سينما

عن فيلم Soul

“عليك أن تكون ناجحًا مثل فلان على فيسبوك، ذاك الذي ينشر إنجازاته بمعدل شبه يومي.. وصاحب رأي مثل علان على تويتر؛ الذي يمتلك رأيًا نقديًا تجاه شهيقه، ورأيًا تحليليًا حين يخرج الزفير.. يجب أن تكون موهوبًا وصاحب “محتوى” مثل ترتان على يوتيوب؛ تجيد التحدث وصاحب حضور ونسبة مشاهدات عالية.. وفي وسط كل هذا لا تنسى أن تستمتع بحياتك وتقضي صيفك وشتائك على الشواطئ، مثل صديقك الآخر على انستجرام.

لا يهم موهبتك، ولا يعنيني ضغوطاتك النفسية، ولا حياتك الاجتماعية والأسرية، يجب أن يكون لديك “شغف” تجاه شيء ما بل وتنجح فيه أيضًا، لا يكفي أن تكون فردًا، بل يجب أن تكون ملهمًا وموهوبًا في مجال هام يدر عليك الشهرة والمال.”

هذا الصوت داخل رأسك أعرفه جيدًا؛ فأنا مثلك أسمعه، يلح عليَّ، يطلب مني أفكارًا غريبة عني لأصوغها خارج صندوق لا أملكه، تشجع الأفلام على علو هذا الصوت أيضًا.. “انهض واترك وظيفتك، العالم مليء بالموظفين، لا أحد يصبح غنيًا بالعمل من الثامنة صباحًا حتى الرابعة عصرًا.”

لكن هذا الصوت ينسى دائمًا أن الوظيفة أحيانًا ما تسبب راحة نفسية، وأن العالم مليء بالتعساء وليسوا فقط موظفين، وأن العمل بين ساعتين محددتين أفضل -غالبًا- من الإلحاح على عقلك ليبدع ويحلق خارج القفص.. وهذا ما فعله باقتدار -ولأول مرة حسب سجل مشاهداتي الشخصية- فيلم Soul.

فيلم soul هو فيلم رسوم متحركة، وإن كان هذا الوصف تقنيًا يظلم الفيلم فقد خرجت فنياته على عادة “بيكسار” كأفضل ما يكون، تشاهد تفاصيل رسم الأماكن وتفاصيل الملابس والأثاث، والإضاءة والظلال، وكذلك رسم الشخصيات في الحدود التي تبرز “كارتونيتها”؛ لتدرك أن هذا العمل يجب أن يصنف تحت مسمى “رسوم حقيقية متحركة باتقان” مثلًا!

يروي الفيلم يومًا من حياة “جوي” الذي يعمل مدرسًا للموسيقى ويحب عزف الچاز، ويعاني من حياة روتينية، ومشاكل مع أمه وحبيبته بسبب سعيه وراء حلم العزف الموسيقي والتربح منه بعيدًا عن الوظيفة المملة، نعرف كذلك أنه يمر بإحباط كون العمر يتقدم به دون أن يتقدم هو معه، فصديقنا جوي لديه شغف لم تسنح له فرصة لتحقيقه بعد، على الرغم من موهبته.

وفي يوم تأتي الفرصة التي حلم بها طيلة حياته، فيذهب جوي لاختبار في باند شهير يحبه، يتجاوز الاختبار بنجاح فائق، تظن أنك أمام فيلمًا عاديًا عن الطموح والموهبة، وفجأة (صوت قرع طبول للتشويق..) يموت جوي في حادث سقوط!

من هنا يبدأ الفصل الأوسط من الفيلم، وهو الأفضل بالنسبة لي، ويدور هذا الفصل في عالم الأرواح، ندرك أن روح جوي قد صعدت للسماء، يجد نفسه في عالم من الفراغ وسط أرواح من ماتوا وأرواح لم تأتِ العالم بعد.. نراه رافضًا للموت قبل تحقيق شغفه المزعوم.. يحاول الهرب بأكثر من طريقة دون جدوى؛ فجوي مصيره الموت.. حتى يتلقي 22.

و22 هي روح تخاف رحلة الحياة، تتجنبها كما يتجنب جوي الموت، يعلم جوي أن جميع محاولات اقناع 22 بالحياة باءت بالفشل، ويقرر أن يعقد معها صفقة، ويعود هو للحياة بدلًا منها.

يعيش البطلين مغامرة وجودية، يخلق التناقض بينهما روحًا كوميدية وفلسفية، تذكرنا برائعة Inside out، التي كاد soul أن يضاهيها جمالًا لولا الفصل الأخير الذي سنتطرق إليه لاحقًا.

تتضمن المغامرة هروب كلا من جوي و22 للحياة مرة أخرى، لترى 22 الحياة بعيني جوي، ويرى جوي الحياة بعيني قطة، كلاهما قد اتفق على هدف واحد؛ يجب أن تعود روح جوي لجسده، ويحضر الحفل الذي ينتظر العزف فيه طيلة حياته..

هذه الثنائية الذهبية هي كلمة سر نجاح أفلام بيكسار، وهي فرضية غالبًا ما يكون البشر طرفًا فيها، مرة مع شركة من المرعبين، مرة مع لعبة، ومرة بين الإنسان وشعوره، وفي soul بين روح مفارقة وأخرى لم ترَ الحياة من الأساس.

في النهاية، تدرك 22  سر حب جوي للحياة، ويدرك جوي أن تحقيق الشغف ليس بهذه الروعة التي كان يتخيلها، فغدًا يوم جديد سيعزف فيه، وبعده يوم آخر ليتحول الشغف إلى روتين، وهنا يلقي صناع الفيلم قنبلة في وجوه الحالمين؛ الحياة لأجل الشغف كذبة، ولا نفع منها طالما أنك لم تصبح شخصًا أفضل، وأن تأمل سقوط أوراق الشجر، وعناق الأم، وموعد الحبيب، ومشاهدة طفلة تحلم بأن تصبح عازفة، والسماع لكلام الحلاق وثرثرته عن آرائه في الحياة، كل هذا أهم وأعظم من أي شغف.. لأن هذه هي الحياة.

نجح soul  في إخراس أصوات عديدة طالما ارتفع طنينها داخل رأسي، وكلما علت الأصوات سأشاهده مجددًا، أراني أطارد شغفي، دون أن أفقد البوصلة التي خلقت لديَّ الشغف من الأساس، وهم الناس.. ساحاول التفكير خارج الصندوق، لكن إن فشلت سأغلقه عليَّ وعلى من أحبهم.

عبدالرحمن جاويش

كاتب وروائي شاب من مواليد محافظة الشرقية سنة 1995.. تخرج من كلية الهندسة (قسم الهندسة المدنية)..صدر له عدة رويات منها (النبض صفر،) كتب في بعض الجرائد والمواقع المحلية، وكتب أفكار العديد من الفيديوهات الساخرة على مواقع التواصل الاجتماعي.. كما دوَّن العديد من قصص الديستوبيا على صفحته الشخصية على موقع facebook وحازت على الكثير من الإشادات من القراء والكُتَّاب كذلك..
زر الذهاب إلى الأعلى