شويكار
“منذ أيام رحلت الفنانة شويكار”
خبر كهذا كان ليحتل مانشيتات الصحف منذ ثلاثين عامًا مثلًا، حين كانت شويكار في قمة نجوميتها، لكنها رحلت كما ظهرت على الشاشات، خفيفة كنسمة لا تشعرك ثقلًا، ولا تشغل عقلك بما لا طاقة لك ولا له به، رحلت وسط اسمين قديرين هما “سمير الإسكندراني” و”سناء شافع”.. لكن أحدهما لم تعمِ عينيه أضواء الشهرة مثلما حدث مع شويكار..
وكأن الفنان يجب أن يختار ميقاته بعناية، ويعرف الوقت الصحيح لمفارقة الحياة، فعلى فرض أن هذا بيد إنسان، يجب أن يبتعد الممثل عن أوقات البدايات الفنية، فحينها لن يترك لورثته رصيدًا فنيًا ولا رصيدًا بنكيًا.. وكذلك لا يجب أن يموت الفنان متأخرًا جدًا، فتنحسر عنه الأضواء وينتظر التكريم كما ينتظر المزارعون مطرًا في موسم الجفاف، مطرًا سيأتي بعد أن تذبل النبتة وتروح حلاوتها وتغيب رائحتها عنها، مطرًا إن جاء أتى باهتًا لا يروي ظمأً ولا يعيد حياة.
نشأت شويكار في عائلة أرستقراطية من أصول تركية تمتد لحاشية محمد علي باشا، تلقت تعليمًا فرنسيًا في أسرة تقدر قيمة الفن ولا تعرقله، لكنها كأي أسرة في هذا العصر لا تعني كثيرًا بسن زواج الابنة، ولا برغبتها في المقام الأول، لتتزوج شويكار من مهندس يدعى حسن نافع وهي في سن السادسة عشر، وبعد فترة قصيرة توفي الزوج بمرض مميت، لتصبح شويكار أرملة وهي في سن الثامنة عشر! وأمًا لطفلة دون مستقبل واضح.
من هنا عرفت شويكار معنى الكفاح، عادت لتبدأ من جديد بعيدًا عن اسم عائلتها وتربيتها الراقية، لتلتحق بكلية الآداب وتبحث عن عمل حتى وجدت فرصة للعمل في المسرح كممثلة، تعلمت على يد مخضرمَين مثل عبد الوارث عثر ومحمد توفيق، وقدمت أكثر من عرضٍ مسرحي لم ينل أحدها شهرةً، حتى حدث لها أهم وأعظم حدث في مشوارها الفني والإنساني: مسرحية السكرتير الفني.
في رأيي أن شويكار هي واحدة من أفضل ثلاث كوميديانيات مصريات، وهي من القليلات اللواتي يضحكن دون تكلف أو تصنع شخصيات تقليدية لا تليق عليهن، ولا تنتزع الضحك من أدوار نسائية تقليدية كالزوجة المتسلطة أو السيدة الشعبية “الشرشوحة”، بل كانت بارعة في إيجاد مساحات كوميدية من شخصيات عادية يمكن أن تقابلها في الشارع، وليست مجرد شخصيات كاريكاتورية كأغلب بنات جيلها، فكيف لا وهي الذراع الأيمن لعبقري الكوميديا فؤاد المهندس، والذي أتاح لها التنويع الرومانسية والكوميدية، كما استطاعت من خلال العمل معه أن تجسد جميع أنواع الشخصيات تقريبًا، بدايةً من الفتاة الشعبية مرورًا بالفتاة المتوسطة الكادحة وانتهاءً بالفتاة الأرستقراطية التي تتحدث من طرف أنفها.
هي قصة الحب الأشهر في تاريخ السينما والفن، زيجة استمرت أكثر من عشرين عامًا، بدأت من المسرح حين تقدم لها أمام الجمهور ووافقت عليه.. طالت العلاقة التي أصبح الجمهور طرفًا ثالثًا فيها، طرفًا يتمتع بثمارها، مثل “أنا وهو وهي” و”اعترافات زوج” و”ربع دستة أشرار” و”سيدتي الجميلة” و”العتبة جزاز”.. ليقدما سويًا أفضل ثنائية كوميدية عرفتها السينما والمسرح المصريين.
حتى حين حدث الانفصال لم يخسر أحدهما رفقة الآخر وصداقته، وظلت الأمور بينهما عظيمة كما رأيناها على الشاشة، ولكن كانت نهاية العلاقة هي نهاية المشوار الذهبي بالنسبة للاثنين، فقد انطفأ الإثنين وبهت إبداعه، وكأن كلاهما يستمد الطاقة من الآخر.
حاولت شويكار أكثر من مرة أثناء تواجدها مع المهندس فنيًا وإنسانيًا، وفيما تلا تلك المرحلة أن تخرج من عباءة الكوميدية التي كانت تليق عليها، وتجرب نفسها في الأدوار الجادة والتراجيدية.. مثل مشاركتها في فيلم غرام الأسياد مع لبنى عبد العزيز وأحمد مظهر وعمر الشريف، وكذلك مشاركتها في الباب المفتوح مع فاتن حمامة، والكرنك مع سعاد حسني، وبين القصرين عن رواية العظيم نجيب محفوظ، وأمريكا شيكا بيكا مع محمد فؤاد، وأعمال درامية أخرى مثل “هوانم جاردن سيتي” و”امرأة في زمن الحب”.. وبضعة أعمال لم تنل حظها من النجاح.
ومع الوقت خفت نجم شويكار تمامًا، وحتى الأدوار الصغيرة التي كانت ترتضيها مثل دورها في “كلمني شكرًا” مع عمرو عبد الجليل، لم تعد تأتيها.. لتأتي النهاية هادئة تشبه مشوارها الفني، لم تكن شويكار الممثلة صاحبة الأدوار المُرَكَبة، ولا الأقدر على التجسيد، ولم تكن الأشهر أو النجمة الأولى أو نجمة الجماهير أو أي من هذه الألقاب الزائلة، لكنها حضرت بابتسامة ورحلت بأخرى.