حكاياتمقالات

زهرة الشتاء

للكاتبة : شهد حمدي السعودي

زهرة الشتاء
من هذه يا أمي؟!
قالت الطفلة وهي تشير لإحدى الصور التي جمعت والدتها مع إحدى الفتيات

ردت والدتها: إنها صديقتي رزان

لم هي بسرير المستشفى؟

إنها قصة طويلة …..

قابلتها لأول مرة عندما كنت في الابتدائية، حينها لقد كنت انطوائية جدا؛ لذلك بدأ زملائي يتنمرون علي، لكنها وقفت أمامهم بشجاعة وأخافتهم؛ ليبتعدوا عني، منذ ذلك الحين ونحن أصدقاء، لقد كانت تناديني بكل وقت “رغد هيا لندرس سويا” “رغد هيا لنلعب”، كل شيء كنا نفعله سويا، لكن تغير هذا عندما دخلنا إلى الجامعة، لقد تجاهلتني، لقد كنت غاضبة جدًا! كيف لها أن تتجاهل صديقة العمر؟!

كلما حاولت محادثتها تنظر إلي من خلف نظارتها الشمسية السوداء، وتتخطاني بلامبالاة، بدأ الطلاب يتهامسون عنها؛ لأنها كانت ترتدي نظارتها الشمسية حتى في المحاضرة، لقد ظن الجميع أنها تسعى للفت الانتباه، وهذا استفزني جدا! وفي يوم من الأيام، بعد المحاضرة، لقد كانت تضع الكتب بحقيبتها فقاطعتها قائلة: لماذا تتجاهليني؟….. فلم ترد! شعرت بغضب عامر، وصحت بها: اخْلَعِ تلك النظارة المثيرة للشفقة!

وجذبتها منها بينما الجميع يشاهد، لكن ما رأيته تاليًا جعلني أنهار تمامًا، تسمرت مكاني وأنا أسألها: ماذا حدث؟!!!

لقد تساقط شعر حاجبيها ورموشها تمامًا، نظر إليها الجميع في ذهول، فغطت وجهها بحقيبتها، وركضت إلى الخارج، ظللت متسمرة مكاني لفترة، لم أشعر بدموعي إلا وهي تنساب من عيني، لقد احتقرت نفسي جدًا، كيف كنت بتلك القسوة معها؟! كيف لم أعلم بألمها؟! حينما احتجتها لقد ساعدتني، وحينما احتاجتني لقد تنمرت عليها!!

في المساء، ذهبت إلى منزلها، وفتحت والدتها الباب لي، وأدخلتني وقالت: لم تخرج من غرفتها منذ المساء، ورفضت أكل الطعام، وترفض رؤيتك، لم تخبرني بما حدث.

أجهشت في البكاء وقلت لها: أنا آسفة جدًا. وشرعت أحكي لها كل شيء.

ردت والدتها ويبدو عليها الحزن الشديد وعيناها مليئة بالدموع: لقد بدأ الأمر في إجازة نهاية العام، لقد كانت تتقيأ الدم، اكتشفنا أن لديها سرطان الدم في المرحلة الثانية.

زاد بكائي وصحت بها: لم لم تخبريني؟ أتعلمين كم كنت سأحزن إن لم أكن معها بتلك المحنة؟! ألست صديقتها؟!

فبدأت والدتها بالبكاء هي الأخرى وقالت: لقد رفضت تلقي العلاج في البداية، ولكنها وافقت بشرط ألا أخبر أحد من أصدقائها بالأمر، وأن أعدها بأن أسمح لها بالدراسة، هي لم ترد رؤيتك وأنت حزينة هكذا.

انهرت في البكاء على الأرض وقلت لها: لقد كانت تتحمل كل هذا بمفردها! ولم تطلب المساعدة خوفا علي! ولكنني فعلت بها ذلك!

ردت علي: ابق معها الآن، هي تحتاجك، لقد رفضت الخضوع للعلاج مجددًا.

أخبرتها وسط بكائي: وماذا باستطاعتي أن أفعل بعد أن جرحتها هكذا؟

قالت لي: بقائك معها يكفي. وأعطتني منديل لأجفف به دموعي.

رغد: هل يمكنك أن تحضري لنا الطعام؟

فردت وهي تجفف دموعها: بالطبع.

ودخلت إلى غرفة رزان، لقد كانت مستلقية على السرير، تختبئ خلف البطانية، فجلست إلى جانبها وظهري لها، أحاول إخفاء دموعي، وأثق أنها هي الأخرى كذلك، وقلت لها بصوت محشرج، لا يريد الخروج من حنجرتي: هل كان هذا صعبًا عليك؟

رزان: لقد شعرت أن دمي قد زال وحل محله نيران.

قلت لها بعين دامعة: أنا آسفة.

ردت: أتعلمين ما هي اللحظة الأكثر ألمًا؟

صمت، ولم أعلم بماذا أرد، فأكملت: إنها اللحظة التي يتساقط الرمش الأول والأخير، الأول لأنني بدأت أستوعب أنه لا مجال للتراجع، والأخير لأنني بدأت أعلم أنه لا أمل.

عانقتها من الخلف، وبدأت أبكي، وقلت لها: سأدعو الله لك، سيشفيك بالتأكيد، لكن لا تيأسي وأكملي العلاج!! لم أتلقى إجابة منها فصحت بها: ألم تقولي لي أنك زهرة الشتاء؟! ألم تقولي إنك ستتحدى جميع الصعاب لتصلي لأهدافك؟!! لم استسلمت الآن؟!

التفتت لي وقالت ووجهها خال من التعابير: إن لم أستسلم، هل ستتحقق المعجزات؟

رغد: بالطبع! فالمعجزات ليست مقتصرة على الأنبياء فقط.

رزان: هل تعديني؟

رغد: بالطبع، لكن ثقي بالله ، واخضعي للعلاج أرجوك.

فأومأت برأسها، فأمسكت يدها وقلت لها: هيا يجب أن نأكل.

وسحبتها للخارج لطاولة الطعام، لم يكن لدى أحد شهية، ولكنني بدأت أكل بنهم، وقلت لها: الطعام لذيذ جدًا، سآكله كله إن لم تبدئي.

فبدأت تتناول الطعام، لم آكل بسبب جوعي، بل لأطمئنها أن كل شيء بخير، في اليوم التالي ذهبت معها وهي تقوم بالعلاج الكيميائي، لقد كان قلبي يحترق بشدة، تمنيت لو آخذ  المرض عنها وأبعده، عدت لمنزلي في المساء مرهقة، لكنني لم أستطع النوم، اتكأت على السرير، وبعد قليل سمعت أذان الفجر يؤذن، شعرت أن الله يناديني، نهضت وتوضأت وبدأت أصلي، وما إن سجدت حتى أجهشت بالبكاء، بدأت أناجي الله كطفلة صغيرة وأنا أقول له: لو كان بيدي أن أعطيها من حياتي لأعطيتها! لكن أنت بيدك شفاؤها، أرجوك لا تردني خائبة، أرجوك استجب لي!

أنهيت الصلاة، وسمعت صوت الشيخ في إذاعة القرآن الكريم يقول: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (82) سورة يس

أجهشت في البكاء وأنا أشعر أنها أشارة من الله، في الأيام التالية، ذهبت إليها كل يوم؛ لأدعمها وهي تخضع للعلاج، وقلبي يتألم لألمها، حتى أتى اليوم المبهج الذي أخبرنا الطبيب به أنه لم يعد هناك أثر للسرطان، شعرت حينها أن الغمة التي كانت على صدري انكشفت، خاصة وأنا أراها تركض إلي وتعانقني، أشكرك يا الله، لن أنسى فضلك ما حييت…

هذه الصورة لدى كلانا نسخة منها؛ إنها تذكرنا بالوقت الصعب الذي قضيناها، وكذلك تذكرنا بكيف تخطيناها بلطف الله

أقرأ أيضًا

البيانو

‫2 تعليقات

زر الذهاب إلى الأعلى