البحث عن قاتل.. بقلم عبدالرحمن جاويش
منذ أن بدأت صناعة الترفيه وللجريمة مكانة خاصة في نفوس مستهلكي هذه الصناعة.. بدايةً من السينما مرورًا بالمسلسلات والعروض التلفزيونية والروايات الأدبية، حتى أن أشهر الأعمال الكارتونية هو “المحقق كونان” والذي لاقى رواجًا لدى كل الأعمال.. إنتهائاً بمقاطع اليوتيوب والبودكاست.. ولكن لماذا نفضل هذا النوع بالذات من القصص البوليسية .. (تخيَّل أن كاتب المقال يحدثك بطريقة محقق مخضرم).. سنعرف، ولكن بعد سطرٍ واحد من الآن.
-
وجبة متكلمة
هذه القاعدة الأولى في صناعة المحتوى.. ابحث عما يريده المُتَلقي..قارئًا كان أو مشاهدًا.. وهنا تجد الإجابات جاهزة، وجميعها مُحققة في في أفلام الجريمة..
أولًا : الأدرينالين غير مدفوع الأجر.. أفلام الجريمة تحقق لن عنصرين هامين في المتعة، أولهما هو الشعور بالخوف دون التعرض له بشكل فعلي، جميعنا يسعد بكونه ليس الضحية في جريمة القتل، وليس الجاني، وبالطبع أنه ليس المحقق المطلوب منه كشف الحقيقة.. وهذه ميزة أن تكون مشاهدًا !
أن تتعرض للخوف بطريقة يمكن التحكم فيها؛ وحينها يصبح التهديد مثيرًا، لكنه ليس مخيفًا.
ثانياً : يريد المشاهد أن يرى العقاب يتم تنفيذه على الجاني، حتى يشعر بالأمان داخل المجتمع، وأن كل مجرمٍِِ يتلقى جزءاً مثاليًا، الأمر الذي قد نختلف في إمكانية تطبيقه على أرض الواقع، لكن المشاهد يهتم بحدوثه في النهاية.
ثالثًا : والأهم أننا ننجذب للشر، نحب شخصية الشرير لأسباب تحتاج مقالاتٍ لشرحها، يكفي أن السبب الوحيد الذي يجعلنا نتابع نشرة الأخبار هو أنها قد تعرض جريمة تبرز شرًا في هذا العالم.
-
“عاركني!”
تعتمد أفلام الجريمة على الدخول في تحدي مع ذكاء المشاهد، وكأن صانع الفيلم يقول للمشاهد:
سأضع أمامك اللغز وحله، وسنبحث سويًا، ومن يصل أولًا يفوز”.. لكن المشكلة أن الجمهور دائمًا ما يخسر.. وهو ما يجعل اللعبة مستمرة حتى هذه اللحظة.
نلاحظ أن أفلام الجريمة هي أكثر الأفلام ميلًا للرجوع بالزمن للماضي، وهو شيء مبرر لأن التكنولوجيا اللعينة قد فضحت الكثير من أساليب كشف القاتل، كالأشعة والتحاليل وتقارير الطب الشرعي المتقنة.. لذلك كلما كان وقت الأحداث معاصرًا، كلما زادت المعضلة صعوبة، وكلما استمرت اللعبة.
و هذا السبب هو الذي جعل سلسلة الرسوم المتحركة “المحقق كونان” مستمرة حتى يومنا هذا، أن المتلقي لم يعرف يومًا حل اللغز، على الرغم من توافر المعطيات أمامه، لكن “سينشي كودو” دائمًا ما يكون أذكى وأسرع.
-
الحقيقة
من أهم المشاكل التي تعالجها أفلام الجريمة البوليسية هي “الحقيقة”.. في زمنٍ كهذا أصبحت الحقيقة لفظ مطاطي، وصار المؤلفين يميلون للرمزية، وترك اللوحات بلا ألوان حتى يكملها المشاهد.. لكن الحقيقة أن المتلقي لا يفضل هذه الحلول دائمًا.
حيثُ أن ظروف العالم لا تتيح لأحدٍ منا الوصول لأي حقيقة، ولا حتى حقيقة ذاته !!
لذا أفلام الجريمة تفعل هذا، فدورها أن تعطيك نهايات مُحكمة تمامًا، إما بيضاء أو سوداء.. الأشرار على اليسار، والأخيار على اليمين، والمحقق يعرف كل شيء.. لا داعي للرمادية خلال ساعتين – هما مدة الفيلم- من حياتك.
-
قصة جيدة ومشاكل إنتاجية
بالطبع نحب أفلام الجريمة لأنها دائمًا ما تكون حبكة جيدة مليئة بالالتواءات، ولحظات الكشف والتنوير.. والسبب في هذا أن هذه الأفلام غير مكلفة إنتاجيًا، فيكفي تأجير فيلا أو معسكر في الصحراء لعمل فيلم جريمة ناجح ومتكامل.. مما جعل المنتجين يقبلون على هذه الأعمال، الأمر الذي بدا جيدًا لكُتَّاب هذا النوع من الأفلام، لكنه في الحقيقة لعنة.
فقد كثرت القصص البوليسية، وتهافت صناعها على إبهار المنتجين بحبكات متقنة في أماكن محدودة، مما يرفع من جودة الأعمال، فيختار المنتجين مرادهم بعناية، ويستنفذ المؤلفين أدمغتهم في إيجاد حبكات جديدة .. فيصبح الأمر أشبه باستعراض لذكاء المؤلفين بين بعضهم البعض، ومدى قدرة كل منهم على تعقيد اللغز .. وبالطبع المشاهد هو المستفيد الأول.
-
الدافع
حل أي جريمة يكمن في ثلاثة أسئلة:
من القاتل، وكيف قتل، ولماذا قتل؟
قد يبدو لك أن السؤالين الأول والثاني هما الأصعب، لكن الحقيقة أن الدافع هو أصعب جزء من تأليف أي جريمة.. الدافع هو ما يخلق قصة جيدة متماسكة لا تعتمد على الجريمة بمفردها، الدافع هو ما قد يقدم نظريات تربوية ونفسية جديدة، كذلك يساعد على استكشاف المجرمين في الحياة.
كلما تعقد الدافع كلما زادت متعة القصة؛ تخيل أن يكون الضحية محبوب جدًا، أو مكروه جدًا.. ففي الحالة الأولى لا يمكن تخمين المشتبه فيهم، أما في الحالة الثانية يصبح الجميع بمن فيهم طاقم الفيلم مشتبه فيهم !!
وفي كلا الحالتين المتعة مضمونة.
في النهاية القتل يبدو في الأفلام سهلًا، لكن الحقيقة، هي من الصعب أن تسلب روحًا بلا دافع.. وهو ما يميز أفلام الجريمة.