قصص الرعب

الكحل

الكُحْلَ (الجزء الأول)

الكحلجميلة

كانت فاتنة منذ نعومة أظافرها ولذلك أسماها أبي (فاتن)، قال أبي “يا (جميلة)شُفتي أختك فاتن نورت الدنيا تعالي بوسيها”
كُنت آنذاك في السابعة من عمري، وبالرغم من كوني طفلة، إلا إنني أحسست منذ اللحظة الأولى بغريزة الأمومة تجاه (فاتن)،
وكبرت أمام عيني بالتدريج لتصبح أفضل صديقة لي في حياتي، وكذلك أنا لها الأم والأخت والصديقة، وزاد ترابطنا بعد وفاة أمي الحبيبه بعد صراع مع المرض الخبيث..

نتشابه أنا وفاتن كثيراً في الطباع وكذلك ملامح الوجه وسمات الجسد الممشوق القوام متوسط الطول، ولكن هي ذات عيون خضراء ورثتها من جدتي لأمي، لطالما تعرضنا للمضايقات بسبب أنها ملفته وكانت رقيقه للغايه وتمتاز بالروح المرحه وعذب الحديث، كانت الفتاه المثالية التي يرغب بها كل شباب منطقتنا وعائلتنا، في المجمل كان الشباب يريدون الزواج مني أو من أختي لطيب سمعتنا، وحسن أخلاقنا الذي هو الإرث الحقيقي من أمي، وكان أبي أيضاً خلوق ولكنه حاد الطباع وكثير المشاكل مع الجيران والأقارب.

ولكن بدأت (فاتن) منذ فترة طويله تأتيها كوابيس غريبة علي فترات متباعدة، وتستيقظ كل ليله فزعة ” غراااااب غراااااب الحقوني هيموتني ” …
كل ليله تستيقظ بكلمات مختلفة تارة يكون ثعبان وتارة تكون حشرات، ولكن الأكثر تكراراً هي الغربان والثعابين…
لم نشأ أن نقلق أبي بشأن هذه الكوابيس، يكفيه ما به من ديون ومتاعب العمل والمرض فكان دائماً يأخذ دواءًا ما لا نعرف ماهيته ولكنه يجعله في حالة مزاجية أفضل من تلك الحالات المزاجية العصبية التي تتملك منه ويروح ضحيتها بضع أكواب من الزجاج، فهو يعمل صباحاً في وظيفه حكوميه، وفي المساء يعمل كسائق تاكسي علي عربيه (الأسطي فتحي) …

(الأسطي فتحي) جارنا في الدور الأول وهو في ذات الوقت صاحب العقار، راجل في العقد الخامس من العمر متسلط حاد الطباع ورث هذا العقار عن والده وكذلك السيارة التي حولها لتاكسي بعد موت والده مباشرة وظل بلا عمل يعيش علي إيجارات الشقق وإيراد التاكسي، يقضي يومه جالساً علي باب العقار بجواره نرجيلته التي تفوح برائحة التفاح طوال اليوم ويأتي إليه أصدقائه ليتحول باب العقار لمقهي صغير، وهو ما كان يضايقنا أنا وأختي وباقي بنات الجيران..

كنت أتحدث مع صديقتي ذات مرة بخصوص تلك الكوابيس المفزعة التي تراود أختي فاتن

“يا عزة أنا تعبت كل يوم بتصحيني من النوم مفزوعة وهي كمان صعبانة عليا جداً، كوابيس وتعابين و غربان وحاجة مرعبة”

“استهدي بالله يا جميلة، أنا عندي الحل انتوا لازم تجيبوا شيخ يرقيها، أختك ماشاء الله جميلة وأكيد محسودك ولا حاجة”

“يا عزة فاتن مش هترضى هتقولي انتي شيفاني ملبوسة وهتعمل مشكلة لو قولتلها نجيب شيخ”

“طيب خلاص أنا أمي تعرف شيخ كويس هنروحله أنا وأنتي وتحكيله علي اللي بيحصل معاها ويقولك تعملي ايه، هكلمه ونرحله بكره”

وبالفعل ذهبنا للشيخ وقال إنه من الممكن أن يكون مس شيطاني أو حسد وأعطاني حجاب وآيات الرقية الشرعيةً، ذهبت ودسست الحجاب في فراش أختي وأقنعتها بصعوبه أن أقرأ عليها الرقية، تحسن الوضع بعد ذلك قليلاً ولكن سرعان ما عادت إليها الكوابيس ولربما أسوأ، كم أشعر بالشفقه عليها، فقد ذبلت مثلما تذبل الورود عندما تتوقف عن الإهتمام بها، أصبحت شاردة الذهن طول الوقت تشعر بالخوف والتوتر وتوقفت عن الذهاب للجامعة.

بالطبع كل هذه العلامات لفتت نظر أبي لوجود مشكلة، وقد فاض به الكيل من كل تلك الأكاذيب حول أنها مريضة تارة وأنها تفتقد أمي تارة أخرى، فقد استغللت عدم تواجد أبي في المنزل بشكل دائم بسبب عمله في وظيفتين وأقنعته أن كل شيء جيد لفترة …ولكن الآن هو يريد تفسير لما يحدث خاصة بعد أن لاحظ عدم ذهاب فاتن للامتحانات وقررنا أن نخبره بما يحدث تحديداً،
وفي مساء نفس اليوم فتحت الباب لأبي وكان معه شيخ… شيخ له هيئة تثير الرهبة في النفوس، يرتدي جلباب أبيض ويسبح طوال الوقت علي سبحة حباتها من الخشب بني اللون وتفوح منها رائحة ذكية فهي مسك بالتأكيد، وجهه يشع نوراً ولحيته بيضاء لا يشوبها أي سواد..ولكنه أيضاً لديه نظرات مريبة !!
دخل بجانب أبي إلى الصالون، وخرج أبي وأغلق الباب وراءه تاركاً الشيخ، ثم جاء إلينا وقال إنه شيخ صديق جدي وأنه جاء لإيجاد حل لما يحدث مع فاتن وقال بلهجة صارمة” اسمعوا الشيخ وقته ضيق وأنا بالعافية عرفت اخليه يجي عشان يشوف أختك مالها، تيجوا وتسمعوا الكلام بهدوء عشان نعرف ايه اللي بيحصل ” قالها بعصبية شديدة، وعلي عكس المتوقع والمعتاد لم تتذمر فاتن وقامت لارتداء الحجاب وذهبت أنا للمطبخ كي أعد الشاي للشيخ، ولحقت بهم إلى غرفه الصالون، كان الشيخ ينظر لفاتن مبتسماً، وبدأ في تلاوة آيات مكررة من القرآن ثم نظر لي ونظر لفاتن وقال “حد عمل سحر بوقف الحال للبيت ده وبالهلاوس لفاتن مخصوص، حد حاقد وحاسد، وباذن الله كله ليه حل ” …. قال هذه الكلمات وأستأذن للرحيل!!!!

لم نفهم شيئاً فهرع أبي وراءه وفهم منه أنه يحتاج للتحضير وأنه سيأتي غداً، لأن ما يحدث بفعل أحد قريب منا !!!
انتظر أبي مكالمه من الشيخ أو حتي القدوم إلينا كما وعد، ولكنه لم يظهر حتي الساعة العاشرة مساءًا، تردد أبي كثيراً قبل أن يتصل به، ولكن كانت الصدمة أن من رد علي هاتف الشيخ رجلاً آخر وقال أن الشيخ توفاه الله في حادثة سرقه بالإكراه وهو في طريقه لصلاة الفجر،ولم يتم العثور علي الجاني لعدم وجود أدله.

بدأ الإحساس بالخوف يتوغل في أوصال بيتنا، بدأ أبي في رؤية كوابيس هو الآخر، حتي ذلك اليوم الذي كان القشه التي قسمت ظهر البعير، استيقظت علي صوت فاتن وهي تقول غربان غربااان، وسمعنا صوت طرقات علي شرفة غرفتنا، كانت طرقة واحدة ولكن قوية، وتبعتها ثلاث طرقات قوية، لم تكن طرقات بل كانت اصطدمات، فتحت الشرفه رغم خوفي لأجد مشهد لن يمحي من ذاكرتي ما دمت حية، فقد كانت غربان كثيرة تحلق أمام شرفتنا وتترنح لتهوي وتصدم بشرفتنا وتنفجر منها الدماء كأنها قنبله من الدماء والريش تقذف إلي شرفتنا، صرخت من هول المشهد وأتت فاتن خلفي مباشرةً لتنظر وتصرخ هي الأخري، إذاً أنا لا أهلوس ماذا يحدث !!!! أسئلة كثيرة ونظرات رعب متبادلة بيني وبين فاتن، قطعها أبي بدخوله مهرولاً غرفتنا وسؤاله ماذا يحدث، عندما لفت انتباهنا دخول أبي علت صرخاتنا أكثر نستغيث، دخل أبي إلى الشرفه فوجد غراباً واحداً أصاب جناحه وينزف!!! نعم، كل ما يحدث اختفي ولم يتبق سوي غراباً واحداً، اتهمنا أبي بالجنون وأخذ الغراب ورماه من النافذة مما أثار الاشمئزاز في نفسي، أين الرحمه في قلبك يا أبي!!!…..

ماذا يحدث!! يجب من حل، عكفت أبحث عن حل عبر شبكات التواصل الإجتماعي دون جدوي، حتي أتت لي فاتن وهي تقول إن صديقة لها من دولة عربية رشحت لها شيخة تدعي (فخرية) وأنها ستأتي لمصر قريباً وأنها (سرها باتع) علي حد قولها، انتظرنا حتي جاء اليوم الموعود، فقد رتبت صديقة فاتن كل شيء مع الشيخة، صُدمت عندما قالت لي فاتن أنها لا تريدني أن أذهب معها وأنها سوف تصطحب صديقتها !!!
أشعر بالقلق لأن هذه أول مرة لا تهرع إلي فاتن حتي أكون بجانبها في أي مكان خارج المنزل ولكن لربما هي متوترة وغير مستقرة بسبب ما يحدث معها ولذلك تركتها تفعل ما تشاء …..

فاتن

كُنت دائما تلك الفتاة المدللة للعائلة أصغر أختي جميلة بسبعة أعوام، كانت دائما تعاملني مثل الأم والأخت والصديقة، ولكن عندما أصبحت في سن المراهقة وبدت ملامح الانوثة لدي، بدأ الكثير من الأقارب والجيران في التقدم لخطبتي ولكن كان يرفض أبي لصغر سني، كنت أحزن كثيراً لعدم تقدم أحد لخطبة أختي فهي أيضاً علي قدر من الجمال والتعليم والرقة المميز بيننا أنني امتلك أعين خضراء ورثتها عن جدتي، كم كنت حزينة من أجلها، ولكن سرعان ما تبدلت معاملتها لي وأحسست بالغيرة منها تجاهي، كنت أراها في عينيها، لم تكن الكلمات تخرج مثل المعتاد، اعتقدت أنها تحبني حب امتلاك ولكن الغيرة تغير ملامح صاحبها وتسود قلبه …. لم نعد صديقتين مثل سابق ولكننا أخوات ولا أقدر علي كرهها وأتمني كل ليلة أن تتزوج لعلها تعود لي الأخت والصديقة مثل سابق فهي بالأخير أختي وأتمنى لها الخير وهي أيضاً…

تغير كل شيء في ليلة وضحاها وأصبحت أشبه المجاذيب أهلوس في المنام وأهلوس في اليقظة، بهتت الحياة في عيني بعدما مررت بكل هذه الكوابيس المرعبة، حتي اقترحت لي صديقتي من بلد عربي أن أذهب (للشيخة فخرية) واقترحت صديقتي أن أذهب بمفردي أو بصحبة صديقة ما وألا أصطحب جميلة أختي، حيث أنني أخبرتها بموضوع الغيرة.
أقنعت جميلة بصعوبة ألا تذهب معي، ونظرت لها نظرة تحمل الكثير من المعاني وكذلك هي نظرت لي نظرة لا أعلم هل معناها خوف من ذهابي بمفردي بدونها لأول مرة في حياتي، أم أنها تخاف أن يتفضح أمرها !!!! سيتضح كل شيء بعد وقت ليس طويل، عند الشيخة فخرية…..

يتبع..

 

زر الذهاب إلى الأعلى