حدث في رمضان .. معركة عين جالوت
حدث في رمضان .. في يومه الخامس والعشرين
كان العالم الإسلامي يتهاوى.. دكت جحافل التتار قلاع المسلمين الراسخة، قتلوا الرجال وهتكوا أعراض النساء حرقوا القرى، لم ينج من شرهم حتى الحيوانات والزرع، قتلوا الأطفال واستبقوا بعضهم لبيعه في أسواق الرقيق..
وكان من بين هؤلاء الأطفال، الأمير محمود بن ممدود بن خوارزم شاه، ابن الأمير ممدود أمير خوارزم التي حرقها التتار وقتلوا كل من فيها.. باعه التتار في أسواق النخاسة ليكون لهم عدوًا وحزنا. وفي مصر كان يحكم الملك الصالح أيوب، كان يشتري هؤلاء الأطفال لينقذهم من ذل الأسر ويحميهم من بطش التتار والصليبين.
أمر الملك الصالح أيوب مشايخ مصر وعلى رأسهم شيخ الإسلام العز بن عبد السلام، أن يأخذوا هؤلاء الأطفال ويربوهم على الدين الصحيح، وحب الجهاد ومقاومة العدوان.. وكان الشيخ العز من أول من فطن لخطر التتار، فكان يدعوا الناس للعودة إلى الحق والتحصن من هذا الخطر القادم لا محاله.. لذا فقد ربى محمود الذي ألقى عليه التتار لقب قطز، ومعناه الجرو الشرس، لأنه كان صعب المراس في أسره وكثيرًا ما حاول الهرب. ربى الشيخ العز قطز وغرس فيه مبادئ الدين، وغرس فيه الإخلاص لله، لم يكن قطز يحتاج لمن يشجعه على حرب التتار، فقد كانت حربهم هي كل ما يحلم به منذ أن رأى مدينته تحترق وأهله يقتلون.
كبر قطز وزحف جيش التتار أكثر داخل أرض المسلمين، حتى وصل إلى بغداد عاصمة الخلافة العباسية فأحرقها وهدمها وقتل الخليفة العباسي ركلًا بالأرجل.. تحالف معه بعض ولاة المسلمين الخونة خوفًا على حياتهم، وصارت مصر بوضوح هي المرحلة القادمة للغزو التتاري المجرم.
كانت مصر تتقلب في الصراعات الداخلية، لكن الله أراد لشوكة التتار أن تنكسر فمكن لسيف الدين قطز أن يحكم مصر، وفي خلال عام وبمعاونة الشيخ العز بدأ قطز في إصلاح الجيش والبلاد. في البداية أشار أمراء المماليك على قطز بفرض الضرائب على الشعب المصري لتجهيز الجيش، لكن الشيخ العز ذهب إليهم وقال: والله لن يحدث وسأقف لتلك الدعوة المقيتة ولو كان الثمن حياتي، كيف تفرضون على الفقراء الضرائب وأنتم تعيشون في قصور وترفلون في الحرير والذهب، فرق قلب قطز وشعر بالخزي من الفكرة، وأمر كل أمراء المماليك بالتخلي عن كافة ممتلكاتهم وبدأ بنفسه…
وقال إن احتجنا شيئًا بعد ذلك من الشعب، سنطلب منهم أن يتبرعوا ولن نفرض عليهم الضرائب.. وفاضت خزائن الدولة بالأموال، وبدأ تجهيز الجيش. وبالتوازي مع ذلك أوقف قطز الصراع بين المماليك، وبعث رسائل الصلح لمن تمرد منهم ووعده بالعفو عنه، وكان من بين هؤلاء الأمير بيبرس البندقواي، الذي وضعه قطز على قيادة القوات الخاصة في الجيش.
جاءت أنباء وصول التتار إلى فلسطين وأرسلوا لقطز رسلًا تطلب منه تسليم مصر، فقطع قطز رؤوسهم وعلقها على باب زويلة ليعطي رسالة للشعب أننا أبدًا لن نستسلم ولن نعود عن حرب هؤلاء المجرمين، فقد كان يعلم قطز مصير من يستسلم للتتار فقد رأى بعينه مدينته تحترق بعد أن استسلم أهلها للتتار، لذا كان واجبًا عليه أن يقطع خط العودة وأن يجعل الحرب هي الطريق الوحيد للخلاص، فإما النصر أو الموت بكرامة.
قرر قطز الخروج للتتار وملاقاتهم على حدود سيناء، ورغم أن البعض رأى ألا يخرجوا للتتار وأن يتحصنوا في المدينة وينتظروهم إلا أن قطز رأى أن الخروج لهم يعطيه فرصة ثانية إذا ما انتصر التتار في المعركة أن يعودوا إلى المدينة ويتحصنوا فيها وينظموا صفوفهم ويعيدوا الهجوم مرة أخرى، أما إذا انتصر عليهم التتار في القاهرة، فلن تكون هناك فرصة ثانية.
وصل قطز إلى عين جالوت قبل وصول التتار ورأى أنها تصلح للمعركة، فالمكان يمتاز بأنه بين جبلين فأقر قطز خطته العبقرية بأن يستدرج الجيش التتاري إلى داخل السهل، حتى إذا دخلوا بكامل جيشهم التف بجزء من قواته من الخلف وأغلق عليهم خط العودة، ثم بدأ برميهم بالحجارة والسهام من فوق الجبل.
وصل جيش التتار لعين جالوت بقيادة كاتبغا، نزل لجيش التتار كتيبة القوات الخاصة بقيادة الأمير بيبرس، وكانت كتيبته عظيمة التنظيم مهيبة الشكل يرتدون ثيابًا براقة ويمسكون بأسلحة قوية، قاموا بعرض عسكري مذهل بهدف استدراج قوات التتار إلى عين جالوت، أعجب كاتبغا بكتيبة بيبرس، وابتلع الطعم، فرغم قوة كتيبة بيبرس الواضحة إلا أن عددها لا يتجاوز الألف بينما جيش التتار يتجاوز العشرين ألفًا، لذا قرر كتبغا أن يفتك بهم وانقض عليهم بكل قوته، ودار القتال.
وبدأ بيبرس وكتيبته يضربون مقدمة الجيش التتاري ثم ينسحبون إلى الخلف، ثم يضربون مقدمة الجيش التتاري وينسحبون إلى الخلف حتى يستدرجوه بين الجبلين، وبمجرد أن دخل الجيش التتاري كاملًا بين الجبلين أمر قطز الذي كان يعتلي أعلى قمة في الساحة بتحرك نصف الجيش الآخر من خلف الجبلين وضرب جحافل التتار من الخلف، وفجأة استفاق التتار على الفجيعة وأدركوا خطة جيش المسلمين المصري العبقرية.. وبدأت السهام تتساقط على رؤوسهم من أعالي الجبال، وبدأ جيش التتار الذي لم يهزم قبل ذلك، يتراجع ويتفرق.
لكن هذا الجيش العتيد لم يكن ليستسلم بسهولة فهجم على جناح الجيش الإسلامي بقوة، وكاد أن يهزمه وبدأ بعض الجنود المسلمين يفرون هاربين، وظهرت صغرة في جيش المسلمين وبدأ التتار في التقدم، هنا امتطى قطز فرسة ونزل من على الهضبة التي كان يعتليها بسرعة البرق والتحم بنفسه وهو الأمير مع جيش التتار، ثم قفز من على الفرس وألقى خوذته على الأرض وصاح بأعلى صوته: “وا إسلاماه.. وا إسلاماه” ولما رأى الجنود الفارين قائدهم يلتحم بنفسه مع جيش التتار ويصيح “وا إسلاماه” دبت الحماسة في قلوبهم وشعروا بالخزي من هروبهم وعادوا وقاتلوا بضراوة، حتى انهزم التتار وبدأوا بالهروب.
لكن أين الهروب وهم محاصرون من الخلف والأمام، تم إفناء جيش التتار عن بكرة أبيه، وأمر قطز بتتبع القلة التي استطاعت الفرار وقتلهم، وانتشرت أخبار المعركة في العالم كله، أن جيش التتار الذي لم يهزم، جيش التتار الذي جعل عظام الملوك يبللون ملابسهم من الخوف، قد هزمه جيش المسلمين في مصر.
جرت أحداث تلك المعركة في 25 رمضان سنة 658 هجرية. حيث استطاع الصائمون أن يفتكوا بجيش التتار.