بطولة الكومبارس
الكومبارس هي كلمة أصلها إيطالي، ومعناها “الزائد عن الحاجة”.. وقد تم استخدام هذا المصطلح سينمائيًا للإشارة للممثلين الثانويين، وهم على ندرة ظهورهم، وقلة جُمَلهم الحوارية في الفيلم، إلا أنهم من يجعلون للفيلم أثرًا حقيقيًا، كأنك تشاهد لمحة من حياة قد وقعت من قبل.. فالكومبارس هو شخص يمر في شارع تم إخلاؤه بواسطة فريق عمل، هو صاحب كشك يشتري منه البطل شيئًا يريده، أو عسكري يأمره الضابط بفعلٍ ما، أو زميل حبس أو قاتل أو مقتول، الكومبارس عكس الأبطال، يمكنه أن يكون أي شيء..
الكومبارس يفرح إن أدى دور الشرير، فهو قد يقبل البطلة رغمًا عنها، ويوم سعده إن لعب دور الكافر، فسيحصل على “بريك” أمام الكاميرا وخلف الكاميرا.. الكومبارس لا يقلق من نجاح الفيلم أو فشله، لا يقلق من إقبال منتجين عليه أو إدبارهم، لا يسعى للتملق لمنتج، فعالمه أصغر بكثير من عالم المنتجين، هو لا يحتاج سوى لتملق “الريجيسير” المسئول عن تسكين الكومبارسات في أدوارهم.. بعضهم يحلم بالنجومية والأضواء، ولكن أغلبهم لا حلم له سوى أن يأتيه دور متكلم لرجل أعمال ثري، فيرتدي بعض الملابس الفخمة ويسحب أنفاسًا من سيجار منطفئ (ويا ويله إن أشعله وأفسد الراكور)، ويقول جملة أو جملتين عن “قعدة المكاتب” التي لا يحبها، وعن القهوة التي سيتناولها مع البطل من “البُن بتاعه”، وإن كان يوم سعده فسيكون المشهد في مطعمٍ على النيل.
في وقتٍ سابق من التاريخ كان الكومبارس مهنة لها قواعد، وله “معلمين” يُلجأ إليهم من هواة المهنة.. يجلسون على مقاهي بعينها (غالبًا مقهى بهرة في شارع عماد الدين)، في انتظار من يطلبهم في أدوار مختلفة، ومما يُقال عن جلسات الكومبارس قديمًا أنهم كانوا يتجمعون وفقًا لطبيعة الأدوار التي يؤدوها، فهناك طاولة لكومبارسات الشر، وطاولة أخرى لكومبارسات الكوميديا، وطاولة لكبار السن، وهكذا.. لم تكن الحاجة للمال أو الشهرة هي ما تحركهم، ولكن أغلبهم كان يحركه شغف التمثيل، وأن يفعلوا أصعب ما يمكن لمبدع أن يفعله؛ أن يحفظ الجمهور وجهه دون اسمه، وأن يتذكروا لزماته الكلامية والحراكية دون محاولة للبحث عن حياتهم الشخصية وأسرارهم التي –لحسن حظهم- لا تشغل بال الصحافة.
ولكن مع الوقت اختفى الكومبارس، وخفتت أهمية هذه الوظيفة بعد أن ارتبطت بالعاطلين من الرجال، والباحثات عن الأموال السريعة من الفتيات ممن يبحثن عن منتج مولع بالمراهقات، أو مخرج يجد ضالته الجنسية فيمن هن أقل منه مالًا وسلطة.. ومع ظهور فكرة “ضيف الشرف” وهي فكرة محمودة إن أضاف هذا الممثل المعروف للعمل ثقلًا وبُعدًا ما للدور الصغير الذي يظهر فيه، ولكن مؤخرًا تحول الأمر لمجرد ظهور غرضه الترويج الدعائي للفيلم ليس أكثر.
الممثل الثانوي أو الكومبارس الذي يفهم أصول مهنته يجيد فيها، ويتميز، وكثيرًا ما ينتقل هذا الاتقان للجمهور ويشعر به بدوره، فهو على عكس الممثل لا يمتلك رصيدًا طوال أحداث الفيلم سوى جملة أو جملتين، فيجتهد ويخرجهما على أفضل ما يكون، ولعل هذا قد ظهر في فيلم “جواز بقرار جمهوري” حين قضى الفنان “سعيد صالح” معظم أحداث الفيلم يتدرب على كلمة واحدة سيقولها خلال عمله ككومبارس، وهي “إخرس”، صحيح أنه لم يؤدها خلال أحداث الفيلم بشكل صحيح لدواعي الكوميديا، لكن محاولاته الصادقة هي أقرب ما يكون للواقع.
مع تطور الصناعة تناسى الصناع أهمية الكومبارس وحقهم في هذا التطور، فظهر “امتهان الكومبارس” وهي ظاهرة حضرتها بنفسي أثناء تصوير بعض الأعمال التي تدعي أنها أعمال كوميدية، وأغلبها يكون مسلسلات أو مسرحيات، ويتعمد المخرجين الإبقاء على بعض الكومبارس من أصحاب “الأشكال المميزة”؛ سواء كانوا مُسنين، أو أقزام، أو ممتلئي الجسد، أو سمر البشرة، أو من ذوي الآذان الكبيرة.. ويتركونهم في موقع التصوير إن شعروا أن المشاهد قليلة زمنيًا على ملء مدة حلقة.
فيأتون بأحد هؤلاء الكومبارس ليصنعوا مشهدًا يدعون أنه فكاهي، لكنه في حقيقة الأمر مشهد يعكس سخافة الموقف، وسخافة من يلجأ لهذا الضحك الرخيص الذي يرضي جمهورًا زائلًا.. متناسين أن الممثل الثانوي ترس إن استمر صدأه وامتهانه ستتوقف الماكينة بكاملها.. وأن الكثير من جمهور هذه الصناعة الحقيقي متعلق بالكومبارس القديم أكثر من تعلقه بصناع هذه الكوميديا التي لا يقدمها إلا مسوخ وأنصاف مبدعين على حساب عصب هذه الصناعة الوحيد.