سينماطلاسم

“المنزل الذي بناه جاك” رحلة قاتل من البراءة إلى الدرك الأسفل من النار

بقلم: محمد جمال

"المنزل الذي بناه جاك" رحلة قاتل من البراءة إلي الدرك الأسفل من النار

ما هو الفن؟ ما هو الموت؟ هل يمكننا وصف الموت، والتحلل، والتعفن، والقتل، والجريمة، والتعذيب، والمعاناة بالفن؟

في الحقيقة.. الإبداع يأتي من أي شيء، والفن بالأخص يعكس أعمق المشاعر والرغبات الإنسانية، لذا لطالما كانت الأعمال الفنية العظمى يرجع أصلها للعماناة والألم العظيم.

وهنا يقرر المخرج العبقري “لارز فون تراير” أن يأخذنا في رحلة شيطانية، وحوارية، وعبقرية، ودموية، ومرعبة.. للتعرف على معنى الفن والمعاناة من وجهة نظر قاتل متسلسل يدعى جاك في الفيلم العبقري “The House That Jack Built” أو “المنزل الذي بناه جاك”.

في الفيلم الذي يمتد لساعتين ونصف، يحكي جاك عن خمس جرائم عشوائية ارتكبها خلال مسيرته الإجرامية والتي امتدت لاثنتا عشرة عامًا، ويقص تلك الجرائم على شخص يسمى فيرج أثناء سيرهما معًا لوجهة مجهولة، فنكتشف أن جاك يعاني من الوسواس القهري وهو أسوأ مرض يمكن أن يعانيه قاتل متسلسل بل ونكتشف أيضًا أن جاك يحاول بناء منزله الكامل ولكنه لا يستطيع الوصول للكمال بسبب وسواسه القهري أيضًا.

في الجريمة الأولى لجاك:

يقابل امرأة أثناء قيادته لسيارته على الطريق بين الغابة، وتطلب منه المرأة المساعدة بسبب سيارتها المعطلة، ولكن المرأة يتضح أنها تمتلك شخصية وقحة حيث تستمر في إلقاء النكات حول كيف يمكن أن يكون جاك قاتلًا متسلسلًا، أو كيف أنه أجبن من أن يكون قاتلًا، فلا يجد جاك نفسه إلا وقد قتل تلك المرأة في نوبة غضبه، ثم يتخلص من سيارتها وسط الغابة، ويلقي جثتها في مخزن اللحم المبرد الذي يمتلكه.

 

في الجريمة الثانية لجاك:

يخدع جاك امرأة حيث تظن أنه عميل شركة التأمين والذي قد يتسبب في زيادة راتبها الشهري من وفاة زوجها، ربما شعرت بالشك في البداية حول طبيعة جاك، ولكن سرعان ما تصدقه حينما يذكر المال، في النهاية يخنقها جاك بيديه بعد معاناة، حيث كانت مرته الأولى في ممارسة الخنق، ويعاني كذلك في تنظيف مسرح الجريمة حيث يعذبه وسواسه القهري، فيتخيل أنه ترك بقعة دماء هنا أو هناك، مما يتسبب في تأخره حيث يصل شرطي لموقع الجريمة.

بسرعة يخفي جاك الجثة خارج شاحنته، ويقرر أن يكمل دوره في اللعب حول الشرطي، ولكن سرعان ما يطرده الشرطي خارج المنزل، فيهرب جاك بالجثة والتي ربطها بمؤخرة السيارة فيجرها على طول الطريق لتصنع أثرًا طويلًا من الدماء يتبعه من مسرح الجريمة إلى مخزن جثثه.

وهنا يظن جاك في البداية أنه قد حكم على نفسه بالفشل بسبب غبائه ولكن يفاجئه المطر والذي يزيل الأثر تمامًا، وهنا ينظر جاك للسماء ويظن أن الرب يوافقه على جرائمه!

 

في الجريمة الثالثة لجاك:

يسأله رفيقه فيرج عن فقدانه لمعنى الجمال العائلي، وكيف أن العائلة تجعل الإنسان يدرك مشاعر إنسانيته، فيقرر جاك أن يحكي لفيرج عن المرة الوحيدة التي امتلك فيها عائلة.. حيث يأخذ امرأة وطفليها إلى رحلة صيد، وهناك سترى مقدار الحب والإعجاب التي تكنها المرأة وطفليها لجاك، حيث كان يمثل لهم الزوج والأب الذي افتقدوه في حياتهم.

ولكن سرعان ما يحول جاك رحلتهم العائلية الجميلة إلى كابوس مفزع حيث يقتل الطفلين ببندقية الصيد أمام أمهما ثم يجبرها على إطعام جثثهما قبل أن يقتلها في النهاية.

وبعد ذلك يأخذ الجثث إلى مخزنه، ويخرج جثة الطفل العابس من بين الطفلين، ويصنع ابتسامة مشوهة على جثته، ثم يتملك جاك شعور بالرضا حول لوحته الفنية التي رسمها من قلب المشاعر العائلية.

 

في جريمة جاك الرابعة:

يلتقي جاك بامرأة غرّة، بسيطة العقل والوعي.. يخدعها بحبه المزيف، حيث يحكي جاك عن أنه كان يعاني من فقدان المشاعر، لذا درب نفسه لسنين طويلة على تزييف تلك المشاعر، حتى يمكنه الإندماج وسط البشر العاديين وخداعهم بسهولة، وهنا كانت تلك المرأة المثال الحقيقي حول قدرة جاك على الخداع.

يعترف جاك للمرأة أنه قاتل متسلسل قتل ما يقارب الثمانين شخصًا وأنه “السيد الكامل” كما تسميه الصحف المحلية، تشعر المرأة بالخوف وتهرب من جاك حيث تلتقي بشرطيًا، وبشكل مثير للسخرية يعترف جاك للشرطي بحقيقة كونه قاتلًا متسلسلًا، ولكن الشرطي لا يصدق أي هراء مما يقول فقد بدا أمامه مجرد رجل عشوائي يعاني من ليلة عصيبة من شرب الكحول، وكما قلت.. كانت المرأة غبية كفاية لتعود بجاك لشقتها حيث يقوم بقطع صدرها وهي حية ويصنع منه محفظة للمال.

وهنا تكتشف أن جاك كان على حق، فحين لا تكون حذرًا، وتخبر الجميع بجرائمك.. تدفع عنك الشكوك بعيدًا، وكأنها علاقة كونية عكسية ما تحرس على حماية جرائم جاك.

 

في الجريمة الخامسة:

يخبر جاك فيرج أنه اختار بضع أناس عشوائيين للقيام بتجربة مثيرة للإنتباه، حيث يريد أن يقتلهم جميعًا بطلقة معدنية واحدة، ولكن سرعان ما تسير الأحداث لتكشف عن الشكوك المرتفعة حول جاك وتصل الشرطة إلى مخزن جثثه قبل أن يرتكب جريمته وهنا يحين الوقت كي نتعرف على فيرج.

حيث أن هناك شرطيًا استطاع أن يخترق باب المخزن المعدني ويطلق رصاصة على جاك، بينما الأخير قد اكتشف أن بيته الكامل الذي سعى دائمًا لأجله كان في النهاية منزلًا من الجثث.

 

من هو فيرج؟

يلتقي جاك في النهاية بفيرج، ويخبره الأخير أنه كان مع جاك دائمًا خلال جرائمه، حيث يمثل فيرج الضمير الخفي لدى جاك والذي أخفاه وعي جاك خلف غرفة مغلقة منذ البداية حتى لا يزعجه الضمير خلال جرائمه.

يقرر فيرج أن يأخذ جاك في رحلة تحت الأرض، حيث يمثل فيرج بيبوليوس فيلرجلوس مارو أو فيرجل، الشاعر المشهور الذي أخذ دانتي في رحلة للجحيم في الكوميديا الإلهية.

وعلى نفس الخطى يأخذ فيرج جاك إلى الجحيم، وهنا ندرك أن جاك قد مات بالفعل وأن روحه تقف على شفى الاحتضار.

وأثناء رحلتهما، يحكي جاك عن جرائمه لفيرج، وهنا يصف فيرج جاك بأنه لم يقابل شخصًا وحشيًا وشيطانيًا مثل جاك، ولكن أثناء رحلتهما عبر الجحيم يتوقف جاك أمام مشهد لمزارعين يقومون بحصد أرضهم، حيث يمثل المشهد براءة جاك الطفولية والذي قتلها بجرائمه، وهنا يتملكه الحزن وتسري دمعة هاربة من عينه رثاء لبرائته التي اغتالها بيديه.

 

الجسر المحطم:

في النهاية يصل فيرج بجاك إلى جسر محطم، ما بعد الجسر يقود إلى الجنة، فيسأله جاك عن مكانه هناك فيجيبه فيرج بأن الجنة ليست لأمثاله وأن مكان جاك هنا في الجحيم، ولكن جاك لنزعته الشيطانية الكمالية، حيث يظن نفسه كاملًا وأحق البشر بالجنة، يخبر فيرج بأنه سيحاول تسلق الصخور حول الجسر ليصل للجنة، لكن فيرج يخبره أن كثيرين قبله حاولوا وفي النهاية سقطوا للدرك الأسفل من النار، ولكن جاك كان قد عزم أمره منذ البداية، فيودعه فيرج ويتركه لمصيره.

يحاول جاك تسلق الصخور، يصارع كأي شيطان للوصول لجنة الخلد، لكن ذنوبه كانت أثقل مما يتوقع، وفي النهاية سقط للدرك الأسفل من النار، ومات جاك محملًا بذنوبه إلى الجحيم.

هكذا كان الفيلم، رحلة شيطانية داخل عقل قاتل متسلسل، منذ قتله لبرائته الطفولية إلى رحلته للدرك الأسفل.. وهكذا عبر المخرج لارس عن الجحيم الذي يدور داخل عقل السفاحين من أمثال جاك.

وفي النهاية كان الفيلم تجربة نفسية لا تنسى..

زر الذهاب إلى الأعلى