الفتاة الخشبية .. من حكايا العرب القديمة
الفتاة الخشبية
كان في بلاد العرب قديمًا نجارًا ماهرًا، يحول الأخشاب الصماء إلى دواليب وطاولات رائعة الجمال.. وكان الملوك والأمراء يطلبونه ليصنع لهم أثاثهم.. وفي يوم من الأيام راودته فكرة، أن يصنع تمثال لفتاة تكن تعبيرًا عن موهبته، فالطاولات والدواليب مهما زاد جمالها تعتبر بسيطة من الناحية الفنية.
عكف النجار على قطعته الفنية التي أرادها أن تكون مكتملة الجوانب 7 شهور حتى أكملها، وكان آخر ما رسمه هو عينها وكانت مغمضة وبمجرد أن نظر إلى جفونها الجميلة فتن بها وأحبها، وأدمن النظر إليها حتى أنه بدأ يهمل في عمله.
وقد كان للنجار صديق يصنع الحلي من الذهب المطعم بالأحجار الكريمة، ولما أطلع النجار صديقه هذا على قطعته الفنية، فتن هو أيضًا بها، وقال إنها أجمل شيء رآه في حياته، وعرض على النجار أن يصنع لتلك الفتاة الخشبية قلادة جميلة تزين رقبتها الطويلة الجميلة فتزيد جمالها.
وعكف صانع الحلي سبعة شهور على القلادة حتى انتهى منها، وصنع معها أيضًا عينان من الفيروز والمرمر لتوضعان في تجويف عيني الفتاة الخشبية.
وذهب صانع الحلي إلى صديقه وألبس الفتاة الخشبية القلادة ثم ركب لها العين الجديدة ورسم النجار الجفون والرموش لتكن العينان مفتوحتان، فالتحم بريق الفيروز مع بريق الذهب والأحجار الكريمة فصارت عينيها تلمع بضياء فتان وصارت بتلك العينين تبدوا وكأنها حية تمامًا، لا يستطيع الناظر من لا يعرف حقيقتها إلا أن يراها فتاة جميلة القوام واقفة بدون حراك تفكر في شيء.. وكانت العينين أجمل شيء فيها.
وكان للنجار وصانع الحلي صديق عابد يعكف في صومعة في الجبل يتعبد وينزل لزيارة صديقيه مرة كل عام أو عامين. وجاء العابد لزيارة النجار وكان عنده صانع الحلي فأرياه قطعتهما الفنية فأعجب بها العابد أيما إعجاب، حتى أنه ظنها حية في بادئ الأمر وشرع أن يلوم صديقاه لإدخالهما فتاة إلى بيتهما، لكنهما بينا له الأمر فسكت مذهولًا.
عرض العابد على صديقيه أن يدعو الله أن يبث في تلك الفتاة الخشبية الروح فتصبح إنسانة عادية، فمثل هذا الجمال يجب أن تبث فيه الحياة.
فرحب النجار وصانع الحلي بذلك، وتمنوا أن تحدث المعجزة.
قام العابد ليلته ودعا الله أن يبث الحياة في الفتاة الخشبية، ففوجئ النجار في الصباح بتمثال الخشب الذي كان منتصبًا في الرواق قد سقط على الأرض وتكوم على جنبه وكأنه فتاة نائمة.
تقدم النجار في رهبة وذهول ولمسها برفق فوجد الخشب الصلب قد تحول إلى لحم رقيق طري، ووجد التمثال يتحرك بهدوء.. ثم استيقظت الفتاة مفزوعة وقفزت إلى ركن الرواق خائفة.
قال لها النجار بصوت رقيق مفتون وقد زادت الحياة من جمالها أضعافًا وأضعاف: اهدأي يا فتاتي، أنا صاحبك، لا تقلقي لن يؤذيكي أحد.
ردت الفتاة: من أنا؟ أين أنا، أنا لا أذكر شيء!
قال: هذا لأنك ولدت اليوم فقط.
لم تفهم الفتاة ما يعنيه فكيف تكون قد ولدت اليوم فقط وهي بهذا الحجم!
فحكى لها الحكاية فبدى على الفتاة الحزن، حيث أنها رغم جمالها كانت مجرد تمثال، ليس لها أصل و لا جذور.
كانت الفتاة جائعة جدًا وعطشانة حد اللهاث: فناولها النجار ماء عذبًا باردًا فشربت وارتوت وأعطاها لبنًا وتمرًا فأكلت وشبعت.
ثم تركها وذهب مسرعًا لصاحبيه صانع الحلي والعابد الذي كان يبيت في بيت صانع الحلي، وأخبرهما بما حدث فذهبوا معه مهرولين مذهولين.
وبمجرد أن رأوها حتى فتنا بها وأحباها كما أحبها النجار قبل ذلك. وسرعان ما بدأ كل واحد منهم يدعي أن له الحق الأكبر فيها.. وأنه يستحق أن يتخذها زوجة له.
قال صانع الحلي: أنا من صنعت لها عينيها التي ترى بها والتي هي أجمل شيء فيها.. وصنعت لها القلادة التي تزين رقبتها وتزيدها حسنًا.
رد النجار مستهزئًا: أنا من صنعتها من الأساس فهي بنت أفكاري، ونتاج تصوري وإبداعي، أما عن قلادتك فلو خلعتها لن ينقصها شيء، وأما العينين فقد كانت عيناها جميلة حتى وهي مغمضة.
قاطع العابد: أما أنت وهو فقد صنعتما تمثالًا لا حياة فيه ولا قيمة له، ولولاي ما بثت فيها الحياة وصارت فتاة تمشي وتتحرك وتشعر.
تعالت الأصوات وتشجار الأصدقاء وكاد الأمر أن يصل إلى حد العراك ونزع السيوف من أجربتها.. فاقترح العابد على صديقيه أن يذهبوا للقاضي في المدينة يقصون عليه القصة ويطلبون منه الحكم في أيهما أحق بها.. فوافق النجار وصانع الحلي على الاقتراح.. فتركوا للفتاة طعامًا يكفيها وأعدوا زادهم وراحلتهم وسافروا قاصدين المدينة.
قبل أن أكمل القصة.. ما حكمكم أنتم؟! من في نظركم يستحق الفتاة؟!
في الطريق كان كل واحد منهم حانقًا على صديقه، يكادون يكيدون لبعضهم المكائد المهلكة.. رغم طول صداقتهم تفرق شملهم.
وصلوا إلى قاضي المدينة وانتظروا أسبوعًا كاملًا حتى جاء دورهم في الدخول إليه، ولم يبيتوا سويًا بل أخذ كل منهم غرفة منفرده ونزل كل منهم يسيح في الأسواق وحيدًا بدون صديقيه.
عرضوا على القاضي وعرض كل منهم حجته، ورغم تعجب القاضي من حكايتهم التي تناقض العقل والحس العام، إلا أن مسؤوليته هي الحكم في النزاعات وليس السؤال عن صحتها.. وثلاثة يبدو عليهم العقل من الصعب أن يكونوا قد أصيبوا جملة واحدة بالجنون أو أنهم جاءوا إليه يستهزؤا به.
اعتدل القاضي في جلسته وقال:
أما إن التمثال قد دبت فيه الحياة، فقد زادت قيمته أضعاف لا يمكن إحصاءها، فهي من التمثال الخشبي، تظل الحياة كقيمة الإنسان الحي بالنسبة للجثة الهامدة. ومهما كان جمال التمثال تظل الحياة تعلوا فوق السكون السرمدي.
لو كان لأحدكم الحق فيها فهو لمن تسبب في بث الحياة إلى قلب الخشب، وعليه أن يدفع لصحاب الخشب ثمن تمثاله ولصاحب الحلي ثمن حليه، كاملًا غير منقوصًا، بل يضافعهم على ثمنهم ضعفًا لأن بضاعتهم قد تحولت لمعجزة ثمينة، ولعنائهم الشديد في تكوينها ولحقهم الواضح الجلي فيها.
هذا إن أعتبرنا أنها شيء، أما وإنها إنسانة لها إرادة وسمع وبصر، فلا يمكنني إلا أن أسئلكم كيف لا زلتم تعاملونها كشيء، كتثمال، وهل تظنون أن تلك المعاملة تليق بإنسانة من لحم ودم وروح.
الحكم الفصل في نظري أن الأقرب للحق بها هو العابد، لكني أرى أنكم في البداية يجب أن تعاملوها كإنسانة، أن تعلموها كيف تكون إنسانة، وبعدها من تحرك قلبها ناحيته، يكن لها.
أما وإنكم أصدقاء فلا أعلم كيف تنحل بينكم عرى الصداقة بهذه السرعة، ولا يرقب أحدكم في الآخر إلًا ولا زمة، وتتسارعون حتى تكادوا تقتلون. أستقيموا يرحمكم الله، فالنساء في الدنيا كثيرون، وإمراة لها جذور وأصل، خير من إمرأة أصلها جماد، فالجماد لا انتماء له. يمكنك أن تجد إمرأة تحب لكن كيف تجد صديقًا تشاركه ذكريات الطفولة التي ولت وانصرفت بلا رجعة.
عودوا إلى رشدكم و أعيدوا تقوية رباط الصداقة الذي إن أنحل لا يمكن وصله. علموا الفتاة الحكمة وعلموها كيف تكون إنسانة وأجعلوا ذلك خالصًا لله، فإن خلص قلبها إلى أحدكم فهي له، وعلى صديقيه أن يفرحوا لصديقهم.
لا تجعلوا إمرأة أن تطير عقولكم الرشيدة، وتقطع أواصل صداقتكم المديدة.
انصرف الأصدقاء الثلاثة من عند القاضي وقلوبهم وجلة.. و وفطنوا مدى ضلالهم، وتناقشوا وتعاتبوا وتصالحوا.. ثم قرروا أن يعلموا الفتاة مخلصين لله وأن يتركوا أمرها لمن بث فيها الروح.
وعندما عادوا إلى بيت النجار، لم يجدوا لها فيه أي آثار.
خرج الثلاثة للجيران يسألوهم عما حدث للفتاة، فقالت إحدى النسوة أن شابًا عابر سبيل قد رأاها تنشر الغسيل فأعجب بها وظل يرقب الشباك عند الفجر والأصيل.
ثم بدأ يلقي عليها الشعر الجميل، ويتغزل في عنقها الطويل وجسمها النحيل وشعرها المحمر كشمس الأصيل وعينها التي ليس لها مثيل.. حتى أمال قلبها وملك عقلها.
ثم طلبها للزواج وتسافر وترى مغامرات عجاب.. فوافقت الصبية وأعطاها هدية، أسورة ذهبية، ثم أخذها وغادر ولم نلحظ منها أي تردد أو عصيان، بل طارت معه كورقة في خريف.
اصاب الأصدقاء الثلاثة سقم وإعياء، وحزنوا حزنًا ليس له سوى الزمن دواء. قال العابد: لقد اهتممنا بجمالها ولم نهتم بتعليمها، لم نصنع لها جذورًا تربطها بالمكان أو بناسه.. سكت برهة ثم أردف: “من ليس له جذور طار كالعصفور إن فتح له باب القفص.”
اقرأ أيضًا
أسطورة إسون بوشي.. الجزء الأخير