كتب- هيثم السايس:
إن التاريخ المدرسي لا يذكر التفاصيل المهمة التي شكّلت ربما حياة الشعوب وآمالها وطموحاتها، ربما أن هذا بديهي نوعًا ما، فالتاريخ المدرسي محدد في وقته وجهده وتركيزه نحو خطاب جمعي للتلاميذ، لذلك دعونا نترك التاريخ المدرسي ومشاكله لحاله، ونتجه نحو رحاب واسعة من التاريخ الحقيقي، فما رأيكم أن نأخذكم في جوّلة شيّقة مع تاريخ الحملة الفرنسية في مصر، لن نطيل عليكم، إننا نختار بعض المشاهد الخاطفة ربما نخرج منها بنتيجة ما، وعبرة ما..
حملة آتية من وراء البحار لغرض ما:
إن الحملة الفرنسية بالفعل كان لها غرض واضح وهو احتلال مصر، واستغلال مواردها، ولكن هناك أمور قد تكون دافعة لهذا الاحتلال منها على سبيل المثال ضرب مصالح الإنجليز في الشرق، وقطع الطريق عليهم “لاحظ أننا مازلنا في عصر ما قبل الطيران والأقمار الصناعية”.
لن نتطرق كثيرًا إلى الأسباب التي دفعت حكومة الإدارة الفرنسية بتكليف أعظم قادتها نابليون بونابرت لاحتلال مصر، ولكن يكفينا ما يبرز من مشاهد ملهمة في هذا الاحتلال، وهيا سريعًا نشاهد ما فعله نابليون..
إنه خرج في مايو 1798م من ميناء طولون المطل على البحر المتوّسط، في سرية تامة بعيدًا عن أعين وجواسيس القوات الإنجليزية التي تتربص بالأساطيل الفرنسية بشكل مستمر، ثم بعد شهرين من التؤدة والبطء في المسير وصل إلى ميناء الإسكندرية أخيرًا لتبدأ مسيرة الاحتلال الحقيقية.
في الإسكندرية؛ حيث الميناء المتهالك جراء عدم إصلاحه لفترة طويلة، رسى الأسطول الفرنسي بعيدًا عن مركز المدينة، حيث رسى في أبي قير، وتابع الجيش المسير حتى التقى بأهالي المدينة الذين علموا بوجود “فرنجة” على الشاطئ، فقاوم أهل الإسكندرية حينًا، إلا أن الجيش الفرنسي أحكم السيطرة على المدينة سريعًا وقبض على محمد كريّم والي المدينة الذي دافع عن المدينة دفاع الأبطال حسب الإمكانيات الضعيفة حتى أعجب به نابليون وقدّر موقفه.
بعد الإسكندرية؛ جاءت الإخبارية إلى المماليك، هؤلاء الذين كانوا يحكمون مصر بالنيابة عن السلطنة العثمانية الضعيفة “أو بقول آخر كانوا يتحكمون في مناصب تساعد الوالي العثماني الضعيف القابع في القاهرة”، وتبعت هذه الأخبار معركتين كانوا من السهولة بحيث تم انكسار الجيوش المملوكية فيهما بسهولة، وأقصد بهما معركة شبراخيت في صحراء البحيرة آنذاك على الطريق إلى القاهرة، ثم المعركة الثانية بالقرب من الأهرام وهي معركة إمبابة، والتي سيطر بعدها نابليون على القاهرة وذلك في 24 يوليو 1798م.
في القاهرة.. كيف سيطر الغازي على النخبة المصرية بسهولة؟
كان نابليون بونابرت يريد تثبيت السلطة الفرنسية في القاهرة، هذا أمر بديهي عند الغزاة، إنهم يحاولون السيطرة على مقدرات الأمور في البلاد خاصة في البداية، ولقد كان نابليون من هؤلاء الذين يعرفون نقاط الضعف ويلعبون على وتر تلك النقاط جيدًا.
إنه كان يريد سلطة جديدة بعيدًا عن المماليك حلفاء العثمانيين، وفي نفس الوقت يحاول بهذه السلطة السيطرة والتحكم في الشعب المصري الذي قد يكون عقبة في طريق الاحتلال والسيطرة، ولا ننسى أن الأمر كان يتعلق بالدين أكثر في هذه العصور، فقد تأتي دعوة بالجهاد ضد المحتل الفرنجي الكافر وبالتالي يلاقي الفرنسيون صعابًا كثيرةً هم في غنى عنها بالتأكيد.
لم ير نابليون غضاضة في السيطرة على مشايخ الأزهر، والذين كانوا يشكلون النخبة على القاهرة التي لها تاريخ كبير في الاتصال بالجماهير الشعبية، هذا لا شك فيه خاصة من الناحية الدينية، أما من الناحية السياسة كانت لهذه النخبة هامشًا لا بأس به في رد المظالم وتخفيف الضرائب على الشعب والتوّسط عن السلطة القائمة قبل الاحتلال “سلطة المماليك والعثمانيين” وبالتالي فهناك ثقة بين الشعب ومشايخ الأزهر.
هنا اتضحت مهمة نابليون الأولى في بدايات تاريخ الحملة وعلاقتها مع المشايخ وهنا نلخصه حسب حديث عبد الرحمن الجبرتي المؤرخ الرئيسي لتلك الفترة الهامة من تاريخ مصر.
مشاهد ثلاثة هامة كانت بين نابليون والمشايخ أو ما نسميه الآن النخبة..
المشهد الأول: الاصطياد والتطويع:
إن نابليون سياسي وعسكري لا يشق له غبار، إنه كالصياد الماهر في الغابة، يشم رائحة الفريسة وينصب لها الأفخاخ المناسبة، لذلك قام الرجل أولاً بتطمين المشايخ خاصة بعدما تسربت أخبار له بأن العديد من المشايخ يفضلون الخروج من القاهرة والهروب بعيدًا عن الفرنسيين.
انزعج نابليون من تلك الأخبار كما يحكي لنا الجبرتي الذي قال نصًا على لسان نابليون: ( لأي شيء يهربون، اكتبوا لهم بالحضور ونعمل لهم ديوانًا لأجل راحتكم وراحة الرعية وإجراء الشريعة).
لقد كان هذا المدخل المناسب لاصطياد المشايخ وتطويعهم ووضعهم في مجلس عام أو ديوان القاهرة كما يسميه المؤرخون والذي كان يحكم تحت سلطان الفرنسيين، وليكون أول حكومة وطنية تحت الاحتلال!
بالفعل حضر جميع الشيوخ، خوفًا ورغبةً عدا واحد وهو كما يطلق عليه الجبرتي “عمر أفندي” أو عمر مكرم نقيب الأشراف، الذي كان من البداية يرى في الفرنسيين محتلين “كفار”، لا يجب التعامل معهم.
وهنا أدرك نابليون أن هذا العمر وغيره قد يشكلون متاعب في المستقبل وقد كان!
المشهد الثاني: احترم عقائدهم واجعلها مخدرًا:
إن نابليون كان ذكيًا، لقد رأى عظمة الدين في نفوس المصريين، فجعل ذلك مدخلًا آخر لتطمين النفوس، وكذلك جعله مخدرًا مناسبًا لطبقات الشعب، هذه الطبقات التي وإن ترى القوي يتعاطف مع عقائدهم وإلا يجلوه ويحترموه أكثر فأكثر، وهنا بالفعل قام نابليون بهذا الدور.
في حادثة يذكرها عبد الرحمن الجبرتي، ألغى الشيخ البكري وهو من كبار مشايخ الأزهر في القاهرة ورجل من النخبة العلمية فيها حفل المولد النبوّي الشريف نظرًا لظروف دخول الفرنسيين القاهرة.
هنا تدخل نابليون وأرسل إليه بإلغاء قراره وأن يتم الحفل، بل بمباركة نابليون لهذا الحفل بنفسه، حيث أرسل حوالي 300 دينار كمعونة من أجل إقامة حفل ضخم يليق بهذه المناسبة الشريفة، وبالفعل تم إقامة الحفل بشكل كبير، لقد استمتع فيه الناس ونسوا أحزانهم جراء ما حدث لقاهرتهم الحزينة التي تئن تحت الاحتلال الجديد.
المشهد الثالث: العصا أحيانًا والجزرة أحيانًا أخرى.. يامشايخ أنتم أحباب صاري العسكر:
إنها سياسة معروفة وقديمة، الجزاء والعقاب، وهي سياسة اتبعها نابليون من نخبة القاهرة الحاكمة، أو مع مشايخ الأزهر، ففي حادثة تبدو طريفة ولكن ذات معنى عميق لسياسة نابليون الجديدة، يومًا ما أثناء اجتماع نابليون بالديوان، أصر نابليون أن يرتدي أعضاء الديوان من المشايخ شارات وأوشحة علم الجمهورية الفرنسي (الأحمر– الأبيض– الكحلي) أمام الناس، وهنا رفض الشيخ عبد الله الشرقاوي رئيس الديوان هذا التصرف من نابليون.
قام الشرقاوي بالصياح والرفض تمامًا بارتداء الوشاح بل وألقاه على الأرض، وهنا غضب نابليون وتكلم بالفرنسية ما معناه سب الشرقاوي وأنه لا يصلح أبدًا للرئاسة والقيادة، وهنا تدخل الترجمان الخاص بنابليون وخفف من اللهجة وقال للشرقاوي ومن معه من المشايخ حسب حديث الجبرتي: يا مشايخ أنتم أحباب صاري العسكر!
وبعد تلطيف الأجواء؛ وعد المشايخ نابليون بلبس الشارات الحمراء والبيضاء والكحلي ولكن بعد تفكير حتى لا يظن بهم الناس أنهم مع الفرنسيين ضدهم!
وهنا يتضح أن نابليون قام بتطويع للنخبة المصرية في محاولة منه لتثبيت الاحتلال، ولكن بالرغم من ذلك فقد واجه المصريين الحملة بشدة ومقاومة عنيفة.. ولكن لهذا حديث آخر.