حكايات كرة القدم الإفريقية.. الأهلي ملك الدقيقة «90»
كتب: محمود عدوي
الأهلي ملك الدقيقة «90».. حينما تلفظ المباراة أنفاسها القليلة المتبقية، ويركض عقرب الدقائق أسرع من أنفاس اللاعبين اللاهثة، يرحل اليائسون من الفوز، ويبقى الآملون به. وعلى أفواه أبواب الخروج من المدرجات، يظل المترددون ينظرون تارة إلى الخلف وتارة للأمام منتظرين المعجزة.
تلتصق الألسنة بالحناجر الجافة، بينما العيون المتعلقة بأرضية الملعب، تقوم بأداء مهام أقدام اللاعبين المنهكة، تراوغ وتمرر وترفع الكرة في خيالها، عسى أن يتحقق ذلك الشيء المنتظر طوال التسعين دقيقة.
معجزات كرة القدم
فجأة تحدث المعجزة، لسبب ما أو بتمريرة ما أو ربما بخطأ، يصبح اللاعب والجمهور في مواجهة المرمى، ويتفق الجميع في تلك اللحظة على شكل التسديدة، والزاوية التي ستذهب إليها الكرة، ورد الفعل الذي سيقوم به الحارس.
وفي أحيان كثيرة يتفقون أيضا على من هو اللاعب الذي سيحرز الهدف. إنها الدقيقة التي يتأكد فيها المؤمنون من قوة إيمانهم، ويشيرون إلى أنفسهم بعد إحراز الهدف، وكأنهم هم من أحرز الهدف، فبسبب صمودهم جاء الهدف، وليس بسبب أي شيء آخر.
إنها الدقيقة التي تظل الجماهير محتفظة بها في ذاكرتها مدى الحياة، تلك الدقيقة الأخيرة من المباراة.. دقيقة المعجزة.. ومولد انتصار قبل موت مباراة.
دقيقة المعجزة
في مباريات الأهلي المصري خاصة المهمة، لا يوجد فريق في العالم له نفس القدرة أو الحظ أو القدر، في تحقيقه لأكثر البطولات صعوبة في الدقيقة الأخيرة من المباراة.
الأهلي دوما هو بطل الدقيقة الأخيرة، يذهل الخصوم، ويكافئ المتفائلين، في العشرات من المرات، كان دوماً إداريو ورؤساء الأندية الخصوم، يتهيأون بابتسامات عريضة للتوجه إلى المقصورة الرئيسة من أجل حمل كأس البطولة. كانت دوماً تلك المشاهد التي اعتاد عليها جمهور الأهلي، سباب جمهور الخصم، إشارات لاعبي الاحتياطي بالنصر الآتي بلا شك.
كل ذلك كان جمهور الأهلي يتحمله بهدوء، فهو يعلم تماما بأن الهدف آتٍ، وأن متعة الكأس ليست في حمله بالدقائق الأولى من المباراة، بل بالعكس، هو هدف اللحظة الأخيرة، الهدف اللامتوقع، الذي لن يحدث، الذي لن يسجل، لأن الإحدى عشرة قدما من لاعبي الخصم كانت تسد كل المنافذ نحو المرمى.
نهائي كأس مصر
في نهائي كأس مصر عام 1984، كان الاتحاد المصري لكرة القدم قد حرم النادي الأهلي المصري من معظم لاعبيه الأساسيين لمشاركتهم في منتخب مصر الذي تأهل لأولمبياد لوس أنجلوس، في حين كان الخصم في النهائي، وهو نادي المصري البورسعيدي يتمتع بكامل نجومه ولاعبيه الكبار لعدم مشاركتهم في المنتخب.
وفي ظل حالة من الاحتقان بين جماهير الناديين، أقيمت المباراة في استاد القاهرة، واستطاع النادي المصري أن يحرز هدفه الأول في منتصف الشوط الثاني، وكاد أن يحرز العديد من الأهداف الأخرى.
وحينما حانت اللحظة المثالية للوقوف أمام كاميرات التلفزيون التي كانت تنقل أحداث المباراة لملايين المشاهدين، كان الراحل سيد متولي رئيس مجلس إدارة نادي المصري آنذاك، يقف بكل ثقة ليعدل ربطة عنقه ويُغلق أزرار “جاكيت البدلة” ويتهيأ استعدادا لاستلام الكأس.
اللحظات الحاسمة في كرة القدم
كان المشهد واضحا ووقوف مجلس إدارة نادي المصري بأكمله يدل على أن المباراة قد حسمت. وفي تلك اللحظات كان حكم المباراة حسين مهاود ينظر في ساعته وإلى مساعديه، كي يتأكد أن الأمور قد حسمت، وبدأ يرفع يده بالصافرة كي يضعها على فمه استعداداً لإطلاقها معلناً نهاية المباراة وفوز النادي المصري بالبطولة لأول مرة في تاريخه.
مرر مدافع النادي الأهلي حمدي أبو راضي الكرة إلى لاعب خط الوسط خالد جاد الله، الذي لم ينتظر سوى ثوانٍ ومررها بذكاء بين لاعبي خط دفاع النادي المصري إلى علاء ميهوب مهاجم النادي الأهلي، الذي وجد نفسه منفردا بحارس مرمى النادي المصري العملاق عادل عبد المنعم، ولم يجد علاء أية وسيلة أخرى لإحراز الهدف مع وجود عادل عبد المنعم، سوى أن يراوغه ويضع الكرة في الشباك، لتشتعل المدرجات والحواري والشوارع والمقاهي بالصراخ.
إنها المتعة التي لا تضاهيها متعة أخرى، ليس الفرح في إحراز الهدف، بقدر ما هو الفرح في إذلال الخصم وجرح كرامته. كان اللاعبون يركضون في الملعب بلا هدف، كانوا يبحثون عن أي شيء يقلل من جنون اللحظة.
ورغم أن الهدف لم يكن هدف فوز بل تعادل، إلا أنه كان بطعم الفوز. وفي الشوطين الإضافيين، استطاع لاعبا الأهلي علاء ميهوب وخالد جاد الله أن يحرزا هدفين آخرين، لتنتهي المباراة بثلاثة أهداف مقابل هدف، ويحصل الأهلي على كأس البطولة في ذلك العام.
لقاء الأهلي والمصري 2017
بعد ثلاثة وثلاثين عاماً، وفي عام 2017، لا يتكرر المشهد فحسب، ولكن تتكرر المعجزة، فالخصمان كانا هما الأهلي المصري ونادي المصري البورسعيدي، وكان الوضع بينهما خلال الثلاثة والثلاثين عاماً قد ذهب إلى ما بعد مرحلة الكراهية.
كان الثأر والدم يحكم علاقتهما، فمقتل 74 شابا وطفلا من مشجعي النادي الأهلي في مدرجات استاد بورسعيد في عام 2102، والتي كانت على مرأى ومسمع العالم كله، لم تكن هينة ولا من السهل أن ينساها جمهور النادي الأهلي.
ورغم أن الجميع تمنى ألا يصل الفريقان إلى هذه المقابلة، إلا أنها حدثت، وتم الاتفاق على أن يكون الملعب هو استاد برج العرب في أقصى الشمال الغربي من الدولة المصرية، حيث يتربع الاستاد على مملكة الصحراء الخاوية، وكأنه حلبة مصارعة رومانية مهجورة منذ آلاف السنين.
وفي المباراة، ساد التوتر في الملعب منذ الدقيقة الأولى، وبالكاد كان من الممكن أن تشاهد تمريرة جيدة أو فرصة تحمسك. كان الفريقان خائفين من غضب جمهورهما، وبالأخص النادي الأهلي، الذي كان في حالة ارتباك بسبب الضغوط الجماهيرية عليه والمطالبة بالثأر في الملعب، وكان الثأر هو الفوز والرجوع بالكأس.
وانتهى الوقت الأصلي للمباراة بالتعادل السلبي من دون أهداف. وفي الشوطين الإضافيين، كان المصري، كما حدث منذ ثلاثة وثلاثين عاما، هو الأسبق والأسرع، فاستطاع من خلال تسديدة عبد الحميد بيكا أن يحرز هدفه الأول في الدقيقة الثانية عشرة من الشوط الثالث.
سيناريوهات كرة القدم
كان البورسعيديون يعلمون جيدا أن سيناريو المباراة السابقة لا يمكن أن يتكرر، ولا يمكن أن تعاد نفس الإهانة، ونفس الهدف القاتل.
مدرب النادي البورسعيدي، أحد أهم لاعبي النادي الأهلي في التسعينات ومهاجم مصر الأول في تلك الحقبة، حسام حسن ومساعده وأخوه التوأم إبراهيم حسن، كانا أيضا يعتبران المباراة ثأرا خاصا بهما، فهما المطرودان من النادي الأحمر بعد سنوات طويلة بين جدرانه، وعلاقتهما بجماهير النادي أصبحت تحتوي من الكراهية ما لم توجه مثلها إلى لاعب أو نادٍ في تاريخ النادي الأهلي. وكانت كل هذه الأمور قد تشابكت وتعقدت، ما يجعل تلك المباراة من أصعب المباريات في تاريخ الناديين.
في الشوط الرابع والمباراة تغلق أبوابها، وعقرب الدقائق يركض من دون أن يستطيع أحد إيقافه، كان الجميع يعلم أن المعجزات ليست بالضرورة حكرا على النادي الأحمر، وأنه يجب عليه أن يتقبل الخسارة، فالنادي البورسعيدي كان هو أقل الأندية في الدوري آنذاك الذي دخلت في مرماه أهداف، وبالتالي فحالة الاطمئنان كانت تسود نصف الملعب الأخضر، بينما كان التسرع والتوتر والخوف من الهزيمة هو الذي كان يدير النصف الآخر من الملعب حيث الفريق الأحمر.
ولكن المعجزات لا تنتهي، ربما تتأخر قليلا، تتلكأ هنا، أو تتباطأ هناك، لكنها حتما ستأتي. فقبل المباراة بثلاث دقائق، عمرو جمال، المهاجم الذي كان على دكة البدلاء وتم الدفع به من قبل مدرب الأهلي، يسدد برأسه في مرمى النادي الأخضر محرزاً التعادل، لتزيد الوساوس في صدور مشجعي النادي البورسعيدي.
إهانة اللحظة الأخيرة
لم يكن الخوف من الهزيمة هو ما كان يدور في عقولهم لحظتها، ولكنها إهانة اللحظة الأخيرة، كان هناك رفض قطعي بأن تتكرر المأساة، لن يحدث هذا أبداً مرة أخرى. هدف عمرو جمال كان قبل النهاية بثلاث دقائق وليس دقيقة واحدة مثل المباراة الماضية، إذا فلنتجهز لضربات الجزاء، وتصبح الهزيمة حينها مقبولة.
لكن الأهلي هو الأهلي، ففي الدقيقة الأخيرة من المباراة، كان أحمد فتحي المدافع الأيمن للنادي الأهلي، إمبراطور القادمين من الخلف، وسيدهم المطلق في الألفية الجديدة، يحرز هدفه القاتل في مرمى المصري البورسعيدي.
إنها المعجزة بكامل تجلياتها، من دون زخارف أو إضافات، لا أحد يستطيع أن يكذب أو يضيف أو يعدل على تلك المعجزات، إنها تلك المعجزة التي يظل دوماً الجمهور يتذكرها، ويكون لديه استعداد كامل بأن يضحي بكل ذكرياته الشخصية مقابل فقط أن تظل تلك الذكرى محفوظة جيدا في مخيلته، لأنها الذكرى الوحيدة التي تمنحه الأمل، أمل أنه يستطيع ولو في اللحظات الأخيرة أن ينتصر.
الكاتب: محمود عدوي