القادم.. الجزء الأول
المشهد الأول
الساعة سبعة بالليل، شتا اسكندرية الجميل، صوت موج البحر وهو بيخبط تحت شبابيك الكافيه اللي «هانيا» متعودة دايما تقعد فيه لما تحب تصفي ذهنها وتفكر بعمق في موقف أو مشكلة بتعيشها، مع فنجان القهوة الدوبل المظبوط اللي غالبا بتطلب بعده واحد تاني، يوميا أو يوم بعد يوم، وعلى الترابيزة اللي بتشوف منها البحر واللي بقيت مكانها المعتاد، بتحاول هانيا تلاقي حل لمشكلتها الرئيسية اللي مش عارفها… ايه اللي أنا بقوله ده، ثواني معلش!
أنا أخدتك في دوكة من قبل ما أعرفك أصلا مين هانيا…
المهندسة هانيا سيد شريف، 24 سنة، مبرمجة كمبيوتر، اسكندرانية أصيلة، رباية بحري والأنفوشي، بنوتة جميلة ورقيقة، وغلبانة أوي، بجد والله زي ما بقولك كده، حرفيا غلبانة، بس بيني وبينك، وبالرغم من إن مشاعرها مسيطرة عليها وبتوجهها بدون عقل في معظم المواقف، إلا إنها عنيدة لدرجة الغباوة أحيانا… ولدرجة إن حصلت معاها حاجة في منتهى الغرابة!
بقولك إيه، خلينا نقرب منها سوا واكتشفها بنفسك، ونشوف اللي حصل…
الاقتراب
- أنا حقيقي مش عارفة أقولك إيه تاني يا هانيا، عمرو أقل بكتير من اللي عملتيه علشانه، ومش هو خالص اللي ينفع ترتبطي بيه.
- أنا عملت علشان بحبه يا رضوى، والحب مفيهوش أقل وأكتر.
- لو هتفق معاكي وده مش هيحصل، هبقى محتاجة أسألك سؤال… هو قدر الحب ده؟ قدر اللي عملتيه علشانه؟ قدر تمسكك بيه؟
- آه طبعا هو عاوز يتجوزني زي ما أنا عاوزه.
- عمرو عاوز يتجوزك علشان مصلحته مش علشان بيحبك يا هانيا، انتي اللي نجحتيه بعد ما كان ساقط، وانتي اللي عملتيله مشروع التخرج، وانتي اللي اتحايلتي علشان تشغليه، والمقابل كان إيه؟! كل يومين مع واحدة شكل، وكل يوم في قصة شكل، ولا بيعبرك أصلا إلا لما يبقى عاوز حاجة.
- انتي متحاملة عليه أصلا من أيام الكلية يا رضوى.
- متحاملة عليه؟ ليه يا هانيا هو أنا بقول كلام محصلش أو مش بيحصل؟!
- لا
- ولما هو لا، مُصرة ليه تبقي غبية وتتعامي عن الحقيقة… أنا همشي علشان اتأخرت، أشوفك بكرة، باي
- باي
هانيا فضلت قاعدة باصة للبحر، والحقيقة أنا مش عارف تحديدا، هل هي بتفكر في كلام رضوى اللي مش أول مرة تسمعه، ولا بتفكر للمرة المش عارف كام ازاي تقنع والدها بعمرو اللي هو معترض عليه أصلا، ولا في عمرو اللي مش بيرد على تليفوناتها من تلات ساعات؟…
الساعة قربت تبقى عشرة، هانيا شاورت للويتر علشان يجيبلها الشيك، أخدت نفس عميق وهي بتبص للبحر، بس فجأة اتنفضت مكانها، وبصت بشكل سريع وحاد ناحية كرسي من الكراسي اللي حوالين ترابيزتها وكأن في حد قاعد عليه، بصت حواليها وكأنها بتدور على حد، رجعت تبص للكرسي تاني وهي مبرقة مخضوضة…
- الشيك يا هندسة
- شكرا يا كريم
الفخ
عمرو فوزي، 26 سنة، مهندس كمبيوتر، لو حبيت أوصفلك شخصيته من خلال ملامحه وباستخدام علم لغة الجسد، هتكون النتيجة إنه شخصية غير مريحة بالمرة، ولو انتقيت السواد الأعظم من مواقفه الحياتية وحكيتلك عليها علشان أوصف الشخصية دي، هتكون النتيجة مؤكدة بدون شك…
عاوز بس أأكدلك إني لا في صف هانيا ولا ضد عمرو، أنا بنقلك وقائع حصلت فعلا، علشان نستقي الخبرة والعبرة، ونتعلم من المواقف الحياتية المختلفة اللي بيعيشها الناس…
عمرو دخل كلية الحاسبات والمعلومات بعد ما سقط في إعدادي الهندسة، ولما دخل الكلية سقط بردو في سنة أولى وبقى مع هانيا في نفس الدفعة…
بص أنا مش هشغل دماغك وأرغي في ملابسات تعرفهم على بعض علشان محرقش دمك من قبل ما نبتدي نحكي، بس حابب أقولك إن هانيا هي اللي حرفيا كانت السبب الرئيسي بل والوحيد اللي عملت منه مهندس كمبيوتر، من نقل محاضرات، لعمل مشاريع، لتظبيط مذكرات الامتحانات، لمشروع التخرج ولغاية تعيينه في شركة من أكبر شركات البرمجة…
عمرو كان معروف في الدفعة إنه بيستغل هانيا، وإنها بالنسباله حصان طروادة اللي هيدخله القلعة، الكل كان عارف إن هانيا بتحبه، وكتير حذروها، بس هو كان بيستغل طيبتها وتفانيها وتصديقها ليه وكان بيقنعها إنه بيحبها، فكان بيعمل موقف كويس بين مواقف كتير مش كويسة، ويدلل بيه على حبه ليها، بس كان كمان بيستغل حاجة خطيرة جدا، عرف يكتشفها في هانيا…
هانيا شخصية عنيدة لا تقبل النقد، أو حتى الإشارة ليها بإنها غلط، ودايما تخلق المبررات والأعذار علشان تخرج من مزنق إنها غلطانة، متخيلة إن الاستمرار هيخليها منتصرة، بس للأسف هي كانت ناسية إن حرب الاستمرار دي لازم يكون فيها طرف تاني يأكد الانتصار ده… وده اللي مكانش موجود.
المشهد الثاني (بعد مرور سنة)
مش هدخل في تفاصيل سنة من المناوشات بين هانيا ووالدها الرافض تماماً لفكرة إن عمرو يتجوزها، هقولك بس إن هانيا حاولت الانتحار كنوع من الضغط، علشان والدها يشتري حياتها ويضطر يبيع استقرار مستقبلها ويرضخ ويقبل، إنها ترهن حياتها بالشخص ده…
ولا هحكيلك كام مرة هانيا قفشت عمرو مع بنات سواء في الكلية أو بعد التخرج، ولا هقولك كام مرة هانيا اتقالها إن عمرو مش بيحبك وإنتي بالنسباله مجرد مصلحة، آه هيتجوزك بس هيعمل اللي هو عاوزه…
هانيا اتحذرت بعدد شعر راسها، لكن العند يا صديقي بيخلق الكفر…
- اتأخرت ليه؟ أنا ليا ساعة مستنياك
- معلش يا حبيبتي، الطريق كان زحمة بس
- ماشي، هتيجوا بكرة الساعة سبعة بالظبط يا عمرو، بابا على آخره ومش عاوزاه يقفش، وياريت واحنا بنجيب الشبكة تسيطر على مامتك، وأي زيادة في الفلوس أنا هديهالك… عاوزين نخلص.
- متقلقيش أنا قايل لماما، إنك هتدفعي أي زيادة، بصي أنا هقوم دلوقتي عندي مشوار مهم لازم أعمله.
- تقوم، مشوار إيه؟
- اااااه واحد صاحبي والده إتوفى ولازم أروحله.
- تروحله العصر كده؟ مش فيه عزا بيبقى بالليل؟ ومين صاحبك ده؟
- حد متعرفيهوش… يالا باي
الموقف ده مُكرر بنفس الشكل بس باختلاف الموضوع، لقاء سريع بنظام المصلحة اتأكدت، أخلع بسرعة علشان الحق اللي بعدها، والحقيقة، مش هي دي المشكلة، المشكلة الأكبر إن الشواهد كلها بتأكد ده، وكل اللي حوالين هانيا خاصة رضوى شايفين ده… إلا هي!
للمرة التانية هانيا بتتنفض فجأة، وتبص مذعورة مستغربة لنفس الكرسي، فاكر الموقف اللي حصلها المرة اللي فاتت بعد ما رضوى مشيت، يبدو إنه بيتكرر تاني، بس الحقيقة أنا مش عارف هو ايه بالظبط اللي بيحصل…
- رضوى عاوزة أشوفك
بعد ساعة
- فيه إيه يا هانيا قلقتيني، مالك؟
- اهدي متقلقيش، اقعدي
- طمنيني طيب
- يا بنتي اطمني هقولك، خدي نفسك بس، بصي هو موضوع أهبل بس حصل قبل كده، ومخدتش في بالي وافتكرت إني بتخيل علشان يعني بفكر كتير وبالي مشغول، بس لما اتكرر قلقت وبقيت محتاجة إني أقولك.
- قولي يا هانيا وقعتي قلبي
- أنا بسمع صوت وبحس باتجاهه يا رضوى
- نعم؟ مش فاهمة حاجة؟ ايه صوت واتجاهه دي؟
- عمرو كان هنا من شوية، بعد ما مشي، حسيت إن فيه حد قاعد هنا وبيكلمني بصوت مسموع، يعني مش سامعه صوت في دماغي، ده أودامي.
- أكيد بيتهيألك يا هانيا، أو كان فيه حد معدي بيتكلم في التليفون أو حاجة وتخيلتي إنه بيكلمك مثلا.
- رضوى دي تاني مرة في نفس المكان، والكلام مفهوم، ومتوجهلي أنا، ومكانش فيه حد حواليا.
- انتي هتخوفيني ليه، إيه الكلام؟
- الشتا اللي فاتت مرة كنت أنا وانتي هنا، وبنتكلم على عمرو، بعد ما مشيتي ودي كانت أول مرة يحصلي فيها الموقف ده، حسيت إن فيه حد قاعد أودامي بيقولي “إنتي بتخسري”.
- إنتي بتخسري؟!
- أيوة، واضحة وصريحة
- والمرة دي؟
- “إنتي بتغرقي”
- هانيا إنتي أكيد بتتخيلي.
- لو بتخيل كنت نسيت الموقف اللي فات يا رضوى ومجاش في بالي أصلا
- طيب ومعناه ايه الكلام ده
- مش عارفة
- بس أنا عارفة يا هانيا
هانيا بصت لرضوى نظرة التساؤل والتعجب، مستنية تكمل كلامها بترقب.
- الصوت دة ضميرك، بيقولك الحقي نفسك من المصيبة اللي انتي مودية نفسك ومستقبلك فيها
- مصيبة ايه يا بنتي، بتتكلمي على إيه؟
- على اللي هتتنيلي تتجوزيه
- ياااا رضوى بقى، جواز إيه وبتاع إيه
- بكرة أفكرك يا هانيا، بس وقتها متفتحيش بوئك وتشتكي وتقولي ياريت اللي جرا ما كان
- إيه بس اللي دخل ده في ده؟
- إنتي طول عمرك عنيدة ومش بتشوفي غير اللي في دماغك، وأنا أهو وإنتي أهو يا هانيا، الكلام ده عن الجوازة، الحقي نفسك
- يا بنتي احنا هنجيب الشبكة بكرة خلاص، والدنيا كويسة ومفيش حاجة
- إنتي حرة ، بس ابقي افتكري
نفس الليلة
هانيا رجعت البيت على طول بعد مقابلتها مع رضوى، والحقيقة دماغها كانت بتودي وتجيب وبدأت تحس إنها مش مستقرة “وده على غير عادتها”، هانيا لما بتاخد قرار، بتتهرب دايما من أي تفكير يأثر عليها، مش بس كده، هي كمان عندها القدرة تخلي كل اللي بيدور في دماغها داعم للقرار أو للفكرة أو للموقف اللي هي عاوزه تكون فيه…
هانيا ساكنة في ميامي على البحر، لما غيرت فرش أوضتها، صممت السرير بحيث تكون شايفة البحر وهي نايمة، بشكل واضح، لأنها بتحب المشهد ده يكون خلفية عقلها وقت التفكير، وخلفية قلبها وقت النكد…
في عز صمتها، وتفكيرها العميق، ونظرها الثابت على اللا شيء في البحر، يحصل موقف يخليها… لا المرة دي متنفضتش بالعكس، دي اتجمدت وبرقت وقلبها بقى يجري من سرعة النبض ونفسها بقى ليه صوت وجسمها ساقع زي لوح التلج وبتعرق وكأنها في فرن…
هانيا شافت اسمها بينور نور غير مُبهر على صفحة المية، نور بدرجة أفتح من درجة سواد البحر بالليل، اسمها فضل منور بالشكل ده حوالي أربع ثواني، ولما ابتدا يختفي، ابتدت تشوف نفسها بتقاوم الغرق، الغريب في المشهد، إن كان فيه ضل لشخص قاعد وبيمدلها إيده علشان يطلعها وهي مش عاوزة تاخد إيده، والأغرب من ده، والمثير للرعب، إن الناحية التانية كان فيه ضل ليها هي نفسها وهي بتحاول تغرقها، أيوه، هي بتغرق هي، ومجموعة من الضلال التانية اللي بتساعد في غرقها، وده يمكن اللي خلى رد فعل مؤشراتها الحيوية يختل بالشكل اللي وصفتهولك وكأنها فعلا بتغرق…
مع غرابة اللي حصل، هانيا مقدرتش تتحرك من كتر الرعب، وحست إن اللي شافته ليه علاقة قوية باللي سمعته مرتين قبل كده، خاصة المرة التانية اللي حصلت من شوية وجملة “إنتي بتغرقي” اللي سمعتها بمنتهى الوضوح، بس مكانش أودامها غير إنها تحاول تستغرق في النوم… وبالفعل نامت بعمق.
الصدمة
العند أحيانا بيكون مفيد وداعم لما بيتوجه لتحقيق حلم أو الوصول لهدف، ووقتها مش بيبقى اسمه أو معناه “عند” بالشكل السلبي اللي احنا متعودين عليه، أنا شخصيا بحب أسميه إصرار بالرغم إن الإصرار بردو أحيانا بيبقى ليه جوانب سلبية أو بيتوجه بشكل سلبي…
الشخصيات العنيدة “بالمعنى السلبي” أنا بعتبرها أكتر الشخصيات اللي بتحقق خساير طول الوقت، وميخصنيش على فكرة إذا كانت الشخصية دي غلبانة ولا طيبة ولا حتى ملاك نازل من السما، لأن عِندهُ وخساراته اللي بسبب عِندهُ مش بس بتطوله لوحده، دي بتأثر كمان على اللي بيحبوه يمكن أكتر ما بتأثر عليه، أنا مش هدخلك في تفاصيل كتير وأحداث أكتر وهنط بيك تلات سنين من وقت جواز هانيا وعمرو اللي حصل أصلا بعد خطوبتهم بسنة…
بعد الجواز بسنة هانيا خلفت بنوتة اسمها «مرام»، وقت ما بحكيلك دلوقتي مرام عندها سنتين تقريبا، هانيا وعمرو علاقتهم مش مستقرة، هانيا حرفيا متجوزة ضل ملهوش فعالية، حرفيا هي أم وأب، زوجة بدون زوج، لو البيت مثلا بيصرف ألف جنيه في الشهر هي بتتكلف منهم 800 جنيه، وعمرو بالكاد وبالعافية بيكمل الباقي، ومبرره كان “ده بيتك ودي بنتك إنتي تصرفي عليهم زي ما تحبي، أنا راجل لسه ببني نفسي، وهي دي إمكانياتي، وكفاية عليكي أوي لا وتحمدي ربنا إني طلعت راجل واتجوزتك! وعلى فكرة البيت بالنسبالي مجرد لوكاندة” عمرو كان عايش في البيت واكل شارب نايم بس، وآخر اهتماماته هانيا ومرام، ومتخيل إنه لمجرد إنه اتجوزها فده شيء عظيم ورجولي تحمد ربنا عليه، وده ابتدا من وقت ما هانيا بقيت حامل، قبل كدة نوعا ما كانت حياتهم شبه مستقرة وأعتقد إنها كانت تحت مسمى حلاوة البدايات…
إنت متخيل الصدمة اللي بتعيشها هانيا بعد الحرب الشعواء العنيفة اللي خاضتها ضد الجميع علشان تفوز بالشخص ده؟!
خد بقى الصدمة دي من نصيبك إنت… بالرغم من كل ده، هانيا استمرت على نفس النمط، هي اللي بتصرف تحت عنوان “جوزي بيبني نفسه علشان خاطرنا” لا استنى إنت مستغرب؟ خد التقيلة، دي أجبرت والدها إنه يساعده ماديا تحت نفس العنوان فبقى يدفعله أقساط لعربية مثلا اشتراها جديد للتجديد وبعدها لشقة جديدة علشان يوسع اللوكاندة! هانيا أصلا دفعت مقدمها وبتدفع أكتر من نص القسط، الكلام دة على مدار سبع سنين من الجواز…
في بداية السنة التامنة هانيا خلفت ابنهم التاني سليم، وكانت مع بداية الحمل ابتدت تستعين بمديرة منزل إثيوبية تكاد تكون مقيمة معاها، بتساعدها في البيت ومع الأولاد خاصة إنها بتشتغل، وفي ليلة من ذات الليالي…
عمرو رجع البيت بعد نص الليل، وكانت هانيا نايمة وجنبها سليم اللي كان عمره وصل لحوالي سبع شهور، بعد ساعة تقريبا الولد صحي يعيط وهانيا بتحاول تسكته بس مش عارفة، علشان يقوم عمرو يزعق، فتحصل مشادة كلامية بينهم، يقوم شاددها من شعرها والولد في حضنها ويفتح باب الشقة وحرفياً يريمها ويقفل الباب، ولما يتدور يلاقي مديرة المنزل في وشه يقوم جايبها هي كمان ويطلعها بره البيت، وده كان من حسن حظ هانيا اللي بدون مبالغة اتكعورت على السلالم والولد في حضنها، في اللحظة دي، هانيا حست بنفس إحساس الغرق اللي حست بيه من سنين، وغابت عن الوعي…
متخيل هيكون رد الفعل ايه من هانيا وأسرتها تجاه عمرو… انتظروا القادم
***انتهى الجزء الأول***