الحياة والمناخزراعة

الضباع المُفترى عليهم.. كيف انهارت الصومال بأيادي صندوق النقد الدولي؟ (2)

الضباع المُفترى عليهم.. كتب الاقتصادي الكندي، ميشيل تشوسودوفسكي، في كتابه “عولمة الفقر”، أن برامج (تثبيت الاقتصاد الكلي) و(التكيف الهيكلي)، التي فرضها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي على البلدان النامية (كشرط لإعادة التفاوض) في ديونها الخارجية منذ أوائل الثمانينات، أدت إلى إفقار الملايين من الناس.

وفي تناقض مع روح اتفاقية بريتون وودز التي قامت على (إعادة البناء الاقتصادي) وثبات أسعار الصرف الرئيسية، أسهم برنامج التكيف الهيكلي إلى حد كبير في زعزعة العملات الوطنية، وتدمير اقتصادات البلدان النامية.

الضباع المُفترى عليهم والاكتفاء الذاتي في الصومال

اقتصاد الصومال كان بالأساس قائم على رعي الماشية وتصديرها للخارج بالأخص الأبقار والأغنام والماعز، وكمان الزراعة كانت جزء أساسي من الاقتصاد، وده كان بيوفر للدولة والشعب كل الغذاء المطلوب وكمان كان بيتصدر الجزء الفائض من الإنتاج ده.

الصومال كان عندها اكتفاء ذاتي غذائي إلى حد كبير، ونسبة الاستيراد كانت ضئيلة جدا، ودا لأنهم مكفيين كل احتياجهم اللي يخلي الشعب قادر يأكل ويشرب ويعيش كويس وكمان بيصدر، فكان متوفر الأمن الغذائي للسكان وكمان استقرار في الأوضاع الاقتصادية للبلد.

وكمان جزء كبير من أساس الاكتفاء الذاتي كان “الزراعة المروية”، وهي الزراعة اللي بتعتمد بشكل كامل على المياه الجوفية ومياه الأنهار، وده كان بيخلي الصومال صامدة في فترات قلة المطر والجفاف.

انقلاب بري وغزواته ضد جيرانه!

في أكتوبر 1969؛ قاد محمد سياد بري انقلاب عسكري في الصومال، أطاح بحكومة عبد الرشيد شارماركي، وده بعد انتخابات البرلمان اللي حصلت في مارس نفس السنة، لما كسب حزب الشعب الصومالي اللي كان بيمثل قبائل الدارودية، بأغلبية قليلة نسبيا، مما أدى إلى حدوث توتر بين القبائل وبعضها، وقتها رأى بري أن الفرصة سانحة للانقلاب.

وزيه زي كل الانقلابات في فترة الستينيات؛ خاصة في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، حاول بري أن يصور الانقلاب على إنه فعل ثوري، وذلك بإتخاذه مجموعة من القرارات والإجراءات الاقتصادية التي أطلق عليها “اشتراكية”، وبعدها أعلن إن الصومال دولة اشتراكية وأمم معظم وسائل الإنتاج الزراعي والحيواني اللي بيقوم عليه اقتصاد البلد، وجعل الفلاحين يقدروا يزرعوا في أرض تبدو إنها ملكهم لكن في الحقيقة كانت كل حاجة تحت سلطة المجلس الثوري وملكه.

كما أنشاء “المجلس الثوري الأعلى”؛ وهو الكيان الذي أصبح السلطة المطلقة للحكم في البلاد، وكان المجلس يضم بري وعدد من المقربين له، وفي المقابل؛ اعتقل بري المعارضين له ولسياساته، وهم من قدروا بالآلآف.

ثم قرر مواجهة جيرانه “كينيا وإثيوبيا”، بدعوى إن الاستعمار قسّم الصومال، وعمل على ضم بعضا من الأراضي الصومالية إلى كلً من كينيا وإثيوبيا، وفي سنة 1963 أعلن بري الغزو على كينيا في محاولة لضم منطقة الشمال الشرقي من كينيا، والتي تحوى سكاناً صوماليين، واستمرت الحرب حتى سنة 1967 وانتهت بتوقيع اتفاق لوقف إطلاق النار بين البلدين.

ثم في سنة 1977، قرر بري غزو إثيوبيا في محاولة لضم إقليم أوجادين اللي كان عليه نزاع بين البلدين، في البداية الصومال حققت انتصارات وسيطرت على معظم إقليم أوجادين، لكن بمساعدة الاتحاد السوفييتي اللي اتخلى عن الصومال رجعت إثيوبيا تاني في الحرب، وطردت الجيش الصومالي واتهزمت الصومال وبري للمرة التانية في محاولاته لاسترداد مناطقه.

زيادة الإنفاق العسكري والتدهور الاقتصادي للصومال

أنفق بري؛ مبالغ طائلة لاستعادة الجيش الصومالي، بعد أن كان دمٌر بفعل الاستعمار، وذلك حتى يتمكن من فرض سيطرته على الدولة، ذلك من ناحية؛ ومن ناحية أخرى ليتمكن من تحقيق أهدافه في غزو كينيا وإثيوبيا، وهو الأمر الذي أدى إلى التأثير على ضرورات الإنفاق على الإنتاج الزراعي والحيواني وحتى البنى التحتية.

وبعد كل تلك الأموال المهدرة؛ وانهيار تحالف الصومال مع الاتحاد السوفييتي بعد خسارته حرب أوجادين، حولت الصومال وجهتها للغرب زي كل الدول المديونة، وبدأ التواصل مع صندوق النقد الدولي.

روشتة صندوق النقد الدولي وانهيار الصومال

واتوقعت اتفاقية استعادة سياسة الاقتصاد الكلي في فبراير 1980، مع صندوق النقد الدولي بخطته المعهودة تحت اسم “التكيف الهيكلي”، ووافق الصومال على تنفيذ روشتة الصندوق اللي تتمثل في التحرير الاقتصادي، وخصخصة القطاع العام وتخفيض الإنفاق الحكومي على الخدمات الاجتماعية والبنى التحتية وتحرير أسعار الصرف وخفض العملة المحلية.

تعثر الاتفاق لفترة؛ حتى سنة 1981 بعد ما خفض الصومال العملة الوطنية “الشلن” حوالي 50% من قيمته وقتها بتوصية من صندوق النقد الدولي، وده كان هدفه زي ما قال صندوق النقد “زيادة الصادرات الوطنية وجذب الاستثمارات”، وبدأت الحكومة في تنفيذ برنامج تقشف شديد جدا علشان تقدر تغطي احتياجات الشعب من الغذاء بالتحديد، وكمان بري ينقذ نفسه بعد الهزائم اللي اتعرض ليها في فترة حكمه.

وفي سنة 1982؛ صندوق النقد “شاف” إن تخفيض “الشلن” غير كافي، لمساعدة الصومال في أزمته، وطالب بتخفيض العملة مرة تانية، وتلاها عمليات تخفيض أكتر من مرة! ثم بدأت الحكومة الصومالية في تحرير سوق الحبوب بعد ما كانت بتتحكم فيه، وتعمل على دعم للمزارعين، بغرض تنمية الاقتصاد الصومالي، لكن التحرير أدى إلى ارتفاع أسعار البذور ومستلزمات الزراعة، وهو الأمر الذي أدى إلى تعثر العديد من المزارعين وعدم قدرتهم الوفاء بإحتياجات العملية الزراعية.

وفي المقابل؛ قدم “الصندوق” وصفتة الجديدة، حيث اقترح على الحكومة إن المزارعين يوقفوا زراعة المحاصيل الأساسية زي الذرة مثلا! ويزرعوا محاصيل “مهمة” للتصدير زي الفواكه والخضروات والبذور الزيتية، وهو ما أدى إلى تحول الصومال من الاكفتاء الذاتي للغذاء، إلى دولة لديها نقص وفقر غذائي، وكنتيجة لتلك السياسات حتى المزارعين أنفسهم أصبحوا يعانون، وغير قادرين مما أدى إلى تبوير مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية، وانهيار قطاع الزراعة.

الاقتصاد الحيواني من الازدهار للخصخصة والانهيار

كان الاقتصاد الحيواني في الصومال يمثل جزءا مهما من الاقتصاد العام للبلاد، ويعد مصدرًا رئيسيًا للدخل والتوظيف للعديد من السكان، وكان يسهم بشكل كبير في الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وكما فرض صندوق النقد على الحكومة الصومالية خصخصة كتير من القطاع العام، ركز الصندوق على الاقتصاد الحيواني وطالب بفرض رسوم كبيرة على الخدمات البيطرية اللي بيستفيد منها المربين للماشية، وطالبت الحكومة برفع ايديها عن المعامل والمستشفيات البيطرية وخصخصتها، ما أدى إلى انهيار الثروة الحيوانية للصومال.

الإنفاق الحكومي على التعليم والصحة

بدأ الصومال في تنفيذ خطة صندوق النقد والبنك الدولي، ونتيجة لتزايد الديون انخفض الإنفاق على التعليم في فترة الثمانينيات بالمقارنة بفترة السبعينيات، وذلك بسبب تعثر السلطة الحاكمة بالصومال في دفع ديونها المتزايدة، وركزت كامل سعيها لتحصيل مبالغ الديون حتى لو على حساب مصالح المواطنين.

فانخفض معدل الالتحاق بالتعليم الابتدائي في الصومال، من 70% في السبعينيات إلى 40% في الثمانينيات، واستمر انخفاض النسبة حتى انهار التعليم بشكل تدريجي، وتقلص أعداد المدرسين بسبب تناقص أجورهم، وتراجع دور الدولة في توفير الكتب المدرسية.

كما انخفض معدل تغطية الرعاية الصحية في الصومال من 70% في السبعينيات إلى 40% في الثمانينيات، وزيها زي التعليم النسبة فضلت تتناقص بشدة، مما أدى إلى انتشار الأمراض المعدية في الصومال.

من دولة الاكتفاء الذاتي إلى المجاعة

بيقول الاقتصادي الكندي، ميشيل تشوسودوفسكي، في كتابه “عولمة الفقر” إن “برنامج التكيف الهيكلي عزز اعتماد الصومال على الحبوب الأجنبية ومن منتصف السبعينيات إلى منتصف الثمانينيات زادت المعونة الغذائية للصومال خمسة عشر ضعفا بمعدل 31% سنويًا، وأدى هذا التدفق لفائض القمح والأرز الرخيص على الأسواق المحلية إلى تشريد المنتجين المحليين، وإلى تحولات كبير في أنماط الاستهلاك الغذائي على حساب المحصولين التقليديين (الذرة والسرغوم)”.

تدمرت الزراعة الغذائية في الصومال بعد انهيار البنية الأساسية الزراعية، وانخفض الإنفاق على الزراعة حوالي 85% بالمقارنة بمنتصف السبعينيات.

وبدأت دول مانحة بتقديم مساعدات للصومال، لكن في شكل “معونات غذائية” الحكومة تاخد الأكل من الدول الكبيرة اللي منها أمريكا قائدة صندوق النقد الدولي، وتبيعها هي للشعب علشان توفر فلوس تحاول تغطي “مشاريع التنمية” اللي اقترحها الصندوق، واتحول الصومال من بلد مكتفي ذاتيًا للغذاء لبلد مصدر إيراده هو “بيع المعونات الغذائية”.

صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وصلوا الصومال للانهيار التام، الماشية أغلبها ماتت من الجوع وبسبب قلة الاهتمام الطبي بعد خصخصة الحكومة للخدمات البيطرية. منتجو الحبوب والمزارعون اتشردوا بعد ما الحبوب الأمريكية دخلت السوق المحلي وقفل كل مزارع الدولة بعد “نصائح” الصندوق إن الدولة تقلل دورها.

المصادر:

كتاب “عولمة الفقر” ميشيل تشوسودوفسكي

https://countrystudies.us/somalia/

https://countrystudies.us/somalia/58.htm

https://countrystudies.us/somalia/60.htm

https://countrystudies.us/somalia/61.htm

https://www.britannica.com/place/Somalia/Economy

زر الذهاب إلى الأعلى