كيف تتذوق قصيدة نثر؟
كيف تتذوق قصيدة نثر؟.. الأغلب الأعم أن معظم الناس لا يتقبلون قصيدة النثر، ولا يقرأونها، اللهم إلا في النادر القليل. بعض الناس يشكون من عدم قدرتهم على تذوق هذا النوع من الشعر، والاستمتاع به كما قد يستمتعون، مثلا بقصيدة قديمة، أو حتى ببيت أو بيتين من الشعر القديم. والبعض الآخر يرفض أن يحسب قصيدة النثر على الشعر من بابه. فهو يرفضها جملة وتفصيلا، ويرفض حتى أن يناقشه أحد في رأيه هذا.
ومع ذلك فقد فرضت قصيدة النثر نفسها على الذائقة العربية، وأصبحت تمتلك ميراثا أدبيا من الشعر، وتاريخا لشعراء أسهموا في إثراءها وتطويرها جيلا بعد جيل. وهو ما يتطلب من الذين يرفضونها مراجعة أنفسهم بشأن هذا الرفض، ومنح أنفسهم فرصة لتذوق ولو قصيدة نثر.
كيف تتذوق قصيدة نثر؟
هذا المقال هو محاولة لتقريب هذا النوع من الشعر لعقول القراء ولأذواقهم وقلوبهم من خلال تقديم قراءة لقصيدة نثر، عسى أن يكون ما يمنعهم من تذوق قصيدة النثر مجرد سوء فهم يسهل إزالته والتغلب عليه. وعسى أن يكون ما يحول بينهم وبين قراءتها مجرد عدوى تناقلوها عن مَنْ لم يقرأ، ومَنْ لم يُتعب نفسه في محاولة تذوقها، فكثير مما نرفضه ليس إلا وجهات نظر لآخرين سمعناها فصارت وجهات نظرنا بالتبني.
ومن العادات التي يمكن أن تساعدنا على تذوق قصيدة نثر، مثلا، الصبر على قراءة القصيدة أكثر من مرة، بحيث نسمح لخيال القصيدة ككل أن يغزو خيالنا فنرى بعين الشاعر العَالم الذي يريد أن يُرينا إياه. فجمال قصيدة النثر لا يكشف عن نفسه من خلال كلمة أو جملة، ولا من خلال صورة أو مجاز منثور هنا أو هناك. إنما من خلال خيال ترسمه القصيدة ككل، وتزيح به خيالا سابقا اعتدنا أن نتصور به واقعنا أو حالة من حالات وجودنا اليومي المعاش. الأمر الذي يضعنا، في نهاية المطاف، على أعتاب خبرة جديدة وممتعة بالجميل.
والآن سنحاول أن نقدم قراءة لقصيدة من قصائد الشاعرة المصرية جيهان عمر بعنوان «سيميولوجيا»، حيث ترسم الشاعرة صورة نرجسية لفتنتها بنفسها وعشقها لصورتها: تقول:
لا ترتدي الأبيض
يجعلك نقية
لكنه يكشف ضعفك
لا ترتدي الأحمر
يجعلك فاتنة
لكنه يفضح شهوتك
لا ترتدي الأصفر
تبدين كقطعة من الشمس
لكنه يؤكد وحدتك
لاحظ معي، أيها القارئ، هذه النرجسية المفعمة بحب الذات، والوله بامتداحها. دون أن تشعر، مع ذلك، بهذا الضيق والاستفزاز الذي قد تشعر به كلما بدا لك أن امرأة تبالغ في مدح جمالها، أو أنها تعشق صورتها في أعين المعجبين بها. فأول انطباع يمكن أن نخرج به من عشق امرأة لنفسها هو الغرور.
غير أن الشاعرة هنا تعرف كيف تُحَببنا في حبها لنفسها، وفي الصورة التي ترسمها لهذا الحب، بل وتعرف كيف تكسب تعاطفنا، وتفهمنا لمثل هذا الحب. فالجميل والجديد هنا أن الشاعرة عرفت كيف تأخذنا إلى عالمها، عالم عشقها لصورتها ولذاتها، وأن تضمنا إلى قائمة عشاق هذه الصورة. بل وتُعلمنا كيف يمكن أن يقترب المرء من نفسه، وكيف يحبها، فإن من لا يعرف كيف يحب نفسه، لن يعرف كيف يحب غيره في نهاية المطاف.
بدأت الشاعرة بمدح جمال جسدها في الملابس التي قد لا تكون الأنسب لإبراز هذا الجمال وتصويره. فكأنها تقول إنني جميلة حتى وإن ارتديت ما لا يساعد على إظهار هذا الجمال، فما بالكم لو ارتديت ما يبرزه ويُظهره للأعين؟! ولا بد وأنك تتفق معي أيها القارئ على أن ابتداء الشاعرة بمدح جمالها، مما يبدو أنه لا يبرزه أقوى وأشد تأثيرا من أن تبدأ مما يُبرز هذا الجمال.
إذ أنها تبدأ، لا بما يتفق الناس حوله، فلابد وأن ما يتفق الناس حوله بديهي، ولا يحتاج إلى إثبات. إنما تبدأ مما هو محل اختلاف، فتُظهر أن الاختلاف ليس اختلافا حول جمالها، أبدا فليس من الوارد أن يختلف الناس حول جمالها، إنما المسألة مسألة تباين في الانطباعات وردود الأفعال التي يثيرها هذا الجمال لا أكثر ولا أقل.
على أننا سرعان ما نكتشف أن هذا الاختلاف الذي يُعبر عنه تعليق الحُكم في القصيدة من خلال أداة الاستداراك «لكن» ليس حقيقيًا. فأحوال الضعف والشهوة والوحدة التي قد تترتب على ارتداء الأبيض والأحمر والأصفر، على التوالي، هي، في حد ذاتها، أحوال تزيد صاحبتها جمالا على جمالها، وجاذبية على جاذبيتها.
هذا علاوة على أن الشاعرة قد اسْتَبَقتْ هذه الأحوال، أي الضعف والشهوة والوحدة، بأحكام تصب في مصلحة جمالها، مثل: يجعلك «نقية» و«فاتنة» و«كالشمس». وكلها أحكام، كما ترون، تبلغ بالأنثى الغاية في الجمال والأنوثة. مما يجعل من هذا الاستدراك الذي يوحي بالاختلاف حول هذا الجمال مجرد مكر بالقارئ، الذي قد يستكثر على الشاعرة أن تكون على هذا القدر من الجمال.
سوف يبدو الجزء الثاني من القصيدة وكأنه بمثابة نَفَسْ عميق يأخذه القارئ بعد طول لُهاث، بسبب ما يبدو أنه انتظار نافد الصبر للتعرف على أفضل صورة يبدو فيها جسد الشاعرة الفاتن. لا سيما بعدما تألق هذا الجسد في أكثر من لون أمام عين خيال القارئ، وظهر معه شبق الشاعرة بنفسها وبصورتها: تقول:
ارتدي الأسود
الأسود فقط
ارتديه طوال الوقت
الأسود الذي يُقدس لون بشرتك
ويبدو كسماء تُسبح لقمرٍ
الأسود الذي يُشعرني بأني ميت
وأنكِ في فترة الحِداد
تمزجين دموعك بحبات البن
وتضيئين الشموع
في دولاب ملابسك
لترقص فساتينك الملونة
احتفاءً برحيلي.
فبعد أن أحصت الشاعرة جميع الألوان، وقاست بتنوعها مقدار جمالها اختارت الأسود لتجعله سيد هذه الألوان الذي تتألق، بفضله، بشرتها البيضاء تألق القمر. ولتجعله، من ناحية أخرى، سماء تسبح بحمد جمالها. وفي الوقت الذي جعلت منه عاشقا لبشرتها، جعلت من نفسها قمرا يعبده هذا اللون طواعية، وبكل تفانٍ وإخلاص. إنه، أي الأسود، موجود، على ما يبدو، من أجلها، ومن أجل جمالها خصصيًا. وهي صورة، كما نرى، بلغت الذورة في الفتنة بالذات، وفي امتداحها.