سينما

الأرض

الأرض

عن رواية عبدالرحمن الشرقاوي: “الأرض”، يقدم يوسف شاهين، في العام 1970، فيلمًا يحمل العنوان نفسه، ويُعد من علامات السينما المصرية، فضلاً عن أنه الأكثر شعبية في مجمل أعمال المخرج الكبير.

يقدم الفيلم، والفضل الأكبر لكاتب السيناريو حسن فؤاد، رؤية واعية عميقة عن هموم الفلاح المصري في مطلع الثلاثينيات، حيث الخليط المدمر من الفقر وقمع السلطة وتذبذب مواقف الطليعة المتعلمة، أما رجال الدين فالغالب عليهم هو الانحياز لتكريس الأوضاع القائمة دفاعًا عن مصالحهم.

**

الفقراء يمثلون الأغلبية الساحقة في القرية، بل إن “المستورين” الذين لا يقهرهم العوز يعانون من شبح الأزمة الاقتصادية التي لا ترحم أحدًا. قد يكون فقر خضرة وعلواني( فاطمة عمارة وصلاح السعدني) مرتبطًا بوقوفهما خارج العملية الإنتاجية والنشاط الزراعي: الأولى تشبع شباب القرية المحرومين جنسيًا، والثاني لا عمل له إلا غناء المواويل والسرقة أحيانًا؛ لكن (محمد أبو سويلم)، محمود المليجي، وعبدالهادي( عزت العلايلي) وغيرهما من صغار الملاك وفقراء الفلاحين ليسوا متعطلين، وهم مع عملهم الشاق الذي لا توقف يقفون على حافة الجوع بعد أن يحاصرهم الفقر ويفسد حيواتهم.

دياب( علي الشريف) ليس فقيرًا يعاني من الجوع المزمن، فهو ينتمي إلى عائلة تملك أرضًا، وشقيقه محمد أفندي( حمدي أحمد) من أعلام القرية، لكن “نسبية” الفقر تجعله يسير عاري القدمين فوق الأرض الساخنة الملتهبة ليودع أخاه عند السفر بالقطار لمقابلة الحكام، وفي نظراته العاشق لأقراص الطعمية الساخنة التي لا تُباع إلا في البندر، وهو مشهد بارع الإتقان حتى يوشك المشاهد أن يشم الرائحة الشهية، ما يكشف عن حرمانه واحتياجه لتلك الأشياء البسيطة التي تضفي على الحياة بهجة مفقودة، مثلما أن رغبته في الزواج من وصيفة تعبر عن حرمانه الجنسي وتطلعه إلى لمسة إنسانية جميلة، في حياة شاقة ليس فيها إلا العمل والمزيد من العمل.

دياب نفسه هو الذي يعود، بعد أيام قليلة يقضيها في سجن المركز، ليتمرغ في الأرض كأنه محروم منها لسنوات، وبهذا الارتماء الهستيري المصحوب ببكاء شجني، يجسد الفلاح البسيط حقيقة إن الأرض هي ملاذه الوحيد وعشقه الحقيقي، ومثل هذا التجسيد لا بطولة فيه إلا للغريزة والقيم الموروثة.

لا يقتصر الفقر على أفراد  بعينهم في القرية، فالفقراء كثيرون ومعظمهم بلا أسماء. فقرهم ناتج عن غياب فرص العمل، وهذا الغياب نابع من سياسة الحكومة غير الشعبية المعادية للفلاحين بلا هوادة. السلطة كما يقول محمد أبو سويلم: “سلسال واحد زفر”، يضم الحكومة والسراي والإنجليز جميعًا.

**

يقدم الفيلم قوتين متصارعتين: قوة الإقطاع المتمثلة في الباشا الكبير الغائب عن الأحداث، ومحمود بك الذي ينوب عنه، وقوة الفلاحين المضطهدين المحرومين بقيادة محمد أبو سويلم وعبدالهادي وآخرين تتراوح مواقفهم وصلابتهم بين الثبات والتردد.

العمدة( عبدالوارث عسر) بحكم وظيفه وموقعه الطبقي، حليف صغير للمعسكر الإقطاعي، وعداؤه معروف للفلاحين المتمردين الثائرين، لكن الكتلة الفلاحية تختلف مواقفها تجاهه من الطاعة والانصياع إلى الاعتراض والرفض.

العمدة في فيلم ليس الشرير الأعظم، وقد يكون مولعًا بالأذى في تعمده إخفاء مواعيد الري الجديدة عن الفلاحين، وفي التواطؤ مع محمود بك واستغلال العلاقة للإبلاغ عن أعدائه الشخصيين في مخالفات لا شأن لهم بها، فضلاً عن براعته في التآمر وإحداث الوقيعة في صفوف الفلاحين؛ لكنه في النهاية ليس إلا تابعًا ضئيلاً لقوى أكثر شرًا وشراسة. ليس أدل على محدودية دوره من أن موته لا يؤثر في الصراع القائم ولا يغير موازين القوى، بل إنه موته الذي يفجر الفرحة في قلوب كارهيه، يكشف عن كثير من الصراعات والأحلام والطموحات التي تتفجر في رحلة البحث عن العمدة الجديد. شيخ البلد باهت الشخصية يرى أنه الأحق، والشيخ يوسف يحلم بالمنصب الشاغر.

تحت شعار “آه يا بلد من غير عمدة”، يحتدم الصراع الذي تُستخدم فيه كل الأساليب والحيل، ولاشك أن المرشحين جميعًا يبشرون بعمدة لا يختلف عن سابقه. ربما تكون الوظيفة شرفية غير مجدية من الناحية المادية المباشرة، لكنها المنصب السلطوي الأرفع والأخطر في عالم القرية المحدود.

**

محمد أفندي أحد أهم الشخصيات المحورية الرئيسة في الفيلم، وهو لا يتميز عن الآخرين من أبناء القرية بأنه المتعلم الوحيد فحسب، لكنه أيضًا المدرس الموظف الذي يتقاضى راتبًا شهريًا يرتفع به اجتماعيًا واقتصاديًا في بيئة فقيرة تعتمد على النشاط الزراعي، ولا يعرف أبناؤها الدخل الثابت المضمون.

من الناحية الاقتصادية، فإن المدرس هو الوحيد الذي يمتلك سيولة نقدية. إذا كان بقال القرية الوحيد الشيخ يوسف( عبدالرحمن الخميس) يتعامل بالملاليم والقروش، فإن المدرس الموظف يتعامل بالجنيهات كما يتجلى في الرشاوي التي يقدمها لمحمود بك، وفي مقدم ثمن القطن الذي يدفعه لمحمد أبو سويلم.

بفضل هذا التميز الاجتماعي والاقتصادي، يعتبر محمد أفندي عضوًا بارزًا ف مجلس القرية العرفي الذي يضم القيادات والأعيان، ويجتمع ليتشاور ويتخذ القرارات المصيرية التي تخص القرية.

إذا كان محمد أفندي هو أكثر شباب القرية نجاحًا على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، فإن عبدالهادي أقرب إلى البطل الشعبي الأسطوري بفضل شجاعته )وقوته. التنافس بينهما منطقي، وتزداد حدته بالنظر إلى أنهما يتصارعان على قلب أجمل جميلات القرية، وصيفة بنت محمد أبو سويلم؛ (نجوى إبراهيم.

العلاقة بين الشابين المتنافسين متوترة، وعبدالهادي خشن فظ في معاملته إلى الدرجة التي تدفع محمد أفندي إلى الاحتجاج، وإظهار الاستياء والغضب: “احتشم يا عبدالهادي.. واتكلم بالأصول أحسن”.

يستطيع عبدالهادي منافسة غريمه في مجالات شتى، لكن الأفندي المتعلم هو من يحظى بشرف ومسئولية كتابة العريضة المرفوعة إلى الحكومة، وهو صاحب الفكرة منذ البدء: “أنا رأي نكتب عريضة للحكومة”، ويزيد فكرته شرحًا وتوضيحًا في قوله: “عريضة لوزارة الأشغال العمومية.. ولاسيما إن محمود بك له معارف كثيرين وربما يحملها لرئيس الوزراء شخصيًا”.

يكتب العريضة بأسلوب “فصحاء العرب” كما يقول، ويستخدم فيها عبارات هي الأكثر شهرة وبلاغة في ثقافة المرحلة التاريخية، ذلك أن صاحبها هو مصطفى لطفي المنفلوطي “1876-1924″، أحد أشهر الأدباء المصريين في الربع الأول من القرن العشرين: “سيفترشون الغبراء ويلتحفون السماء”!.

البلاغة التي يتيه بها محمد ويراها قمة الإبداع الناجح، يقول عنها محمود بك ساخرًا وهو يقرأ العريضة المكتوبة: “حمارمين اللي كتب الكلام ده؟”!

التعليق العنيف الساخر يقود إلى الكشف عن طبيعة العلاقة بين محمد “أفندي” ومحمود “بك”، فالاختلاف بينهما هو الاختلاف نفسه بين الرتبتين: الأفندي والبك.

**

في الفيلم ثلاثة من الشيوخ الذين يتلقون تعليمًا دينيًا في الأزهر: الشيخ الشناوي معلم الكتاب وإمام المسجد، الشيخ يوسف البقال المثقف المذبذب دائمًا بين الانتماء إلى القرية ومراودة الطموح الفردي، الشيخ حسونة القائد الثوري وناظر المدرسة الذي تجذبه نداهة المدينة فيعمل فيها ويقيم، لكن صلته لا تنقطع بالفلاحين والأرض.

الشيخ الشناوي( حسين إسماعيل) أهو من أن يكون شريرًا، ومكانته الدينية لا تحقق له وضعية اجتماعية محترمة. ثمة مشهد قصير بالغ الدلالة بعد هبوط الهجانة إلى القرية، فالشاويش الصارم لا يميز بينه وبين الفلاحين العاديين، وعندما يتساءل الشيخ عن مواعد حظر التجول التي تتعارض مع مواقيت الصلاة، تكفي فرقعة السوط لهروب وإنهاء المناقشة!.

للشيخ يوسف مكانة أكثر احترامًا، لكن مفاتيح شخصيته ترتبط بالدنيا وليس الدين، والتذبذب هو العنصر الأهم في تفسير الكثير من تناقضاته وتحولاته التي تزدحم بالعصبية والتشنج والإحساس الحاد بالاختلاف وسوء الحظ. حلم العمودية يبرهن على انتهازيته، وما الكلمات الثورية التي يرددها أحيانًا إلا التنفيس على الطموح المزمن إلى الصعود بلا إمكانات تعينه.

الشيخ حسونه( يحي شاهين) هو الأكثر أهمية مقارنة بالشيخين السابقين. يقدمه الفيلم قويًا مثاليًا داعيًا منتميًا، لا يتجار بالدين مثل الشيخ الشناوي، ولا يعرف التردد والتذبذب كالشيخ يوسف. إنه ثوري جريء يعارض ما يقوله محمود بك عن الحضارة والمدنية، في الوقت الذي يموت فيه الفلاحون والأرض عطشا.

ليست المسألة في قدرته على مواجهة البك المتغطرس، وليست أيضًا في المكانة التي يحظى بها عند الفلاحين الذين يسرفون في تبجيله واحترامه، ذلك أن تفاعلات الواقع من التعقيد والصعوبة بحيث تتجاوز الشعارات والنصائح. البناء الشامخ المتماسك، الذي يوحي بالثورية واستمرار المقاومة، ينهار سريعًا في لحظة الاختيار الحاسمة، فهو يتخلى عن المعركة في ذروة اشتعالها ويبحث عن مصلحته الشخصية: لن تُمس أرضه  في مشروع الزراعية: “وأرضيك انت ما تخافش عليها”!.

يخرج من المعركة، وعلى ملامح وجهه تتجلى أثار الصراع النفسي المحتدم بين الواجب العام والمصلحة الشخصية التي تنتصر.

الإدانة ممكنة واردة، لكن التماس العذر ممكن وارد أيضًا. لا يستطيع الشيخ أن يقود الفلاحين في معركة خاسرة غير متكافئة، فلا أقل من تحقيق المتاح من المكاسب الذاتية، ينتهي بعدها دوره في أحداث الفيلم وفي حياة الفلاحين.

**

يخوض فلاحو “الأرض” صراعًا شرسًا ضد السلطة المستبدة بأجهزتها المختلفة، التنفيذية والأمنية، ويُحسب للفيلم أن الوعي الذي يتسلح به الفلاحون ليس نظريًا مصنوعًا ينم عن ثقافة لا وجود لها، بل إنه غريزي عفوي مبرر، ومن هنا صدقه ومذاقه الإنساني المقنع. مثلما يتمرغ دياب في أخضان الأرض التي لا يعرف ولا يحب سواها، يُسحل محمد أبو سويلم في نهاية الفيلم محتضنًا الأرض المروية بدمائه. ليس فعل التمرغ/ دياب والسحل/ محمد أبو سويلم إلا فعلا واحدًا؛ جوهره الانتماء والتشبث بالحياة.

في هذا السياق، لابد من التوقف أمام مشهد غرائبي يجافي المنطق. تنهال شتائم المأمور( إبراهيم الشامي) على الشاويش النوبي (عبدالله)، جراء تقصيره واندماجه في حياة الفلاحين: “كنت فين.. سايب البلد على حل شعرها وداير تتصعلك مع الفلاحين.. دا كلام فارغ د.. أنا ها أعرف شغلي معاك.. أنا ها أرفدك…”.

مثل هذا التوبيخ المألوف، بالنظر إلى الفارق الشاسع بين المأمور والشاويش، لا يبرر الاعتداء الذي يتعرض له الضابط الكبير، ويسقطه السوط من فوق حصانه!. المبالغة على هذا النحو لا يسهل استيعابها، وقد يكون صحيحًا أن الهجانة لا يختلفون عن الفلاحين الفقراء في المعاناة والقهر، لكن الانضباط الصارم لا يتوقف مع المشهد المثير الذي يقدم انتصارًا مجانيًا يتسم بالمبالغة المتطرفة والإسراف الانفعالي.

في الفيلم تجسيد مؤلم موجع لما يعانيه الفلاحون المصريون في العهد الملكي البائد، وهؤلاء الفلاحون أنفسهم من يكابدون قهرًا مماثلاً بعد سنوات قلائل من عرض الفيلم، إذ تُسلب منهم الأراضي التي تُوزع عليهم بعد ثورة يوليو، ويواجه المحتجون الرافضون عنفًا لا يقل قسوة!.

 

زر الذهاب إلى الأعلى