم يتمحى من الوجود. بيخافوا يجى الوقت الغلط و حد فضولى, مغرور يظهر على الساحة و ياخد منهم شهرتهم و نجاحهم. حاجات كتير أوى الناس بتخاف منها بسبب الوقت. مجاش فى بالك مرة إنه يبقى أفضل لو الوقت وقف؟ شعور جميل بعدم تغيير أى شئ….مش كده؟

– مش فاهم…إنت عايز إيه؟

– عايزك تقبل منى الساعة الرملية دى, عربون صداقة و محبة مابينا…و إنسى أى حاجة شوفتها النهارة…عايزك تفكر فى الوقت اللى جاى…و إزاى هتستغلُه…و تعرف تعيشُه!!…و دلوقتى, إرجـــــــــــــع!!!

قالها بنفس الصوت الذى سمعته فى أول مكالمة تليفونية بيننا, وعُدت لمنزلى بنفس الطريقة التى إستحضرنى بها سليمان, نفس الهاوية السوداء المُظلمة, و وجدت نفسى ملقى على أرضية غرفة مكتبى. إستجمعت قواى, و بدأت بكتابة شئ لن يعجب (بالتأكيد) صاحب القناة, و لكن أعتقد أنُه لو كان فى موقفى, لما تجرأ و حاول أن يفتح على نفسه تلك البوابة الشيطانية…

“أعتذر للسادة المُشاهدين عن عدم تكملة حلقات برنامج “إختراق”. لقد مررت بتجربة من الصعب على أى إنسان أن يتحملها مهما بلغ من العقل و الهدوء النفسى. هناك أشياء فى هذه الدُنيا, من الأفضل أن تبقى كما هى دون التدخُل فى كيفية حدوثها. هناك أبواب كثيرة فى حياتنا من الأفضل لها أن تظل مغلقة. أعتذر عن سرد ما حدث لى من “حوار” صحفى بينى و بين الشيخ “م.ا”. فليس لدى الكثير لأقوله سوا أن الفقير إلى الله “أيمن النحاس” لا يملك الخبرة و القوة الكافية لتحدى الشيخ. أرجو من السادة الزملاء عدم المحاولة للفوز بذلك التحقيق الصحفى, فأنتُم لن تجدوا من ذلك إلا ما لا تطيقون تحملُه…و أخيراً, أذكر نفسى و إياكُم أن الفضول, قتل القط….

لا أدري للمرة الكم قد كتبتُ تلك الكلمات؟ لم أدرك أننى كتبتها مراراً و تكراراً بلا كلل ولا ملل. بالعكس, لقد أصابنى الهوس بكتابة تلك الكلمات. ما لم أدركه أيضاً هو أن كيف لى أن أعود لغرفتى مرة أخرى كلما حاولت الخروج منها؟ لأجد نفسى ملقى على الأرض مثلما رجعت أول مرة من رحلتى لمنزل سليمان؟ إلى أن فهمت أخيراً… أننى معاقب….

معاقب بأن أظل مدى حياتى حبيس الغُرفة, معاقب بكتابة ذلك النص السخيف – كما الأطفال المُعاقبين بكتابة (لن أفعلها مرة أخرى)- مراراً و تكراراً. و كُل ذلك فهمتُه حين أُدركت أن الساعة الرملية التى أهدانى بها سليمان, تنساب حبات الرمل منها..
بلا نهاية!

حلمي مطر

حلمى مطر, كاتب قصص رُعب قصيرة من الأسكندرية. بدأت بالنشر الإليكترونى منذ فترة من خلال صفحات التواصل الإجتماعى و نالت كتاباتى و الحمدلله إستحسان الناس.
زر الذهاب إلى الأعلى