الحياة على طريقة زوربا اليوناني| بقلم عبد الرحمن جاويش
لا أظن أن تحدي صناعة فيلم مثل “زوربا اليوناني” بدا عسيرًا في بدايته؛ فأنت أمام رواية عالمية للكاتب “نيكوس كازانتزاكيس” واسمها الأصلي “حياة أليكسس زورباس” عن قصة حقيقية لعامل المناجم “جروج زورباس”، الذي خلده كاتب الرواية، ومعك حبكة مسلية لا تتطلب الكثير من الإنتاج، ولديك عقدًا للبطولة مذيلًا بإمضاء غول التمثيل “أنتوني كوين”..
ولكن صناع هذه المعزوفة قرروا ألا يستسلموا لكل هذه المغريات وتعاملوا مع الأمر باهتمام حقيقي بأدق التفاصيل.. ليخرج لنا المنتج النهائي عظيمًا؛ لوحة فنية متكاملة يتجلى فيها معنى السعادة وأن “تعيش” حياتك بأبسط طريقة ممكنة، وألا تفقد شغف الحياة مهما مررت من مصاعب، وهو ما يعبر عنه “كوين” مستخدمًا أفكار زوربا وطاقته على الورق لينقلها على الشاشة بحركات جسمانية وتعبيرات حية، ورقصة هي الأشهر في تاريخ السينما.
حكاية زوربا تبدأ وسط عاصفة جوية، وأخرى نفسية لبطل الحكاية “باسيل” المثقف المكتئب، ابن الطبقة الوسطى، والذي نال حظه من الميراث أرضًا سيفتتحها منجمًا في جزيرة “كريت”، ومن الرفاق “زوربا” العامل اليوناني الباحث عن عمل، والذي تبدو بساطته من اللحظة الأولى، واختلافه التام عن “باسيل”.. يظل باسيل يحادث زوربا وكأنما يناجي نفسه.. يألف كلا منهما صحبة الآخر في رحلة وعد فيها باسيل زوربا بإدارة منجمه بنفسه.
يبلغ الرفيقان الجزيرة، وهناك يتعرفان على “بلدة الأرامل” والتي يحصلان فيها على ترحيب حار من مجتمع كريت البسيط، وخاصةً من الأرملة الفرنسية “هورتنس” التي سرعان ما تدخل في علاقة مع زوربا الذي لا يدير ظهره لما تتيحه الحياة له من سعادة.. نتابع بعد ذلك مغامرات الثنائي في افتتاح المنجم ومحاولاتهما للتغلب على كافة المصاعب.. والتي دائمًا ما يعقدها “باسيل” ويبسطها “زوربا” برقصته المبهجة التي تجعلك تؤمن باختفاء الأزمات من حوله.. لكنه يعقب على خوف “باسيل” ساخرًا: “يا زعيم الحياة هي المشكلة، أما الموت فبعده تنتهي المشكلات، طالما أنت حي، ابحث عن المشكلات”.
ولكن سرعان ما ترد الحياة الصفعة لزوربا.. فيخسر أموال باسيل عبثًا في الملاهي الليلية، ويثور أهل البلدة على “باسيل” بعد أن أقام علاقة غرامية مع إحدى أراملهن الشابات حركت ثورتهم، وتورط في زيجة من مدام هورتنس.. وتقتل الأرملة الشابة انتقامًا من أهل البلدة.. وواجه مشروع المنجم إخفاقًا جمًا، وهنا يكشف زوربا عن وجهه الأشرس للحياة؛ فيسخر من الأقدار ويدعو رفيقه للشرب والرقص، في ملحمة إنسانية نادرة، يتعلم فيها “باسيل” كيف يعيش.
المتعة الحقيقية في الفيلم تكمن في المحاورات والجدالات المختلفة التي يخوضها باسيل مع زوربا، وسط الأحداث المختلفة، ومن اللحظة الأولى يظهر ميل الكاتب لانتصار العامل على رئيسه فيما يخص الكلام.. ويظهر هذا جليًا في جملة حوارية من زوربا لم يجد لها “باسيل” مردًا، حين قال زوربا أنه يمكنه البصق على جميع الكتب، فالحياة أكبر بكثير من هذا الحيز الورقي الضيق.
وهو ما يدركه “باسيل” بالفعل في النهاية، بعد خسارته المالية الكبيرة، فيلغي المشروع ويغلق المنجم ويغادر “كريت” ليرقص مع زوربا الرقصة الأخيرة على شاطئ المتوسط.
أحب الحديث عن هذا الفيلم لأنه لا ينتهي عند حيز المئة وأربعين دقيقة هي مدة الفيلم.. لكن أثره يمتد في نفوس مشاهديه لما تبقى لهم في هذه الحياة.. لذلك أعيد إنتاج نفس الرواية في صورة مسرحية في أكثر من دولة، إحداها كان بطولة أنتوني كوين ذاته، وأشهرها في الوقت الحديث كانت عام 2009 حين قام “أنتونيو بانديراس” بلعب دور زوربا.
كما يظهر أثر الفيلم جليًا في موسيقى “زوربا” التي باتت جزءًا أًصيلًا من الفلكلور اليوناني، وهي من أهم العلامات الفنية للثقافة اليونانية الشعبية.. كذلك أدى الفيلم لنشأة رقص السيرتاكي(Sirtaki) وهو فن قائم بذاته يشبه “الدبكة” اللبنانية، وقد أصبح بفضل الفيلم رقصةً عالمية.. ويظهر كذلك في مطاعم البيتزا التي اتخذت من “زوربا” اسمًا لها.
كل هذا لم يكن ليحدث لولا أن صُنَّاع العمل تعاملوا معه بالجدية المطلوبة، ورفعوا مستوى التحدي، ليخرج العمل من نطاق “العمل الجيد” للوحة الفنية التي لا يزال لها جمهورها بعد مرور أكثر من خمسين عامًا على صدورها.