سينما

يوميات نائب في الأرياف

عن رواية توفيق الحكيم : ” يوميات نائب في الأرياف “، 1937

يقدم توفيق صالح “1926-2013″، في العام 1969، فيلمًا بالغ الأهمية على الصعيدين الفني والفكري تدور الأحداث في حقبة الثلاثينيات، وتكشف عن واقع بائس يكابده الفلاح المصري، حيث هيمنة الفقر والفساد السياسي، تحت مظلة الديمقراطية الشكلية، وغياب كامل للخدمات الضرورية، فكيف للعدل أن يتحقق؟.

فقر الفلاحين ليس وليد تكامل وتخاذل وسلبية، بل إنه يرتبط بآليات نظام مختل، يتسلح بمنظومة قانونية لا تستهدف العدل ولا تحقق الإنصاف. الفلاح الهزيل النحيل، عبد السلام محمد، المسكون كما يوحي الشكل بالعلل والأمراض، يواجه اتهامًا بسرقة “كوز درة”، وهو لا ينكر التهمة بقدر ما يبررها: “من جوعي”.

كأنما يريد المساعد الشاب لوكيل النيابة، محمد مرشد، أن يفحمه عندما يطالبه بالعمل بدلاً من السرقة، وتأتي الإجابة السريعة فاضحة للنظام: “يا جناب البيه هاتلي شغل.. وعيب عليا إن كنت أتأخر.. لكن الفقر عنا يوم يلاقي شغل وعشرة ما يلاقيش غير الجوع”.

مشهد قصير غني بالدلالات، وثمة مشهد آخر يندفع فيه الفلاحون لالتقاط الملابس التي تسقط في الترعة من سيارة محملة بكل ما هم محرومون منه. لا دفاع لهم في مواجهة الاتهام بالسرقة إلا الدهشة من سلوك الحكومة الظالمة: “لا منها ولا كفاية شرها.. يحبسونا علشان ربنا كسانا؟”.

** يوميات نائب في الأرياف

بداية الفيلم مع النائب المثقف، أحمد عبد الحليم، وهو يسجل يومياته التي تنم عن غياب التوفق مع الواقع الذي يعايشه بقدر ما تؤكد قدرته الفائقة على رصد وتحليل ما يمر به من أحداث، في أسلوب يجمع بين الفكاهة والمرارة، كأنها الكوميديا السوداء.

يقدم النائب الساخر المأزوم شهادة عملية عن آليات تنفيذ القانون في القرية المصرية، عندما ينتقل للتحقيق في جريمة الاعتداء على قمر الدولة، وإذا به ينهمك في وصف الجريمة وملابس المعتدى عليه، ويعلم مساعده فن التحقيق دون انشغال بالعدل: “المهم المحضر.. المحضر الكويس شهادة للنائب بالدقة والبراعة ينفعه في الترقية”.

ولا يجد حرجًا في استعادة ذكرى قديمة لوقائع تحقيق مماثل، يحكيها للمساعد الشاب منصرفًا عن المصاب: “التفاصيل دليل الدقة.. مرة كنت في تحقيق.. سبت الراجل الجريح وقعدت أوصف.. وبعدما خلصت وصف.. جيت أسأله مين اللي ضربه.. لقيته مات”!.

من ذكرياته أيضًا أنه يتعرض لعاب يقترب من التوبيخ، لأنه يكتب محضر جريمة قتل ويستدل على القاتل في عشر صفحات: “قضية قتل رجل في عشر صفحات؟ قتل رجل.. قتل نفس آدمية.. في عشر صفحات؟.. قتلته يا سعادة البيه أحنا ضبطنا الجاني في شوية الصفحات دول.. فأخذ مني المحضر كده.. وقعد يوزن فيه ويقول.. ولو.. مين يصدق إن ده محضر قتل بني آدم”!.

والأورق أم العدل؟. النظام القضائي يعلي من شأن الشكليات والإجراءات، أما العدالة فمسألة أخرى، يقول عنها الوكيل الساخر لمساعده: “نبقى نتكلم عن العدالة بعدين”.

في الفيلم قاضيان مختلفان كل الاختلاف، والفلاحون من يدفعون ثمن بطء الأول وسرعة الثاني. القاضي الأول، شفيق نور الدين، يقيم مع أسرته في دائرة المركز، وهو رجل ذو وسواس لا قيمة عنده للوقت، ويحول جلسات المحكمة إلى وسيلة لمحاربة الفراغ الذي يحيط به. القاضي الثاني، حسن مصطفى، يقيم في القاهرة، وأحكامه كالطلقات التي لا تسمح لأحد، متهمًا كان أم محاميًا، بالشرح والإطالة: “مهما بلغ من عدد القضايا عمره ما فاته قطر الساعة اتناشر أبدًا”.

لا يعطي الفرصة للدفاع، ويبادر بإصدار الأحكام في سرعة تدفع إلى الاحتجاج: “إيه الظلم ده.. هو أنا لسه اتكلمت؟”، ويرد القاضي المتعجل: “اخرس.. اسحبه يا عسكري”.

ثمة حوار دال بين فلاح لم يقدم الاستئناف في موعده القانوني، والقاضي الذي لا يعترف إلا باللوائح ولا يملك أن يتجاوزها. يقول الفلاح في دهشة تنم عن يأسه “أنا راجل غلبان ما أعرفش أقرا ولا أكتب.. ومين هايفهمني القانون ولا يقريني المواعيد؟”، ويرد القاضي بلغة القانون الجافة اللامبالية: “انت يا فلاح انت مفروض فيك العلم بالقانون.. احبسه يا عسكري”

كيف يُفترض فيه العلم بالقانون وهو الجاهل الذي لا يقرأ ولا يكتب؟، وهل يراعي واضعو القوانين الجمهور الذي تُطبق عليه المواد واللوائح؟!.

يقول وكيل النيابة ساخرًا من بعض الجرائم غير المعهودة، تلك التي تصعب تحيلها واستيعاب أبعادها المعقدة عند الفلاح الجاهل: “الفلاح يعرف إن الضرب جريمة.. السرقة جريمة.. القتل جريمة.. أي اعتداء على الغير جريمة.. إنما التبديد دي جريمة اخترعها القانون”.

عندما “يخترع” القانون جرائم لا وجود لها بمقاييس الواقع، وعندما يحول بعض الممارسات اليومية المألوفة إلى اتهامات يعاقب عليها، فإن ثقة الفلاحين تهتز في المؤسسة كلها.

يسود القانون وتنتصر مبادأة وأحكامه بالقوة دون اقتناع، ذلك أن الانفصال كامل مع الفلاح الفقير الجاهل المريض الذي يكتوي بنيران قوانين غامضة معقدة لا يفهمها، وعندئذ يلجأ إلى قوانينه الخاصة الموروثة، أو يحلم بقوانين أسطورية خارقة حقق العدالة بلا تعقيدات وأوراق!.

** يوميات نائب في الأرياف

لعل شخصية المأمور، التي يؤديها توفيق الدقن بتمكن واقتدار، هي الأكثر تعبيرًا عن الدور الذي تقوم به الشرطة في القرية المصرية، خلال المرحلة التاريخية للفيلم، وما قبلها وبعدها من مراحل.

يقترن ظهوره الأول في الفيلم بلعب القمار والتهام أموال اللاعبين، وفي التحقيق الذي يقوم به وكيل النيابة في جريمة قتل قمر الدولة علوان، لا يتورع عن مطالبة العمدة المستكين، أحمد الجزيري، بإعداد وليمة للبك النائب وله.

تتشكل شخصية المأمور مبكرًا من خلال محوري القمار والجشع هذين، فهو مقامر محترف يسلب من الموظفين والأعيان أموالهم، ثم إنه لا يتورع عن المقامرة بمكاسبه في بلدان أخرى: “سافر هو والمعاون.. ضعنا وضاعت فلوسنا والعوض على الله.. راحوا يلاعبوا مركز تاني!”.

المقامر النهم، الذي يلح في طلب الطعام من العمدة، يقبل الهدايا والرشاوي كما يتبدى في واقعة الخروف الذي يذهب على سبيل الخطأ إلى منزل القاضي المواجه لمنزله، وهو أيضًا ذو شهية جنسية مفتوحة تثير مخاوف وكيل النيابة على مصير ريم، راوية عاشور، الذي تبقى في منزل المأمور لاستكمال التحقيق.

ليس في الفيلم كله ما يشير إلى نجاح المأمور في عمله الأمني، لكن فيه الكثير مما يبرهن على قسوته المفرطة وإهداره الكامل للقانون ولآدمية البشر الذين يتعامل معهم.

تهرب ريم من بيته بمعرفة ورضا زوجه، عايدة عبد العزيز، لكنه يصب غضبه الشرس على العاملين معه في المركز، ويقوم بحملة تفتيش وحشية في قرية الفتاة الهاربة، وهي تجلس على مبعدة أمتار من مقر عمله.

يظهر العمل الحقيقي الأكثر أهمية عندما يطل الوجه السياسي للأحداث وتبدأ حمى الاستعداد لانتخابات برلمانية جديدة. التغيير الوزاري يدفع المأمور للتفرغ دون مبالاة بالجرائم والقضايا الأخرى التي يهملها تمامًا، ذلك أن الهدف الوحيد هو نجاح مرشح الحكومة في الانتخابات كما يقول للعمد في اجتماعه معهم: “مرشح الحكومة في الانتخابات دي لازم ينجح”.

لتحقيق الهدف المنشود، لا يتورع عن التهديد والقبض على أولاد الأعيان المعارضين بتهمة التشرد، والتأويل المغرض للقانون هو السلاح الذي يشهه لتبرير التحايل غير المقنع: أليسوا عاطلين بلا عمل؟.

اللافت للنظر أن واحدًا من أبناء الأعيان المقبوض عليهم بتهمه التشرد، لا يجد منطقًا يعترض به على الاعتقال التعسفي إلا قوله: “بيحبسونا ليه.. هو أحنا فلاحين!”؛ كأن الفلاحين وحدهم من يجوز حبسهم واعتقالهم بلا سبب!.

يصل النشاط السياسي للمأمور إلى قمته في الأسلوب الذي يتبعه في تزوير الانتخابات، ففي حواره مع وكيل النيابة يؤكد إيمانه بحق الفلاحين في اختيار من يروق لهم، لكنه يمارس هو الآخر حقه في “توضيب” صناديق اقتراع جديدة بعد إلقاء الصناديق الكامنة في أعماق المياه، ويتبرا منها: المأمور لأنه لم يكن موجودًا في منصبه خلال الانتخابات السابقة!.

تزوير إرادة الفلاحين ليس سلوكًا فرديًا يخص مأمورًا بعينه، فهو سلوك عام تتسم به المؤسسة الأمنية كلها!.

** يوميات نائب في الأرياف

يقدم الفيلم طبيبًا شرعيًا يقدم بعمله التشريحي التخصصي دون ذرة من العاطفة، بل إنه ينهر المساعد الشاب لوكيل النيابة ويطالب بإبعاده لأنه يبدي بعض التأثر والانفعال. طبيعة عمله تقف به بعيدًا عن الاحتكاك المباشر بالأحياء من الفلاحين، ذلك أنه معني بالأموات منهم، وفي الفيلم شهادة مهمة عن طبيعة الخدمة الصحية في القرية المصرية خلال حقبة الثلاثينيات.

زوجة قمر الدولة علوان تموت حنقًا، ما يعني بالضرورة ووجود جريمة وقاتل، لكنها تُدفن كأن الوفاة طبيعية. يأمر “حكيم الصحة” بالدفن دون انتقال للمعاينة، فهو يمارس عملاً روتينيًا يكتفي فيه بالسؤال تليفونيًا عن سبب الوفاة، ثم يصرح بالدفن!. عبر هذه السلبية المعتادة يتم تكريس دور الحلاق الذي ينفرد وحده بكل المهام التي ينبغي أن يقوم بها الطبيب، الحاضر الغائب، وتتجلى المرارة في تعليق وكيل النيابة، الذي لا يملك إلا الرصد والتحليل: “حلاق الصحة في الأرياف سمسار دفن يتقاضى خمسة صاغ من أهل المتوفى ويجيب لهم إذن الدفن بالتليفون”.

عند انتقال النيابة إلى المستشفى لاستجواب المصاب قمر الدولة قبل موته، تكشف الكاميرا عن سوء حالة المستشفى من الداخل والخارج. المرضى مكومون في عنابر قذرة، ومنهم من يجلس في الطرقات الداخلية، وليس في المشهد ما ينم عن علاج أو اهتمام أو رعاية.

** يوميات نائب في الأرياف

يبدأ الفيلم ببلاغ عن مقتل قمر الدولة علوان، ولا جديد في مثل هذه البلاغات، لكن المثير غير المعهود يتمثل في ريم، شقيقة الزوجة الراحلة للقتيل. الصبية صاعقة الجمال طاغية الحضور عظيمة التأثير على كل من يراها، فهل يتسع الواقع الكئيب المتجهم لجمالها الاستثنائي هذا؟ موتها غرقًا بمثابة الترسيخ لانتصار القبح، وتتجلى صدمة الفقد ومرارته في كلمات مساعد النائب بعد انتشال الجثة: “أنا على استعداد أحضر تشريح نص أهالي البلد.. بس بلاش ريم.. حرام”.

لا تكتمل الشهادة الموجعة الدالة التي يقدمها الفيلم بمعزل عن تأمل الموقع الذي يحتله الشيخ عصفور، عبد العظيم عبد الحق. يؤن المأمور بكراماته، ويشير إلى بعض الخدمات التي يقدمها في جرائم شتى، لكن حضوره يقترن بغناء المواويل وترديد عبارات تحتمل التأويل وتنم عن الفراسة والخبرة بنفوس البشر. لا يحول إعجاب المأمور بالشيخ دون إهانته والاعتداء عليه، وصولاً إلى تحرير محضر تشرد يبرر اعتقاله، لأنه بحكم القانون لا عمل له!.

الواقع المصري في الثلاثينيات حافل بالمظالم والشرور، وقوامه الاضطراب والخلل: “قانون مستورد لا يحقق عدلا، ديمقراطية هزيلة هزلية وانتخابات مزورة، جهاز أمني متعفن في ازدراء الفلاحين وقهرهم، خدمات صحية متدهورة، غياب الوعي وهيمنة البطالة وتوحش الفقر. السؤال المطروح بعد نصف قرن من العرض الأول للفيلم، وأكثر من ثلاثة أرباع القرن على المرحلة التي يؤرخ لها، ما الذي يتغير في الحياة المصرية؟، وهل يقود الزمن إلى التقدم أم إلى المزيد من التراجع؟.

اقرأ أيضًا

عن فيلم حبيب مضاف بلا مضاف إليه

زر الذهاب إلى الأعلى