الشر المقيم بقلم: محمد جمال
أنحني علي ركبتي أمام المذبح أنظر لتمثال المسيح المصلوب و الذي وقع عليه ضوء بدر هذه الليله و أضم يدي بقوة و أصلي … أتوسل إليه و أتضرع كي يحمي البلدة من الشر القديم الذي يقبع في البحيره …
شر كامن هناك من قبل أن يوجد بشر علي هذه القاره … شر مقيم كان و سيكون للأبد و لا أدري كيف أحمي الأبرياء منه …. فقط كل ما أدركه أن الشعور بالعجز بدأ يحاصرني… بدأت أفقد قوتي السابقه و كأن الإيمان يغادر قلبي … لا أدري ما الذي علي فعله …
فقط أحاول الصمود و لكن لكن إلي متي ؟ … أحاول المقاومة و لكن أين النتيجه ؟ … فسأموت في النهايه لتأكل جسدي الأرض و سيبقي هذا الشر … أنظر الي عيني المسيح المتصلبتين لألحظ تلك الدمعة التي تسقط علي وجهه وتتسارع في عقلي الذكريات و تعيدني إلي يوم بدايتي مع ذلك الشر …
كانت ليلة مظلمه … ليست ظلمة الليل العاديه بل ظلمة بداخل الظلمه و كأن ظلام الكون كله تجمعت فيها … في تلك الليله كنت في منزلنا الصغير بجوار النهر… غارقا في النوم بجوار أمي التي تحكي لي قصة و لم تدرك بعد أن النوم قد أسرني… كان عمري لا يزال ست سنوات فقط و كنت أبق وحدي طيلة اليوم حينما كانت أمي تعمل كخادمة في البلدة المجاورة لنا …
هكذا كانت تعمل بجد كل يوم مهما أرهقها المرض و التعب فقط لكي تستطيع إبقائي حيا بعدما توفي والدي … لكنها لم تخبرني يوما كيف مات …تكتفي فقط بإخباري بأنه مات حينما كنت رضيعا و انه مات لأجلي … لم أفهم وقتها كيف مات لأجلي و لكن كل فهمته أنه ضحي كي أستطيع البقاء علي قيد الحياه …
و بينما كنت علي وشك النوم بجوار أمي وهي تحكي لي تلك القصه عن ذلك الأرنب الكسلان الذي هزمته سلحفاة في السباق لأنها عملت بجد و لم تتكاسل … إخترق ذلك الصوت المرعب ظلام الليل …تسلل من بين جدران المنزل ليقتحم أذني الصغيرتين و أسمع ذلك الصوت البشع المخيف القادم من بعيد وهو يصرخ
” لقد حان الوقت و لكن لا أحد في البحيرة بعد ! ”
لم أدر ما هذا الصوت المخيف فقط نظرت الي أمي لألحظ الدموع التي هربت من عيناها وهي صامته لأسألها
” ما هذا الصوت يا أمي ؟؟ ”
نظرت إلي بعيونها التي حملت آمان الكون كله و قالت
” لا تقلق يصغيري … فهذا الشر بعيد عنا … فقد ضحي والدك بنفسه كي يبقيه بعيدا عنا … هيا نم الأن ولا تحمل هم شيء ”
لأضع رأسي علي صدرها الدافيء و أغط في نوم عميق علي نغمات أنفاسها و دقات قلبها …
لم أعلم كم مر من الوقت و أنا نائم … فقط كل ما أذكره أنني إستيقظت علي دقات عنيفة علي باب المنزل … لأفتح عيني ببطء و أري أمي وهي تخرج من الغرفه لتجيب الطارق … لا أعلم ما الذي حدث لم أكن أقوي علي مغادرة الفراش … ولكن كل ما إستطعت سماعه هو صوت ذلك الرجل العنيف الذي يتحدث لوالدتي وهو يقول
” لقد حان الوقت ! ”
و لكن صوت أمي أجابه و قد تخلله الخوف
” ولكنكم وعدتم زوجي ؟ … وعدتموه أنكم لن تأخذوني أو تأخذوا طفلي لو ضحي بنفسه لغول البحيره ! ”
” لا أذكر مثل هذا الوعد … لقد حان الوقت و ستأتي معنا الان برغبتك أم سنأخذ طفلك رغم عنك و لن تستطيعي فعل شيء ”
سيطر الصمت قليلا قبل أن تجيب أمي
” سآتي معكم ولكن عدوني أن تعطوا طفلي للكنيسه … أرجوكم و إلا سأقتل نفسي و أقتله معي الأن ! … و ستبحثون عن تضحية أخري تحمي كبار بلدتكم ”
فأجابها الرجل
“إتفقنا … لن نقلق الطفل الأن و سنتركه نائما و في الصباح سنذهب به للكنيسه ”
لأسمع بعدها صوت خطوات ثم صوت غلق الباب و أغرق في نومي مجددا … بالطبع ظننت كل هذا حلما … ظننت أني سأستيقظ لأجد أمي لا تزال نائمة بجواري … و لكن هذا لم يحدث … إستيقظت و لم أجد أحدا بالمنزل ….
طفت المنزل بأكمله بحثا عنها و لكن لا شيء …
” و لكنه لا يزال حلما ! ”
هكذا أخبرت نفسي كي لا أشعر بالحزن و يكتنفني الخوف … فأمي كانت كل شيء في عالمي …
” بالتأكيد ذهبت للعمل و ستعود في النهايه ”
هكذا جعلت نفسي أنتظرها علي أمل أن تعود … فقط جلست أمام المنزل أنتظر أن أسمع خطواتها في الخارج خلفه لتفتحه في أي وقت و تضمني و أشعر بالأمان مجددا …و لكن ذلك الأمل إختفي تماما حين سمعت ذلك الطرق العنيف علي الباب و الذي لم يغادر ذاكرتي بعد …
إقتربت من الباب بخطوات متردده … مددت يدي الصغيره و حركت مقبضه و دفعته لأجد رجلا ضخما يقف أمامي و قد حمل وجهه كل صفات الغضب …و الذي نظر إلي بنظرة مشفقة و قال
” تعال معي أيها الصبي فأمك قد غادرت المنزل و لن تعود ”
إستطعت تذكر صوته جيدا … و فهمت أخيرا أنه لم يكن حلما … لم أبك .. الأطفال فقط يبكون و قد وعدت والدتي من قبل أنني سأكون رجلها الذي لا يبكي …
أخذني ذلك الرجل الغاضب للكنيسه … و هناك تعرفت علي القس الذي جعلني تلميذه و مرت الأيام و السنين لأكبر و أدرك كل شيء … و أفهم قصة الغول الذي يسكن بحيرة البلده من زمن طويل … و في كل عام في ليلة محدده يصرخ بصوته البشع من أسفل البحيره
” لقد حان الوقت و لكن لا أحد في البحيرة بعد ”
و لكي يتقي أهل البلدة شره كانوا يضحون كل عام بشخص ما و يلقونه في البحيره و هكذا يصمت الغول و ينتظر للعام الذي يليه قبل أن ينادي مجددا علي ضحية أخري …
و كان إختيار التضحية يسير بالقرعه و لكن حينما كانت تقع القرعه علي أحد كبار القريه كانوا يبعثون رجالهم لإحضار بدلاء لهم مقابل وعد أن القرعة لن تمس عائلاتهم في المستقبل و لكني أعلم جيدا أنهم لم يلتزموا بهذا الوعد أبدا …
مرت السنين و كل عام كانوا يلقون بأحد ما في البحيره إلي أن توفي القس و أصبحت أنا قس البلده و كنت قد قررت أننا لن نضحي بأحد لذلك الغول مجددا … لن نلقي بأحد في البحيره …
بالطبع رفض الجميع قراري … كانوا يشعرون بالخوف كان الفزع قد سكن قلوبهم فهذا ما وجدوا عليه أبائهم طول السنين التي مضت …
” و يا تري كيف سيعاقبنا الغول ؟ ”
كان هذا سؤال أحد كبار البلده لي في الإجتماع الذي قررت أن أعلن فيه عن قراري بأننا لن نضحي بأحد لهذا الشر فأجبته بنبرة واثقة ..
” هل رأيت عقابه بعينيك يوما ؟؟ ”
نظر حوله للبقية و لم يجد إجابة فأكملت حديثي
” في الواقع لم نره يقوم بفعل أي شيء سوا الصراخ بصوته البشع طلبا للتضحيه …. فلماذا نضحي ؟ ”
أجابني أحدهم أحدهم
” لأننا نخشي عقابه فحتي إن لم نره نحن لا نضمن شيئا ”
فأرد عليه
” إذا تفضلون أن نضحي كل عام بأحدنا باستخدام قرعة ما …. كل عام تواجهون خطر أن يكون أحدكم أنتم هو تضحية العام … كل عام تواجهون خوفكم من غضب الناس المتصاعد ضدكم حينما يعلمون انكم إستبدلتكم أنفسكم بفقير ما مقابل وعد هش ”
لتتيغر معالم وجوههم للخوف وهم ينظرون لبعضهم البعض فأدرك أني ضربت الوتر الصحيح و أكمل
” نعم … فالناس يعلمون و لن يمض الكثير من الوقت حينما يصل غضبهم عليكم لذروته و يقررون أنهم سيضحون بكم جميعا و لن يحميكم حراسكم بل ربما سينضمون إليهم خوفا من غضبهم … إذا ماذا ستقررون ؟؟ هل ستمنعون التضحيه لذلك الشيء الذي يستغل خوفكم أم ستعطونه ما يريد ليتغذي علي المزيد و المزيد من رعبكم حتي يقتلكم في النهايه ”
لينظروا لبعضهم البعض نظرة أخيره قبل أن يقرروا ألا تضحيات بعد اليوم و هنا شعرت أخيرا أنني حققت وعد أبي و وعد أمي حينما ضحوا من أجلي ليبقونني علي قيد الحياه …
و مر العام تلو العام و الغول ينادي
“لقد حان الوقت و لكن لا أحد في البحيرة بعد! ”
و لكنه لا يجد مجيبا … و حينما أدرك الناس أن الغول لا يملك سوا النداء ولا يحدث شيء … أصبحوا يتجاهلونه و إختفي الخوف من قلوبهم إلي أن جاء ذلك اليوم …
كانت الليلة هي الليلة المنشودة لنداء الغول … و كانت قد أصبحت عادتي أن أجول في تلك الليله علي ضفاف بحيرة البلده و أشعر بانتصاري علي ذلك الشر الذي يسكن أسفلها ….
و لكن في تلك الليلة و بينما كنت أجول و اتأمل النجوم في السماء علي ضفاف البحيره بعدما سمعت نداء الغول سمعت صراخ إمرأة قادما من مسافة قريبة ….
هرعت لمصدر الصوت و ركضت بأقصي سرعتي لأجد إمرأة جالسة علي الأرض تبكي و تصرخ و بينما أبنها يتقدم بخطوات بطيئه و كأنه ليس بوعيه ….يسير في البحيره و قد وصلت المياه بالفعل لمستوي ركبتيه بينما تصرخ المرأة طلبا للمساعده كي ينقذ أحدهم إبنها و لكن الجميع ورائها كانوا ينظرون لها بخوف لا يجرئون علي الإقتراب منها …
لذا قررت أن أنقذ أنا الفتي و ركضت بسرعه الي البحيره وحاولت اللحاق بيه بينما مستوي المياه يرتفع حولي شيئا فشيئا بينما قد وصلت المياه لصدر الفتي … لأمسك بذراعه و أشده بكل قوتي خارج المياه و لكنه كان يحاول مقاومتي و كأن قوة ما تسحبه نحو قلب البحيره …. لم أتركه و قاومت بكل قوتي الي أن إنتزعته منها و سحبته إلي الضفة مجددا لتضمه والدته….
بينما يراقبنا الجميع بلا حراك … فقط ينظرون إلينا بعيونهم الخائفه … حاولت التحدث الي الفتي و لكنه لم يكن بوعيه فقط قال جملة واحده
” إنه يناديني داخل عقلي … إنه يريدني أن أنضم إليه يا أبتي ”
لأدرك أن ذلك الغول قرر إستخدام سحره أخيرا للحصول علي ضحاياه و أنه سيحاول مجددا و لكن محاولته لهذه الليله قد باءت بالفشل و أنقذت الفتي ليعود مع والدته …
و منذ تلك الليله و أنا أنقذ ضحايا سحر الغول عاما تلو الأخر بينما لا يجروء أحد من سكان البلده علي مساعدتي و يكتفون بالمراقبة فقط
” و لكن لا يهم … سأنتصر علي ذلك الغول و لن أدع سحره ينتصر ”
كان هذا قراري … فمهما تخلي أهل البلدة عني و عن الضحايا لن أيأس و لن أجعل الغول ينتصر … سأنقذهم جميعا … و لكن الي متي ….
و هذا يعيدني الي هذه الليلة مجددا … فهذه الليلة المنشوده و أنا الأن أنتظر ندائه لأقوم بجولتي علي ضفاف البحيره و أنقذ الضحية الجديده
” و لكن إلي متي ؟ … فقد أصبحت عجوزا يا إلهي … و بمجرد أن تذهب إليك روحي سأترك هذه القرية بلا منقذ …أرجوك لا تتخلي عنهم يا إلهي فهم عبادك الضعفاء حتي و إن سيطر عليهم الخوف … أرسل لهم من ينقذهم من بعدي ”
كانت هذه دعوتي في صلاتي أمام جسد المسيح قبل أن يخترق أذني صوت نداء الغول
” لقد حان الوقت و لكن لا أحد في البحيرة بعد! ”
لأنهي صلاتي و أغادر الكنيسه و أقوم بجولتي علي ضفاف البحيره …
أسير بلا هدي فقط أراقب ما حولي فالضحية ستأتي عاجلا أم أجلا …. أتأمل النجوم و القمر في السماء و قد أصبح بدرا ليذكرني بأمي …
لقد كانت تحكي لي قصة ما قبل النوم في مثل هذا الوقت …لهذا ما أفعله هو أقل ما يمكنني فعله لاكرم ذكراها داخلي …
كانت البحيره جميله .. فقد كانت تعكس صورة السماء فتصبح كفضاء لا نهائي يمكنك السباحة في جماله و لكن ذلك الجمال يخفي شرا يسكن أعماقها… ليقطع تأملي صوت الصراخ القريب …
ركضت باتجاه الصوت لأجد تلك الفتاة الشابه و هي تسير كالنائمه في البحيره متجهة لأعماقها و قد وصلت المياه لمستوي صدرها بالفعل لذا هرعت إليها … نزلت الي الماء بأقصي سرعتي بينما كانت تصرخ هي بحديث غير مفهوم
” أنا قادمة يا أمي !! … لا تتركيني أرجوكي !! ”
حاولت الإقتراب منها و لكنها كانت تبتعد عني أكثر فأكثر لأحاول أن أنادي عليها
” هذا سحر الغول … أيا كان ما تراه عينيكي لا تجعليه يخدعكي فهو مجرد وهم ! ”
و لكنها كانت تسير و كأنها لا تسمعني … لذا حاولت أن أسرع من خطواتي لألحق بها بينما يرتفع مستوي الماء من حولي لأمسك بيدها أخيرا
” هيا ساعديني أرجوكي لأخرجكي من هنا ! ”
لتلتفت إلي و تظهر عيونها التي كانت سوداء كسماء الليل لتجيبني بصوت بشع مخيف أعرفه جيدا
” بل أنت من ستأتي معي أيها القس … لقد أمسكت بك أخيرا ”
لأدرك الفخ الذي وقعت به … الفتاة كانت الغول لقد خرج من مسكنه تحت البحيره ليمسك بي فقط …
أمسك بذراعي بيده التي تحولت ليد بشعه و بمخالبه الحاده التي إنغرست في لحم ذراعي ليجذبني معه الي داخل البحيرة أكثر و أكثر و انا أحاول مقاومته بكل قوتي ولكن قوتي تنهار أمام قوته الخياليه بينما يضحك و يقول
” لسنين و سنين و أنت كنت السبب في حرماني من طعامي و لكن طفح الكيل … جعلتني أخرج لأجلك فقط … و لتسمعني جيدا أيها القس .. سنستمتع معا كثيرا ” …
لم أستطع مقاومته وحدي … كنت أحتاج مساعده … نظرت الي ضفة النهر لأجد أهل القرية هناك … يقفون بلا حراك يراقبونني فقط .. صرخت طلبا لمساعدتهم و لكن بلا رد … فقط تحولوا إلي أصنام ينظرون إلي بعيونهم الخائفه …
إستطعت التعرف علي الكثيرين بينهم ممن أنقذتهم في السنين السابقه و لكن نظرات أعينهم الخائفة أخبرتني كل شيء لقد أثروا السلامة علي إنقاذي …
و هنا و حينما وصل الماء الي رأسي و بينما يجذبني الغول لأعماق البحيره و قد قررت أن أستسلم له … أدركت ماهية الشر المقيم الحقيقية …