تاريخ

اللغة الموحدة بين الحلم والمؤامرة.. تجارب مجنونة

اللغة الموحدة.. اللغة هي نسق من الرموز والإشارات التي تشكل أحد أهم أدوات المعرفة والتواصل بين البشر، ولكن هل فكرت يومًا ما في سبب تعدد اللغات حول العالم، وهل يمكن أن يقودنا ذلك في النهاية لإيجاد لغة موحدة للتفاهم بين كافة البشر لتواكب تطور تكنولوجيا الاتصالات التي جعلت العالم بمثابة قرية صغيرة؟

متى عرفنا اللغة؟

يتحدث سكان العالم في وقتنا الحالي 7139 لغة مختلفة، وذلك مع الوضع في الاختبار وجود اللهجات المختلفة داخل اللغة الواحدة، وهو الرقم الذي سيطرح تساؤلاً حول متى بدأت اللغة؟

وفشل العلماء في إيجاد إجابة محددة لذلك السؤال، فذهبت بعض الاستنتاجات إلى بداية اللغة قبل 100-200 ألف عام، وهنا يوجد رأيين، حيث يفترض الأول بأن اللغة قد خُلقت مع الإنسان، فيما يفترض الثاني بأنها قد تطوّرت ببطء خلال مراحل النمو المختلفة للبشر.

وتبنى بعض العلماء نظرية محاكاة أصوات الطبيعة المعروفة بـ«البو-وو»، والتي تذهب  إلى أن أصل اللغة محاكاة أصوات الطبيعة، كأصوات الحيوانات والطيور، والتي تحدّثها الأفعال عند وقوعها، ثم تطوّرت الألفاظ الدالة على المحاكاة، وارتقت بفعل ارتقاء العقلية الإنسانية وتقدّم الحضارة عبر الزمن.

ما هي اللغة الأم؟

لم يتمكن العلماء من تحديد إجابة قاطعة لذلك السؤال، في ظل غياب الأحافير التي تروي لنا أحداث الماضي، بالإضافة لاختراع الكتابة بعد ظهور اللغات بفترة، إلا أن هناك شبه إجماع بوجود اللغة الأم التي نطق بها البشر الأوائل قبل أن تتفرع منها باقي اللغات.

وهنا نجد بعض الدراسات البحثية التي اعتبرت اللغة البابلية هي اللغة الأم الأصلية، وذلك في ظل وجود أقدم النصوص المكتوبة بالكلمات السومرية عام 3500 قبل الميلاد، علمًا بأن السومرية قد تكونت من البابلية كلغة أم فيما ُوجدت سجلات مكتوبة باللغة الصينية ترجع إلى عام 1500 قبل الميلاد، كما وُجدت سجلات بالكتابة الهيروغليفية المصرية القديمة قبل خمسة آلاف عام.

تجارب مجنونة لاكتشاف أصل اللغات

تسبب الفضول الإنساني في معرفة أصل اللغات في القيام ببعض التجارب المجنونة، والتي كان أبرزها تجربة الحرمان اللغوي، وطبقها الإمبراطور الروماني فريدريك الثاني، الملقب بالمقدس في نهاية القرن الثاني عشر الميلادي، حيث حاول تربية مجموعة من الرضع دون أي تواصلٍ بشري، ليكتشف ما اللغة التي سينطقون بها، إلا أن التجربة لم تسفر عن أي نتيجة ملموسة، في الوقت الذي أشار فيه المؤرخ «ساليمبيني دي آدم» إلى وفاة جميع الرضع بتلك التجربة، غير أن شهادته قد تكون غير موضوعية بسبب علاقته المتوترة مع الإمبراطور.

وقام الملك الاسكتنلدي جيمس الرابع بتكرار تجربة الحرمان اللغوي بشكل مختلف عام 1493، وذلك من خلال إرسال طفلين رضيعين إلى جزيرة «إنتشكيث» النائية باسكتلندا بصحبة امرأة بكماء، لمعرفة اللغة التي سينطق بها الطفلان لاحقًا، إلا أن التجربة انتهت بأن نشأ الطفلان أبكمين كذلك.

وانتهى العلماء في العصور الحديثة للوصول إلى حقيقة أن الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 5-6 سنوات، وتعرضوا لقدر كاف من اللغة قبل أن يتم عزلهم عن العالم، سيكونوا قادرين على تعلمها وإكمال حياتهم بشكل طبيعي، فيما تعرض نفس الأطفال المعزولين الأكبر سنًا إلى القصور العقلي بشكل عام مع عجزهم عن تعلم أي لغة.

كيف تعددت اللغات؟

مع تزايد أعداد البشر في الأرض، وانقسام المجموعات التي تحدثت لغة واحدة إلى أماكن مختلفة، تبدو الإجابة على ذلك السؤال منطقية، فتتغير البيئة وطريقة العيش، وقد تحتك المجموعة الجديدة بمجموعة أخرى تتحدث لغةً ثانية لتنشأ التعددية.

يُرجع علماء اللغويات سبب اختلاف اللغات إلى ثلاث عوامل:

1- العوامل العرقية: المتعلقة بالاشتراك بالموروث الثقافي، والتاريخ، والسلف. والعوامل الوراثية.
2- العوامل الجغرافية: مثل تضاريس المنطقة، وعواملها الجوية، فنجد مثلاً أن سكان ولاية ألاسكا يملكون العديد من المسميات للثلج الذي يعد جزئًا رئيسيًا من حياتهم، وبالتالي من المهم تحديد طبيعته عندما يتساقط.
3 – العوامل الاجتماعية: مثل عمر الشخص، النوع الاجتماعي الذي ينتمي له، ومكانته الاجتماعية.

محاولات لإيجاد لغة موحدة

كان ظهور اللغة الموحدة حلمًا طارد خيال العلماء والفلاسفة في آن واحد، فكان الفيلسوف الفرنسي الشهير رينيه ديكارت، أول المطالبين بإيجاد لغة موحدة للجميع في القرن السابع عشر، إلا أنه لم يسع لبلورة تلك الفكرة في أي موضع تنفيذ حقيقي، قبل أن يتكرر الأمر ذاته مع رجل الدين الكاثوليكي الألماني شلايدر عام 1879، حيث قام بالفعل في تخليق لغة عالمية طبيعية بعد بحث ودراسة في اللغات السائدة، إلا أن التجربة لم تلق النتائج المرجوة منها.

تجربة الإسبرانتو ونظرية المؤامرة

قام الطبيب البولندي «لودفيك زامينهوف» بالتجربة الأبرز فيما يتعلق بإيجاد لغة موحدة للتواصل بين البشر، وذلك من خلال ابتكاره لغة الإسبرانتو عام 1887، حيث كان زامينهوف مولعًا بالتحدث بالعديد من اللغات بجانب لغته البولندية الأم، مثل الروسية، اليديشية، الألمانية، اللاتينية، اليونانية، العبرية والإنجليزية.

ولم تكن الإسبرانتو معادلة لإحدى اللغات الأوروبية الرئيسية، بل كانت بمثابة تغيير معجمي لاتيني من اليديشية (لغة يهود أوروبا)، وهو ما جعلها أقرب للغات السلافية بالإضافة لصلتها الوثيقة بالعبرية الحديثة.

ولم تتحول الإسبرانتو إلى لغة رسمية في أي دولة، إلا أنها بدأت تُدرس في بعض الدول بمطلع القرن العشرين، فيما تأسست مؤسسة إسبرانتو العالمية بهولندا عام 1908، لتضم في عضويتها 119 دولة حول العالم.

ولم يكن الطريق ممهدًا أمام زامينهوف لنشر الإسبرانتو كلغة موحدة بين الشعوب، لاسيما بسبب الشك في حقيقة نواياه، حيث كان الطبيب البولندي مشاركًا في الحركة الصهيونية قبل أن يستقيل منها عام 1901، بعدما نشر بيانًا اتهمها فيه بعدم قدرتها على حل مشكلات الشعب اليهودي، وهو ما جعل اللغة موضع شك، فرفض مندوب فرنسا بعصبة الأمم اعتماد «إسبرانتو» كلغة للعلاقات الدولية في المنظمة بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، قبل أن تقوم الحكومة الفرنسية بحظر تدريسها في كافة الجامعات عام 1922، باعتبارها أداة لنشر الدعاية الشيوعية في البلاد، وذلك علمًا بأن الاتحاد السوفيتي نفسه قد اتهم «الإسبرانتيين» بكونهم جزءًا من منظمة تجسس دولية، وهو ما يفسر تعرض الكثير منهم للاضطهاد والقتل خلال عملية التطهير، التي أطلقها الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين.

واعتبر الزعيم النازي الألماني أدولف هتلر، لغة إسبرانتو دليلا على مؤامرة يهودية للسيطرة على العالم، لتتلقى الاستخبارات الألمانية أوامر صريحة بالقضاء على عائلة زامينهوف، ليتم بالفعل قتل أبنائه الثلاث في أحداث «الهولوكوست» خلال الحرب العالمية الثانية، بالإضافة لمقتل العديد من الإسبرانتيين.

ويتحدث قرابة مليوني شخص لغة إسبرانتو في وقتنا الحالي، علمًا بأن منظمة اليونسكو العالمية قد اعترفت برابطة إسبرانتو العالمية عام 1954، مع إصدار قرار شهير عام 1985 بتشجيع الدول بإضافة تلك اللغة إلى مناهجها الدراسية، غير أن ذلك لم يلق النتائج المتوقعة في نهاية الأمر.

لماذا تفشل تجارب اللغة الموحدة؟

تعد اللغة بمثابة إرثًا ثقافيًا يعبر عن هوية الدولة وشعبها، وهو ما يجعلها أحد أدوات القوة الناعمة في السياسة، حيث تسعى كل دولة لنشر ثقافتها من خلال عامل اللغة، وتعليمها لأكبر عدد ممكن خارج حدودها، وهو ما يفسر لماذا كانت الدول الاستعمارية تحرص بشكل كبير على طمس لغة البلد المُحتل، وبالتالي لن يكون بالأمر السهل إقناع أي دولة بالتنازل عن تلك الأداة.

وتكتسب بعض اللغات مكانة دينية لدى الناطقين بها، مثل اللغة العربية بالنسبة للمسلمين باعتبارها لغة القرآن التي تُمارس بها شعائر الدين الإسلامي، وبالتالي لن يكون من المقبول تغيير ذلك.

ويشير العلماء إلى أن سلوك الجماعات البشرية لن يختلف كثيرًا عن سلوك الأفراد في تلك الحالة، فكل منّا يسعى لخلق كينونته الذاتية وفردانيته الشخصية، ولا يتمنى أن يكون نسخة من سواه.

الخوف من قانون الفعل الأقل، والذي ينص على أن الجسم يتبع المسار الذي يسمح له باستهلاك أقل طاقة ممكنة لحظيًا، وبالتالي الخوف من عدم تطور العقل البشري في حال وجود لغة موحدة بين البشر، وهو ما سيلغي الخبرات البشرية بين أناسٍ اعتادوا على التعامل اليومي السهل وأدواته المتاحة، من غير جهد مبذول بطريقة قصدية وهادفة.

واستمرار وجود الشكوك والمخاوف حول النوايا الحقيقية من الدعوة إلى إيجاد لغة عالمية موحدة بين البشر، فيربط البعض من أنصار تلك المخاوف الأمر بأهداف المنظمة الماسونية العالمية، التي تسعى لخلق عالم مختلف في المستقبل القريب بدين موحد، حكومة موحدة، جيش موحد، وبالتالي لغة موحدة لطمس هُويات الدول، وهو ما يراه البعض الآخر مجرد نظرية مؤامرة.

هل يحل الذكاء الاصطناعي تلك الإشكالية؟

يرى بعض العلماء أنه مع وجود ثورة لغوية قائمة على التكنولوجيا، خاصة في مجال الذكاء الاصطناعي وأدوات الترجمة، فإن حلم اللغة الموحدة لا يزال قائمًا من خلال سد فجوات الاختلاف بين اللغات، إلا أن ذلك سيتطلب التحول نحو منهج لغوي موحد على مستوى العالم، وهو ما لا يزال أمرًا عسيرًا للغاية.

وأخيرًا، يبقى الاختلاف والتنوع من أهم سمات البشرية على مدار التاريخ، وذلك منذ بدء الحياة على كوكبنا، فهل تتوقع أن يحمل المستقبل القريب إيجاد اللغة الموحدة أم سيظل الأمر حلمًا يراود مخيلة البعض؟

زر الذهاب إلى الأعلى