مفاعل الثقب الأسود بقلم: محمود علام
عمركم سألتوا نفسكوا قبل كده المستقبل ممكن يكون شكله عامل ازاي؟
فكرة شكل المستقبل إيه دي داعبت خيال كتير جدًا من كتاب الخيال العلمي القديم والحاضر.. لو شفتم فيلم Interstellar مثلًا هتلاقوا حاجة شبيهة باللي احنا على وشك اننا نتكلم عنه، وهو فكرة العالم بدون وقود، بدون طاقة.
في المستقبل البعيد جدًا، الكائنات الحية كلها بتواجهها مشكلة عويصة، هي انتهاء الطاقة، يعني فكرة إن الطاقة اللي احنا بنعتمد عليها في حياتنا دي كلها تنتهي.. طب إزاي؟
خلينا نفترض لمجرد الفرض إننا عايشين في مستقبل بعيد فعلًا.. بعيد لملايين السنين بدون مبالغة.. وخلونا بردو نفترض إن بعد انتهاء النظام الشمسي بتاعنا نفسه، وموت الشمس ذاتها، ما زال الجنس البشري موجود وعايش.. ربما مثلًا على كوكب آخر، أو منطقة أخرى من الكون..
في نظرية فيزيائية معينة بتوضح إن الكون في الواقع بيتسارع؛ بمعنى إن كل الأجسام والكواكب والأقمار والنجوم اللي فيه بتتسارع، وبتبعد عن بعضها بسرعة الضوء، وأسرع كمان.. يعني لو تخيلنا إننا عملنا قفزة زمنية Time Jump لقدام ملايين السنين، هنلاقي إننا في الواقع لو رفعنا عيوننا عشان نبص على السماء، فإننا في الواقع مش هنقدر نشوف نجوم..
مش هنشوف أي حاجة، ليه؟ لإن هيكون كل الأجسام القريبة مننا خرجت تمامًا من مجال الرؤية بتاعنا، وعدّت حد معين بنقول عليه (الكون المرئي Observable Universe)، بمعنى إن الضوء اللي بيصدر من الأجسام دي، سرعته مش كافية لإنه يوصل لينا على البعد السحيق ده في الفضاء، وبالتالي إحنا لوحدنا.. لوحدنا تمامًا..
هنفضل لوحدنا شوية، لحد ما الشمس بتاعتنا، ومصدر كل الطاقة الموجودة على كوكبنا بلا استثناء هتبدأ تمر بمرحلة الخباء أو الـ Entropy، بمعنى إنها بتموت.. وتقعد فترة صغيرة لحد ما تتحول لعملاق أحمر، وبعدين تنفجر.. وبكده دي تكون نهاية نظامنا الشمسي بأكمله..
طيب، لو احنا بقى كبشر، بعد ما عشنا ملايين السنين دي، وانتهى كل شيء، ومبقاش عندنا طاقة.. هنعمل ايه؟
ايه اللي ممكن أي كائن حي يعمله عشان يستمر في الحياة في قلب كون لا يحوي مصادر طاقة؟ هو ده اللي احنا على وشك نتكلم عنه.
الثقوب السوداء اتكلمنا عنها كتير قبل كده، وأنا اتكلمت عنها كتير جدًا في كذا مقال، عشان كده مش هشرحها تاني بالتفصيل، يكفي بس انكم تعرفوا إن الثقوب السوداء دي هي الشيء اللي بيتكون لما النجوم تنهار على نفسها، وتشكل انحناء لا نهائي في الفضاء والزمكان، بتبقى جاذبيته لا نهائية، لدرجة إن الضوء نفسه مبيهربش منها، وعشان كده بنسميها الثقوب (السوداء).
طيب، إيه علاقة الثقوب السوداء بقى بتكوين الطاقة؟ هي مش المفروض مفيش حاجة بتهرب منها، ومستحيل تولد أي نوع من أنواع الطاقة؟
ده صحيح إلى حدٍ ما، لكن الموضوع أعقد من كده. بغض النظر عن إن الثقوب السوداء العادية الساكنة بينبعث منها إشعاع ضئيل إلى حد لا يقاس، هو إشعاع هوكينج Hawking Radiation، اللي اكتشفه عالم الفيزياء العبقري ستيفن هوكينج، لكن مش هو ده اللي نقصده هنا.
الحقيقة إن في نوع تاني من أنواع الثقوب السوداء، هو النوع اللي احنا هنتكلم عنه هنا؛ النوع ده هو الثقوب السوداء الدوارة Spinning Black Holes.
إيه الثقوب السوداء الدوارة دي بقى؟
زي ما كلكم عارفين، وزي ما اتكلمنا قبل كده، الثقوب السوداء بتتكون لما النجوم بتنهار على نفسها، لحد ما كتلتها كلها بتتركز في نقطة واحدة لا نهائية الكثافة، وبسبب الكثافة اللا نهائية دي، الجاذبية بتبقى لا نهائية بدورها، فبالتالي النجم ده بيتحول لثقب أسود، طيب حلو، ماذا بقى لو كان النجم ده دوار؟
بمعنى، النجم ده لو بيدور حوالين نفسه بسرعة غير مسبوقة، زي مثلًا النجوم النابضة Pulsars، اللي هيحصل إن نقطة التفرد اللي في مركزه دي، اللي هي بتتركز فيها كتلته بالكامل، مش هتكون مجرد نقطة تفرد Singularity، لا هي في الواقع هتتحول لحاجة اسمها (حلقة تفرد، أو دائرة تفرد Ringularity).
يعني بدل ما هيكون النقطة اللي ف مركز الثقب الأسود اللي بينحني حوالينها الفضاء نفسه هي مجرد نقطة، لا هي في الواقع هتتحول لدايرة. النقطة دي هتكون بتدور في حلقة مفرغة حوالين نفسها بسرعة تساوي مليارات المرات في الثانية الواحدة، سرعة لا تستوعب ولا يمكن وصفها أو قياسها. وبسبب السرعة الرهيبة دي، فإن الفضاء نفسه حوالين الثقب الأسود هيبقى شكله غريب للغاية؛ الفضاء هيتحول لحاجة إسمها الـ Ergo-sphere.
فاكرين قبل كده لما اتكلمنا عن المحيط الكروي اللي حوالين الثقب الأسود، اللي مفيش أي جسم دخله يقدر يهرب منه بأي شكل ممكن نظريًا أو رياضيًا؟ فاكرين كان اسمه إيه؟ بالظبط، أفق الحدث Event Horizon.
الـ Ergo-Sphere اللي حوالين الثقب الأسود الدوار بقى على العكس من أفق الحدث، ممكن لو جسم دخلها يهرب منها عادي، يعني انت كمسافر لو دخلتها، تقدر بقدر من الطاقة، إنك تهرب منها تاني، وده لسبب بسيط خلوني أشرحهولكم.
بسبب الطبيعة الدوارة لمركز الثقب الأسود اللي احنا قلنا عليها، الفضاء نفسه حواليها بيبتدي يتغير ويتشكل، ويدور معاها بالظبط زي الدوامات اللي في المية. جربت تحط صباعك في المية قبل كده، وتحركة بحركة دائرية بسرعة جدًا؟ هتلاقي دوامة بتتكون، وبتجذب كل الأجسام اللي في المية دي للمركز، بس مش بسرعة زي ما تكون مثلًا هتقع ف بلاعة.
الموضوع ممكن نتخيله بالظبط زي الحوض، لو مليته مية، وقعدت تقلب فيه بمعلقة، المية دي هتفضل تدور حوالين البلاعة بتاعت الحوض بسرعة، وهي بتقع في الثقب شوية بشوية. لكن لو المية ساكنة؟ بالظبط.. أول ما تفتح الحنفية المية هتقع علطول مباشرة جوه الثقب، هو ده بالظبط نفس ميكانيكية عمل الـ Ergo-Sphere المحيطة بالثقب الأسود الدوار.
لو انت راكب سفينة فضاء، وجيت دخلتها، فإنه ممكن نظريًا وعمليًا إنك تخرج منها، إزاي ؟ بإنك تضحي بجزء من طاقتك انت للثقب الأسود!
ركزوا معايا هنا عشان الجزء ده صعب شوية.
عشان تقدر تكتسب طاقة من الثقب الأسود، فإنه طبقًا لقوانين الفيزياء والطاقة والميكانيكا، لازم تبذل انت نفسك جزء من طاقتك في سبيل انك تكتسب طاقة منه، إزاي؟ بإنك مثلًا ترمي حاجة من جوه السفينة الفضائية للثقب الأسود.
يعني مثلًا تخيل انك عمال تدور في السفينة حوالين الثقب الأسود، لو جيت انت مثلًا رميت نص الوزن بتاع السفينة الفضائية بتاعتك في مركز الثقب الأسود، فإنه طبقًا لقوانين الحركة والميكانيكا، الثقب الأسود هيديلك جزء من الطاقة بتاعته، وسرعته هو نفسه تقل شوية بما يتناسب مع مقدار الطاقة دي، وهيزقك بالجزء ده من طاقته لبعيد. بالظبط كإنك بتتخلي عن جزء من الكتلة بتاعتك في صورة طاقة، عشان تبقى أخف وتطير بعيد عن الثقب الأسود أسرع. في الواقع الطاقة اللي انت هتقدر تحصل عليها من الثقب الأسود هي أكبر بكتير من اللي انت هتبذله للثقب الأسود.
طيب كل ده إيه لازمته؟ لازمته مهمة جدًا؛ انت كده خلي بالك اكتشفت وسيلة للسفر عبر الفضاء بما يقارب سرعة الضوء تقريبًا! 😀 تخيل مثلًا لو الحضارة المتقدمة دي قدرت إنها تستعمل النيازك والكويكبات بشكل حقيقي، بمعنى إنها تشدهم بسفنها الفضائية، وترميهم جوه الثقب الأسود الدوار، بحيث انها تحصل منهم على مقدار طاقة عظيم، يقدر إنه يزقها للسفر لما يقترب من سرعة الضوء!
بس في حاجة طريقة أفضل بكتير بقى، تقدر إنها توفرلنا مصدر طاقة لا نهائي لو تم استغلالها بالشكل الصحيح، وكمان نقدر من خلال نفس الطريقة دي إننا نبني أكبر قنبلة يمكن بناءها في الكون بأكمله، بواسطة أي حضارة، إيه هي بقى الطريقة دي؟
علماء الفيزياء النظرية بيقترحوا جهاز نظري، غير ممكن التحقيق باستعمال التكنولوجيا الحالية بتاعتنا؛ الجهاز ده باختصار بسيط أوي أوي، هو عبارة عن مراية عملاقة كروية، هيتم بناءها بحيث انها تبقى محيطة بالثقب الأسود!
تخيلوا كده معايا اننا قدرنا بتكنولوجيا متقدمة للغاية متوفرة لينا كبشر في المستقبل البعيد ده، إننا نبني مراية ميكانيكة عملاقة بحجم كويكب صغير، ونركب المراية على بعضها بحيث إنها تبقى محيطة بأي ثقب أسود صغير دوار. سامعكم بتقولوا إزاي وبتستغربوا، بس الشيء اللي لازم تعرفوه هو إن الثقوب السوداء أصغر بكتير جدًا جدًا في حجمها الفعلي من النجوم. يعني مثلًا كتلة كويكب صغير جدًا نقدر إننا نستعملها في بناء مراية سُمكها 10 سنتيمتر كاملين، نقدر بيها نغلف ثقب أسود دوار بنفس كتلة الشمس بتاعتنا، إنتوا متخيلين؟!
المهم.. بعد ما نبني المراية ونغلف بيها محيط الثقب الأسود الدوار بقى.. إيه اللي هيحصل؟
ركزوا معايا عشان اللي بيتشرح ده هو فكرة بناء أكبر مفاعل طاقة في الكون، حاجة أقوى من المفاعلات النووية بمليارات المرات حرفيًا بلا مبالغة..
اللي احنا هنعمله بقى، إننا هنيجي بالبلدي كده وببساطة، هنفتح شباك صغير في المراية العملاقة دي، ونطلق منه موجات كهرومغناطيسية Electromagnetic Waves، بداخل الـ Ergo-Sphere المحيطة بالثقب الأسود.
عشان تقدروا تتخيلوا اللي هيحصل بعد كده، ممكن تتخيلوا مثلًا إننا واقفين ومعانا كرة قدم صغيرة، قدام حيطة، لو شوطت كرة القدم دي في الحيطة فإنها هترتد، لكن في حالة الموجات الكهرومغناطيسية، فإن الكورة دي هترتد بسرعة الضوء، وبطاقة لا تستوعب.
كل اللي هنعمله إننا هنطلق كمية ضخمة من الموجات الكهرومغناطيسية، وبعدين نقفل الشباك اللي في المراية ده تاني عشان نحبسها جوه. اللي هيحصل جوه هو إن الموجات الكهرومغناطيسية دي هتفضل تخبط في الحيطان بتاعت المراية المحيطة بالثقب الأسود، وتنعكس عنها، وقوتها وشدتها تتضاعف بمرور الوقت. طبعًا بعض الموجات دي هتسقط في مركز الثقب الأسود وتختفي للأبد، لكن القدر الأكبر منها هيفضل يرتد عن المراية، وينعكس على الجوانب المقابلة، وبعدين يرتد تاني وتتضاعف شدته، وهكذا.. هيفضل يجمَّع ويبني الطاقة جواه، ومع مرور الوقت، هيحصل Build Up عظيم للطاقة دي، لحد ما هنيجي إحنا بعد فترة معينة مدروسة بشكل معين، هنعمل حاجة بسيطة، هنفتح شباك تاني، بس..
الموجات الكهرومغناطيسية المرتدة من جوه، هتكون شدتها أقوى بمليارات المرات من الموجات اللي احنا أرسلناها للداخل، وبعد كده هنقدر إحنا بقى من خلال استقبال الموجات الكهرومغناطيسية دي بطرق معينة، إننا نحولها لوقود حقيقي، وقود نقدر نستعمله في إننا نشغل كوكب كامل، لمليارات السنين!
يعني هنقدر من خلال وسيلة مبتستعملش أي طاقة، إننا نولد طاقة لا نهائية نشغل بيها كوكب كامل، وكواكب تانية جنبه، لمليارات السنين، هنقدر نولد طاقة حرارية وحركية وديناميكة، تعوض نقص الشمس والغذاء والوقود، جنسنا هيقدر يعيش للأبد حرفيًا!
تخيلوا لو بنينا مدن كاملة على شكل حلقات محيطة بالمراية المبنية حوالين الثقب الأسود ده، تمامًا زي المدن اللي كانت موجودة في آخر فيلم Interstellar كده، هي دي فكرة عملها اللي كانت في الفيلم بالمناسبة. 😀
وفي نفس الوقت، لو احنا فضلنا سايبين شباك المراية دي مقفول، وما فتحناهوش، فإن الطاقة اللي جواه دي هتفضل تتجمع وتتجمع وتتجمع بدون ما تلاقي وسيلة تهرب بيها من الضغط، لحد ما الضغط اللي جواها هيزيد لحد حرج، هيخليها تنفجر بالكامل.
تخيلوا كده إنكم معاكم بالونة، البالونة دي قعدتوا تملوها مية كتير لحد ما وصلت لمرحلة حرجة، انفجرت بعدها وخرجت المية اللي جواها في كل حتة، فاكرين اللي حصل في مفاعل تشيرنوبل Chernobyl في روسيا في التمانينات؟ هو ده بالظبط نفس اللي هيحصل، ولكن على مقياس كوني.
لو ده حصل في ثقب أسود صغير في حجم شمسنا أو أصغر، فإن الطاقة المتولدة منه هتكون كافية لإنه يحصل منه انفجار سوبرنوفا Supernova، اللي هو الاسم اللي بيميز انفجار النجوم. الانفجار ده هيكون أكبر انفجار يمكن لكائن حي إنه يصنعه، انفجار ممكن من قوته إنه يدمر نظام شمسي كامل!
هي دي عظمة الفيزياء، بمجرد أدوات بسيطة زي دي، نقدر إننا نضمن لجنسنا البقاء لملايين السنين، تخيلوا مثلًا إننا قدرنا نتوصل من خلال تكنولوجيا موجودة حاليًا، لتخليق ثقب أسود ميكروسكوبي حقيقي، زي اللي بيحاول العلماء حاليًا يعملوه في مختبر CERN اللي في جنيف على حدود سويسرا، تخيلوا اننا قدرنا نعمل حاجة زي دي فعلًا، وقدرنا نعمل أول مفاعل حقيقي من ثقب أسود ميكروسكوبي مستقر.
إحنا مش بس هنقدر نتغلب على مشكلة الطاقة، إحنا هننهي مشكلة الحروب والنزاعات العالمية بأكملها، هيبقى متوفر عندنا قدر لا نهائي من الطاقة، لدرجة إننا نقدر نوزعه على سكان الكوكب بأكمله لملايين السنين، مجانًا!
ده غير إننا هنقدر نستعمل مصدر الطاقة ده في إجراء تجارب علمية غير ممكنة التحقيق إلا باستعمال مصدر طاقة رهيب زي ده. هنقدر نصنع المادة المضادة Anti-Matter في المعمل، وهنقدر نكشف أسرار السفر عبر الزمن، والسفر بسرعة الضوء. هنقدر نعمل حاجات كتير أوي، حاجات منقدرش دلوقتي غير إننا نحلم بيها.
عرفتوا بقى إيه فايدة دراسة الثقوب السوداء، وإيه مغزى مختبر سيرن، والتجارب اللي العلماء بيحاولوا يعملوها حاليًا؟
عرفتوا عظمة الفيزياء؟
لسه هتعرفوا أكتر قريب..