سينما

غرباء بامتياز بقلم عبدالرحمن جاويش

غرباء بامتياز بقلم عبدالرحمن جاويش
غرباء بامتياز
 “هل ستستمر علاقة أي زوجين إن اطلع إحداهم على هاتف الآخر؟”

“البشر ضعاف، قابلون للكسر.”

بين هذين الجملتين تتحرك أحداث الفيلم الإيطالي “Perfect strangers” ولمن لا يعرفه فهو الفيلم الأقرب لقلب المنتجين في العالم كله، كون أحداثه تدور في مكانٍ واحد بعيدًا عن فخ الملل وفخ إقحام أو تجنب أحداث لأسباب إنتاجية، هو فيلم يدور في مكان واحد لأن قصته تدور في مكان واحد وكفى.. الأمر الذي جعل أكثر من منتج يشتري فكرته لينتجها بلغات أخرى غير الإيطالية، ولا أعرف الكثير عن النسخة العربية منذ الأخبار التي تم تناولها من سنتين عن شرائه.

أحداث فيلم “غرباء تمامًا” تدور حول سبعة أصدقاء تمتد جذور الصداقة بين أغلبهم لسنوات ماضية، يجتمعون لتناول العشاء ومراقبة خسوف القمر، ومع بداية الخسوف تقترح إحدى الصديقات على الباقيين أن يلعبوا لعبة صغيرة: فيترك كل منهم هاتفه المحمول أمامه على الطاولة مفتوحًا، وهو الصندوق الأسود لأسرارك، وطيلة فترة العشاء فكل ما ستستقبله من رسائل أو مكالمات هاتفية يجب أن يمر على الأصدقاء جميعًا ويصبح مشاعًا عليهم.. فكرة غريبة وتفتح كل الاحتمالات لمصير هذا العشاء.

هذا ليس فيلم “ورق” كما يدعي المنتجون، هذا فيلم دور الإخراج فيه مهم جدًا، وتنويع الكادرات في حدود المكان الواحد والغرفتين التي تنتقل بينهما أغلب الأحداث مهم لصرف الملل ولإبقاء المشاهد متيقظًا، وهو يشبه في طبيعته الأيقونة السينمائية 12 Angry men.. فهو ليس مجرد “توك شو” يجلس فيه مجموعة من الناس يحكي كل منهم أسراره الشخصية، ولا عشاءً رسميًا يجب أن يكون كل شخص على طاولته جالسًا في مكانٍ معين، هو عشاء بين أصدقاء، وسيظل الفيلم محافظًا على هذا المفهوم طيلة أحداث الفيلم.

من القواعد السينمائية المهمة هي Show don’t tell، أي اجعل المُشاهد يرى الأحداث، لا تحكيها له على لسان الشخصيات، وقد نجح الفيلم في تجنب هذا الفخ بالحديث عن الأمور غير الهامة في حيواتهم، والتي تضفي –بالطبع- طابعًا هامًا في بناء شخصية كلٍ منهم، مثل الحديث عن أماكن قاموا بزيارتها، أو عطلة يخططون لقضائها، أو أحداث تدور في العمل أو مع أصدقاء آخرين، أو الحديث عن مباراة كرة قدم سيلعبونها في وقتٍ لاحق.. كل هذه أحداث لا تهم المُشاهد، هو يريد “رؤية” التفاعل بين الأصدقاء وأسرارهم وعلاقاتهم المتشابكة، هذا ما وعد به الفيلم، وأوفى.

وقبل العشاء يتعمد المُخرج إخراج قصة نميمة عن صديقة غير موجودة على العشاء، وهذه الصديقة تعرضت لخيانة من زوجها الذي يعتبر صديقًا لهم هو الآخر، هنا نراقب الجميع وهم يضحكون على هذه النميمة، وكأن انكشاف السر سيحدث للآخرين فقط ولن يحدث لهم، الجميع مطمئن وهادئ.. ولكن هذا ما لن يحدث في الدقائق القادمة..

(تحذير: بعد السطور القادمة قد تضمن حرقًا للأحداث)

تبدأ الأحداث فعليًا على العشاء، ومعها نبدأ في التعارف على الأصدقاء السبعة، يمارس الفيلم خدعة شهيرة في السينما؛ وهي تقديم نماذج إنسانية تبدو للوهلة الأولى معروفة ومكررة للمشاهد؛ فلدينا ثلاثة أزواج في ثلاث مراحل مختلفة من العلاقة؛ الزوج الأول يعاني من قلة الحديث بين طرفيه وظهور مشاكل ابنتهما الوحيدة، والزوج الثاني يعاني من فتور العلاقة ومصاعب الحياة المختلفة، والزوج الثالث لا يزال يتذوق حلاوة البدايات في كل شيء.

يطيل الفيلم في لحظات التوتر وانتظار أول مكالمة أو رسالة، يجيد التلاعب بأعصابك، فهو يعرف أن مثلك مثل باقية الاصدقاء تظن أن أسرارك هينة، وأن ما لدى الآخرين عظيم.. تبدأ المكالمات في التوالي على الجميع بإيقاعٍ هادئ، كمزاح أحدهم مع الآخر، وكظهور فرصة عمل لثالث، أو نعرف أن إحدى  الجالسات ستقوم بعملية تكبير للثدي، وفي نفس الوقت نكتشف أن زوجها يجرب جلسات العلاج النفسي؛ سر يبدو عادي في حياة الزوجين؛ ولكن حين تعرف أن الزوج طبيب تجميل والزوجة معالجة نفسية بالتأكيد ستشعر بالغرابة!

ومع مرور الأحداث سينكشف كل ما هو مخفي من حياة الأبطال، فمعنا على العشاء زوجين خائنين وثالث لا يخون لكنه يتعرض لخيانة من زوجته مع أحد أصدقائه، وزوجة ثانية تتحدث بشكل إباحي مع رجل غريب على الإنترنت.. الجميع لديه أسرار كثيرة لا يريد البوح بها.. كما نعرف مع الوقت سبب عدم تقديم شخصية “بيبي” قبل العشاء مع باقية الشخصيات، فلدى “بيبي” سر أكبر بكثير من أن يتم إخفائه في تقديم الشخصيات.. فهو صاحب ميول جنسية مثلية ويخفي هذا السر عن أقرب أصدقائه منذ سنوات!

تستمر الأحداث ويستمر انكشاف الأسرار، وهنا يقدم صناع الفيلم صنيعًا للمشاهدين، كأنهم يحبونه ويفضلونه على الأبطال، فبعد أن جعلوه محملًا بالفضول تجاه معرفة أسرار الجميع، واجهوه بهذه الأسرار، جعلوه يعرف أن الاطلاع على الأسرار ليس أمرًا جيدًا طيلة الوقت.. وأننا أحيانًا نحتاج لقدر من الخصوصية أو “الستر” حتى نصلح الأمور فيما بيننا.. يتحول الفضول اشمئزازًا.. ليقدم المؤلف هدية ثمينة للمشاهد وليس للأبطال: فكل هذه الأحداث لم تحدث، وقد رفض أحد الأصدقاء هذه اللعبة بحجة أن جميعهم ضعيف وهش، وسهل الكسر والانكشاف، مع أن هذا الصديق هو الوحيد الذي لم يكن لديه سرًا عظيمًا ليخفيه.. لنفي شبهة أنه يحمي نفسه من بطش الآخرين به.. ليخرج الجميع يظنون أنهم يعرفون بعض، لكن أنا وأنت وكل المشاهدين نعلم أنهم “غرباء تمامًا”.

 اقرأ أيضاً

الحقيقة خلف فيلم dont breath

عبدالرحمن جاويش

كاتب وروائي شاب من مواليد محافظة الشرقية سنة 1995.. تخرج من كلية الهندسة (قسم الهندسة المدنية)..صدر له عدة رويات منها (النبض صفر،) كتب في بعض الجرائد والمواقع المحلية، وكتب أفكار العديد من الفيديوهات الساخرة على مواقع التواصل الاجتماعي.. كما دوَّن العديد من قصص الديستوبيا على صفحته الشخصية على موقع facebook وحازت على الكثير من الإشادات من القراء والكُتَّاب كذلك..
زر الذهاب إلى الأعلى