المقبرة (الجزء الثاني)
تطيع ولا تعصي لنا أمر، ولا تنسي مَن الطرف الضعيف في هذا الإتفاق، وإلّا حلت عليك اللعنات من كل حدب”
كانت هذه الكلمات الأولى التي سمعها عرفان بعد أن أبرم اتفاقه مع الشيطان…
*قبل ذلك بفترة*
-عرفان: ” يا أبويا أنا عارف مصلحتي وهروح للشيخ شحاته وابقي تلميذه دي شغلانه بتكسب وسهلة محتاجة شوية فهلوة بس”
=رد والد عرفان ” يا ابني هتكسب فلوس بالحرام، يعني دي أخرة تربيتي فيك، شحاته ده دجال نصاب وفلوسه حرام”
– عرفان: “يا أبويا مش حرام، الناس اللي بتروحله دي رايحه بمزاجها وبتطلع الفلوس من جيبها بمزاجها هو مش بيضرب حد على إيده، مفيش نصب بتراضي الطرفين ”
=والد عرفان: ” دي جزاتي بعد العمر ده كله يا عرفان يا ابني، صرفت على تعليمك وكبرتك عشان تبقي سندي، ده أنت الوحيد مخلفناش غيرك عشان نربيك كويس، كل ده عشان مش لاقي شغل، طيب ما نص شباب البلد مش لاقين شغل، بس لازم تفضل تسعى وربك هيكرم، مش تختار الطريق السهل القصير اللي هو أصلا حرااام يا ابني، هموت أنا وأمك من حسرتنا عليك، يعني أنا أبقى إمام جامع وأنت دجال!!”
– عرفان: ” يا أبويا اطمن، بكره هتغير رأيك لما أتعلم من الشيخ شحاته وتلاقي الفلوس بقت معانا زي الرز”
وسط الحوار الدائر كانت تسمع أم عرفان من الغرفة المجاورة بعد أن ادعت النوم، كانت تسمع والدموع تسيل على وجنتيها على حال ابنها، فقد تزوجت الحاجة آمال والدة عرفان من والده الحاج محمود، وهي ابنة السابعة عشر، فهو إبن عمها وجمعتهما قصة حب بدأت من يوم زواجهم، سكنا في منزلهم الحالي الذي كان قد بناه عمها ليتزوج به محمود كما بني لكل أولاده.
كان محمود مازال موظفاً صغيراً ويعمل في الحقل مع والده، ولا يقبل المساعدات وقرر أن يبني نفسه بنفسه، حتى رزقهم الله بعرفان وقررا ألا ينجبا أطفال أخرين حتى يتسنى لهم تربيته تربية جيدة و يستثمروا كل دخلهم في تعليمه وتربيته على أحسن حال، فكان كل تمرد يفعله عرفان، من عدم التزام بالدراسة للهروب من الدروس وغيرهم، كان يجعل خيبه أملهم أكبر من لو كان لديهم طفل أخر.
في نفس اليوم الذي دار به الحوار السابق ذهب عرفان لبيت الشيخ شحاته وطلب مقابلته، وعلى الرغم من تكدس الناس بالطوابير أمام منزله، إلا أنه سمح له بالدخول دون إنتظار..
كان الشيخ شحاته ذو هيبة، جسد ضخم عريض المنكبين ونظرات حادة، يتعدى طوله المترين وله لحية كثيفة، يرتدي دائما جلباب من الحرير وفي يده سبحة لا تفارق يده وحول عنقه سبحة أخري، كان يسكن في بيت مكون من طابق واحد به ثلاثه غرف، بعد أن أصبح الشيخ شحاته الذي ذاع صيته وليس ذلك الشخص الغريب الأطوار كما كان في السابق ، فتح غرفة منهم علي البهو وعزل باقي الغرف، لتكون الغرفه الخارجية مكان لزيارات الناس…
– عرفان: ” يا شيخ شحاته أنا عارف انك مستغرب إني جايلك، أنا عايز أعرفك إني مليش دعوة برأي أبويا فيك، أنا عارف انك أكيد زعلان منه عشان بيقول للناس في خطبه الجمعة إن فلوسك حرام، بس هو مش فاهم حاجه، أنا فهمته إن الناس بتدفع بمزاجها وده كده مش نصب، أنا عايز أتعلم منك، عايز أشتغل زيك، أنا بتعلم بسرعة وكمان مُتعلم يعني هفيدك أكتر”
نظر له الشيخ شحاته دون أن ينطق بحرف، ظل ينظر له متفحصًا، وأشار له أن يجلس، ثم عاد لشروده مرة أخرى ليرى ما لديه، فهو عرفان إبن إمام المسجد الحاج محمود، الحاج محمود الذي لطالما ذمَّهُ وأمر الناس بالابتعاد عنه، وحرم ماله وظل يحاربه منذ أن ذاع صيته في مجاله في البلدة… دارت في رأسه عدة أفكار ولكن جاءت فكرة ما وفرضت نفسها أكثر من غيرها، وهي أن وجود عرفان بجانبه سوف يكسر شوكة أبيه ولن يحاربه مرة أخري، وإن حاربه فمن سيصدقه بعد أن أصبح إبنه الوحيد الآن تلميذ عندي ويلاحقني في كل مكان .. لمعت الفكرة في رأسه ولم يقدر علي كبح لجام لسانه في الموافقة،
ولكنه تحكم في انفعلاته ونظر لعرفان ثم تنهد قبل أن يقول له ” يا عرفان المجال ده مش سهل زي ما أنت متخيل، أنا مرحب بيك طبعاً انت زي إبني اللي مخلفتوش، بس فيه مخاطر كتير وتعليمه صعب وليه طلبات ” ضيق عينيه وخرجت منها نظرات خبث في كلمة (طلبات).
كان عرفان متحمساً جداً وعلي استعداد للموافقة على إحضار لبن العصفور إذا وجب الأمر، فأجابه سريعاً ” أنا مستعد أعمل أي حاجة هتطلبها مني، أنا مش لاقي شغل وفاضي عشان اتعلم منك يا مولانا ”
تأكدت لدي الشيخ شحاته كل الأفكار حول أن عرفان شاب طائش لم يتعدى الثامنة عشر ويجب أن يستغل هذه النقطة في صالحه ولكنه لم يكن يعرف بذكاء عرفان الكبير وتطلعه الدائم ومكره عند اللزوم …
ظل شحاته يطلب من عرفان أن يلبي طلبات المنزل وأن يوضبه، ويطلب منه مرافقته في البلد حتى يرى كل أهل البلدة أن عرفان إبن الحاج محمود إمام المسجد الآن خادم لشحاته، وكانت هذه لفتة هامة جعلت الناس يتحدثون ويطلقون الشائعات…
أصحاب الحاج محمود وبعض الأهالي ذهبوا مع فكرة أن شحاته قد سحره وجعله تابع له،
أما محبي نظرية المؤامرة، افترضوا أن شحاته والحاج محمود علي وفاق، أو أن عرفان أصابه مس ما وعالجه شحاته ولذلك يعمل معه لرد الجميل…
ولكن كل النظريات كانت تصب في جهه واحده وهي أن الحاج محمود بعد إذلال إبنه له بات منكسراً، ولكنه لم يتوقف عن حملته المضادة ضد شحاته، وقال إنه من الآن يعتبر أن ابنه توفي …
مرت الأيام وكان عرفان يرى شحاته ويتبعه خلسة في زيارته للمقابر، ويتصنت ويقرأ ويبحث في الكتب الغريبة التي في منزل شحاتة الذي انتقل له بعد طرد والده له من المنزل ..
وذات يوم استدعاه شحاته لغرفته وقال له ” يا عرفان اوعى تكون فاكر إني مش عارف إنك بتيجي ورايا المقابر وبتقرا وبتسمع كل حاجة، لا أنا عارف كل حاجة، بس كنت سايبك تتعلم بالنظر كده لحد ما يجي الوقت المطلوب، واهو جه، أنت بقالك معايا سنتين وأثبتت إنك شاطر وبتسمع الكلام، وكمان أنا بكبر في السن وقررت أعلمك شويه بشويه”
انفرجت أسارير عرفان لما سمعه وأشار برأسه بالموافقة وأشار بيده لشحاته ان يكمل كلامه..
أكمل شحاته ” هقولك علي طلبات صعبه بس لازم تتنفذ، انت اتعلمت تكتب الطلاسم، لازم دلوقتي تبدأ وتجيب ضحية عشان تثبت ولائك للأسياد، ولما يقتنعوا بيك هما هيكلموك، مش هقدر اقولك أكتر من كده عشان متأذيش، بس روح هات الطلبات اللي في الورقه دي”
أخذ عرفان الورقه وهو في قمة السعادة بسبب أنه على بعد خطوات من تحقيق حلمه بأن يصبح مشهوراً وذو نفوذ، لم يلق بالا لخطورة ما هو مقدم عليه، ولكنه كان مستعد لبيع روحه !!!
في المساء أجتمع شحاته وعرفان وأشعل الأخير الشموع كما اعتادوا في جلسات التحضير، أغمض شحاته عينيه لثوانٍ ثم نظر لعرفان وأمره أن يذبح الديك ويكتب بدمه تلك الطلاسم التي يحفظها جيداً ولكنه يكتبها بيده لأول مرة ويتمتمها لأول مرة، فقد كان يحفظها ولكن كانت تحذيرات شحاته صارمة من محاولته لتجربتها منفرداً، ولذلك التزم بكلامه، أتموا الطقوس وقال له شحاته ” دلوقتي أنت قدمت نفسك ليهم، استني زيارة!!! ”
كانت كلمات شحاته تثير الرهبة في نفس عرفان ولكنه كان متحمس كثيراً.
في تمام الساعة الثالثة صباحاً استيقظ عرفان علي صوت داخل رأسه، أو هكذا استوعب بعد أشعل النور وظل يبحث عن مصدر الصوت، كان الصوت يقول له ” استيقظ استيقظ، فقد أخترت طريقنا وعليك تنفذ أوامرنا، تطيع ولا تعصي لنا أمر، ولا تنسي من الطرف الضعيف في هذا الإتفاق، وإلا حلت عليك اللعنات من كل حدب، وأول أمر هو العزلة التامة في مقبرة لمدة أسبوع وعدم الإستحمام وتحقير كتابك المقدس،ولا تغير ملابسك وتشرب من بولك، ولا تأكل وسوف تتلقى الأمر التالي هناك في نهاية الأسبوع إذا التزمت”
ثم اختفي الصوت، هرع عرفان وهو متحمس وطرق غرفه شحاته وأخبره ما حدث، وذهبا سوياً للمعلم حنفي المسؤول عن المقابر، والذي يأخذ مبالغ طائلة من شحاته مقابل إنزاله لمقبرة كل فترة، سواء لدفن أعمال مع الجثث أو للاختلاء… عرفه شحاته علي حنفي وقال له أنه تلميذه الجديد وسوف يمكث لمدة أسبوع ولا يجب أن يقاطعه شيء، هز رأسه متفهما وأشار لهم بيده أن يتبعوه، مشيا كثيرا حتى مقبرة بعيده يبدو عليها ان لم يزورها أحد منذ فترة، وقال لهم حنفي ” الحوش ده صحابه مهاجرين ومحدش بيجي بقالهم سنين، أمان يعني”
وهم أن يحفر ويزيح الألواح واعطي له شموع ومستلزمات أخري.
لأول مرة منذ سنوات يشعر عرفان برجفه سرت مثل الكهرباء من أخمص قدميه حتى أطراف شعره، ولكنه في منتصف الطريق ولا يقدر على التراجع، تنهد وعزم على النزول، أغلق حنفي الألواح وألقي عليها أغصان من الشجر حتى لا تبدو للناظر من الخارج أنها غير مغلقة بالكامل، يجب أن يترك مساحة له ليتنفس …
قضي عرفان ليلته الأولى في رعب حقيقي وسط هياكل عظمية كاملة، وقد لعب معه عقله أقذر الألعاب، فقد كان يسمع أصوات تارة ويتخيل الهياكل تتحرك تارة، ولا يعرف هل هي خيالات فعلا أم أن الأسياد يختبرون قوته، لم تذق عينيه النوم في تلك الليلة، وظل يفكر ويفكر وسط الظلام الذي يقطعه ضوء الشموع من حوله، وسط الهياكل والهلاوس أو ربما هي حقيقة..
مر الأسبوع وقد فقد عرفان أكثر من نصف وزنه وقد أصبحت المقبرة حوله أسوأ حالا من بقعه في الجحيم، فهي مليئة برائحة القيء والبول الخاص به وكان يدخل في الفتحة الصغيرة له فئران، كان الوضع سيء للغاية ..
في أول ليله لآخر يوم له في القبر، أحس بحركه غريبة وكانت الأرض تهتز من تحت قدميه، كان منتظراً لهذه الزيارة، ظهر له في هيئة رجل عجوز يتكأ على عصاه الطويلة وقال له ” الآن قد نجحت في الإختبار الأول والثاني هو اثبات ولاء، يجب أن تقدم تضحية عظيمة… بشريه!! ”
ارتبك عرفان وأحس أنه في موقف صعب ولكنه على استعداد لأي شيء…
قاطع شروده الكيان الحاضر أمامه وأكمل جملته ” وليس أي بشري إنما يجب أن يكون أحد والديك أو كليهما!!! ”
ثم أنصرف وترك عرفان في حاله ذهول من الطلب، مرت ساعات قليله حتى حل الصباح وأتي شحاته وحنفي وفتحا المقبرة علي عرفان، لم يتحملا رائحته ولكنهم معتادين على مثل تلك الطقوس ..
مر يومين ولم يغمض لعرفان جفن، كيف سينفذ ما طُلب منه، فهو يعرف أن عدم تنفيذه تعني قتله وقتلهما أيضاً…
ذهب لابيه وقبل يده وبكت أمه عندما احتضنها، فهم آباء ولا يكنّوا سوى المحبه والرحمة لابنهم الوحيد. وياليتهم قتلوه عند ولادته…
بات ليلتها معهم ولكنه قد وضع لهم السُم في الشاي الذي أعده لهم قبيل ذهابهم للفراش، وفي الصباح كان توفاهم الله علي يد ابنهم الوحيد، وقد ترك عرفان المنزل في الفجر حتى لا يشك أحد به، واكتشفوا وفاتهم قبل صلاة الظهر عندما خبط علي بابه أحد المصلين ولم يجب على غير عادته فالحاج محمود إمام المسجد ويكون متواجد قبل الجميع دائماً، عندما لم يجب أحد إجتمع أهل المنطقة وقرروا كسر الباب ليجدوهم وقد فاضت روحهم إلى خالقها..
وسط ذهول أهل البلدة لموتهم معاً، وإصرار عرفان علي عدم الكشف عليهم بحجة إكرام الميت دفنه وتمثيله للحزن وغضب الناس عليه وأقوال شبيهة بأن الحاج محمود مات غضبان علي عرفان وخلافه، انتهي اليوم وانتهى العزاء..
في مساء اليوم التالي أتى له الكيان وقال له أنه نجح في الإختبار والآن عليه فقط السمع والطاعة ..
مرت أربعة سنوات وعرفان عبد دمية متحركة في يد كيانات البُعد الأخر، وقد علمه شحاته كل ما يعرف وفتح له خزائن العالم الخفي، وقد ذاع صيته واشتهر بمعجزاته واغتر بنفسه كثيراً.
ذات يوم طلب من أحد الجان مساعدته في تسخير أكبر عدد ممكن من الجن، وقد ساعده بالافكار لصناعة كرسي يعد بمثابة عرش له وبه ما يملك زمام العديد منهم… أحضر جلود الماعز وضباع وغيرهم وجمعهم بجانب بعضهم بخيط سميك وطبع عليهم بعض التعاويذ والطلاسم بمساعدة الجني، وبدأ ولمدة يومين وأمامه ماعز مدبوحة بداخل إناء كبير، يكتب ورق به أسماء كل الجان وزعمائهم، يكتب بدم الماعز ويحول الورقة لمثلث بداخله ما يطلبه الجان للتسخير مثل أحجار معينه أو دماء أو شعر وغيرها من طلبات غريبه .. وضعهم جميعاً بداخل هذا الكرسي، فأصبح هذا الكرسي عرشه ولكن ليس في بُعدنا… ولكن في البُعد الأخر، ما ان جلس عليه أصبح في عالم أخر يرى الكيانات رؤية العين ..
حتى أتى اليوم الذي قلب موازين كل شيء، جاءت سيدة تطلب منه مساعدتها في تسخير الجن وتزويج ابنتها.. وقتها جاء له مساعده من الجن وقال له ” الأسياد مش موافقين على اللي هتعمله، لازم تسمع الكلام وإلا عقابك عسير …”
لم يلقي لذلك بالاً وأكمل ما يريد وأحضر طلبات غير المعتادة ظنا منه أنه قد أمتلك عاملنا والعالم الأخر سوياً ولا يقدر عليه شيء ..ولكن ما إن ذهب للمقبرة ليدفن العمل ويجلس في خلوة الأيام الثلاث، حتى جاء وقت عقابه، واستيقظ فاقد الذاكرة عارياً تماماً، وعادت له الذاكرة بعد فترة ولكن كان ما فعله عظيم في حق أسياد الجان ولذلك جعلوا جثته تتحلل في ساعات وأن تحترق روحه في الجحيم…