حينما ينبت للوحدة مخالب ضارية….مراجعة فيلم “The Lighthouse”
دائمًا ما تكون الخطوة الثانية -لفنانٍ ما تمكن من طرق أبواب النجاح من الوهلة الأولي- مثيرة للإهتمام.
فبالنسبة للكثيرين، سواء أكان روائيًا أو رسامًا أو مخرجًا سينمائيًا أو مؤلفًا مسرحيًا أو فنانًا كاريكاتوريًا، فقد يصادف البعض وقتٍ ما سيتعرض فيه لضغط كبير.. بالرغم من كونه تخطى حاجز الرهبة الأولية عند خوض التجربة لأول مرة، فهناك من يختارون أن لا يتأرجحوا عن المألوف بأكبر قدر ممكن من الجرأة لأنهم يعلمون أنه قد لا يكون لديهم أدنى قدرةٍ على المطالبة بمساحاتٍ إضافية للإبداع أكثر من اللازم.
أما للبعض الأخر فقد حانت اللحظة للتعمق أكثر فأكثر واستكشاف ما لم يتم التطرق إليه من قبل.
مع العلم بأن السقوط في المشروع الموالي قد يشكل مصدر قلقٍ حقيقي لكثيرٍ من صناع المحتوى الفني، شبح الإخفاقات قد يطارد جميع المساعي الإبداعية الثانية.
لكن الفترة الأخيرة شهدت شروق شمس مواهب شابة استطاعت أن تشحذ هدمها في مشاريع سينمائية ذات ميزانيةٍ محدودة وجودة مضنية على الصعيد الروائي، منهم “روبرت إيغرز” الذي انفجرت موهبته على الساحة بفيلمه الروائي الطويل “The Witch” الذي أسر شريحةً عريضةً من الجماهير، وأذهل كوكبةً من النقاد، واحتل مكانة مستحقة كأحد أبرز أفلام الرعب وأكثرها إنعاشًا لمحتواها.
يعود “روبرت” مخرجًا وكاتبًا (مشاركةً مع شقيقه ماكس إيغرز) إلى السينما من جديد مع فيلم “The Lighthouse”، والذي تم إعداده بأسلوب كلاسيكي فريد مع عروض استثنائية علي المستوى التمثيلي تثقل كاهله بطريقةٍ إيجابية تزامنًا مع الاستخدام الذكي لفلسفة الرمزيات تجعله ضمن قائمة الأفضل هذا العام.
تدور أحداث الفيلم في تسعينيات القرن التاسع عشر علي متن جزيرة منعزلة قبالة ساحل “نيو إنجلاند” حول حارس منارة مسن يدعي “توماس وايك”، ورجلٍ شاب يدعي “إبراهام وينسلو” تم تعينه لمساعدة “وايك” لأربع أسابيع قادمة، على الرغم من الاختلافات التي اجتاحت علاقتهما إلا أنهما تمكنا مؤخرًا من التوافق مع بعضهما البعض في الوقت المخصص لهما معًا.
لكن ومع قرب موعد رحيل “وينسلو” عقب إنتهاء فترة عمله بالجزيرة، تحاصرهما عاصفةٍ بحرية بالغة العنف تُجبر “وينسلو” على الانتظار برفقة “وايك” ريثما تهدئ الأوضاع وتنفرج أسارير السماء عن غضبها.
في مواجهة العزلة وحصص الطعام المتضائلة، يكافح الرجال لإحكام قبضتهم على نفوسهم الهائلة بفيضانٍ من الغضب والوحدة في الوقت الذي ينمو فيه الخط الفاصل بين الواقع والهلوسة وتنقلب الأمور برمتها رأسًا على عقب نحو شيء جنوني يلمع تحت ظلالٍ رمادية، خيط ضوئها الشاحب رفيعُ للغاية.
يتمتع الفيلم هو الآخر بحس فلكلوري خالص على شاكلة “The Witch”، والذي تم تصنيفه علي أنه حكاية شعبية من وحي الفلكلور الأمريكي: New England” Folktale”، فكان بإمكان “روبرت” إضافة سطر مشابه لعنوان “The Lighthouse”، حيث أن نقطة البداية كانت من أبسط ما يكون: رجلان وحدهما على جزيرة يعملان بالقرب من منارة عملاقة، وهذه هي الطريقة التي يمكن أن تُبدأ بها أية قصةٍ مستوحاة من الحكايات الشعبية التي كانت عبر السنين من أصغر فرضياتٍ ممكنة.
يحول بعدها “روبرت إيجرز” ذلك الفراغ الموحش الذي يحيط بهذين الرجلين إلى ساحة معركة مكثفة مليئة بلحظات من الهلوسة والعنف الغائر، مما يمنح الفيلم بعضًا من أجواء الرعب النفسي الذي لا يميل لقفزات الفزع المفاجئ أو العناصر الخارقة للعادة.
تتحدث شخصية “توماس وايك” على وجه الخصوص بلغة رجل البحر الكلاسيكي التي لا تظهر سوى في الأساطير القديمة، حيث يستحضر وحوش نبتون والبحر في الحكايات والشتائم، يدخن الأنابيب ويعامل وينسلو بلهجة متعالية، قد يبدو وجهه كما لو كان مأخوذًا من صفحات “موبي ديك” مما يجعل تكوين شخصيته مناسبًا للجو العام للفيلم ومهيمنًا بتكوينه المثير الريبة.
السيناريو اعتمد علي بداية تقليدية كحال الأسلوب الفلكلوري وإن كانت توحي بحالة من القتامة نتيجة صوت البوق الذي يعلو بتيمة ثابتة والصورة الرمادية للنطاق المكاني، مع مرور الوقت يتحول الهيكل السردي بشكل غير ملموس ليعكس حال من عدم الاستقرار المتزايد للشخصيات..
تصبح اللغة المرئية أكثر تجريدية وصادمة لفتراتٍ متعددة، يختلط فيها الواقع بالحلم -الماضي بالحاضر-الجنون والسكون في الوقت الذي تفقد فيه شخصية “وينسلو” اتصالها بالواقع كي يصير دربها يتراقص علي إيقاعات حادة لا تكف عن الولوج تباعًا.
باتباعه لنهج قصصي يتشابه نسبيًا مع “The Witch”، يروي الفيلم قصة أناسُ ينزلقون ببطء نحو الهستيريا المفجعة حتي تسيطر عليهم جنون العظمة والهزيان في النهاية.
المنظور في “The Witch” كان منصبًا عائلة كبيرة سائحًا في أحراش البرية، ولكن هنا الوضع يحمل بعضًا من الاحتواء البشري ويقع في مكان أكثر عزلة وعدائية، لكنه يتمتع بإيقاعٍ تصاعدي مثله مثل “The Witch” الذي بدأ بطيئًا ثم أخذ في رمي أوراقه بلا هوادة، وكان اكتشاف ما يحدث داخل سياقه أو مبرراته كلها يحتاج لمزيد من الصبر لتحمل صدمات الختام.
فالرجلان تطاردهما الأوهام والمشاهد المزعجة، وليس من السهل إدراك ماهية تلك الظواهر منذ أول مشاهد الفيلم، ولكن مع استمرار الذعر وحمى المكان الرمادية واستياء الرجال تجاه بعضهم البعض وغيرها من التفاصيل التي تتزايد علي نحو مندفع في البناء، ترتفع إيقاعات الفيلم وتصل لذروة الهوس والازدهار الذي يدوي صوتها بعلوٍ أقوى من الضباب الكاخل والأمواج الصاخبة التي تصطدم بالشاطئ.
قد يقفز لأذهان الكثيرين وجود تشابهٌ نسبي مع فلسفة المخرج السويدي “إنجمار بيرجمان” في سرد أفكاره ورؤياه الفنية لمختلف أعماله، ف “بيرجمان” يميل للطرح السوداوي الذي يسلط الضوء علي الحياة الواقعية بتركيزٍ علي الجوانب المظلمة والأبعاد النفسية للشخصيات، خصوصًا أن “روبرت إيجرز” ارتكز في قصته علي إحدى تيمات “بيرجمان” الرئيسية، وهي الصراع النفسي الذاتي أو مع البشر في العالم الخارجي نتيجة الوحدة القاتلة التي فرضتها الطبيعة الرمادية حول “وايك” و “وينسلو”.
ناهيك عن أسلوب التعرية الحسية الذي انتهجه “بيرجمان” في كثيرٍ من أعماله ك “Winter Light” ويتم على نحوٍ تدريجي يصل لوقت الذروة وهو كاشفٌ عن كافة ما يدور في دواخل الشخصيات من خبايا وتناقضات يكشف من خلالهم حقيقة الفرد وأولولياته الخاصة..
وقد تجلى ذلك في “The Lighthouse” وبإتقانٍ مثالي كما لو كان “بيرجمان” على قيد الحياة يعطي “روبرت إيجرز” مفتاحًا لبوابة عوالمه يجني منها ما يشاء لطرح مادته السينمائية، للمفارقة لم يأتي ذكر اسم “بيرجمان” علي لسان “إيجرز” في تصريحاته الصحفية لكن الشواهد الموضوعة نصب أعين الجميع تجعل المقارنة حتمية وقد تسعد الكثيرين من محبي السويدي الأنيق.
هناك قدر لا نهائي من الثناء الذي يجب أن يحصداه الثنائي “روبرت باتينسون” و “ويليم ديفو”، فقد كان أداءهم هائلاً للغاية -اثنان من الموهوبين اللذين تمكنوا من رفع معدل التناغم التجسيدي لأقصى درجةٍ ممكنة.
في إحدى اللقطات يصف “وينسلو” زميله “وايك” بأنه محاكاة ساخرة للكابتن “أهاب” -الشخصية الشهيرة في عالم “موبي ديك”، وهذا بالفعل ما يبدو أن دافو قد توصل إليه وبرع في تأديته علي ما يرام: نسخة مغايرة من قبطان البحر الكلاسيكي ينشد ويغني وهو في حالة سكر ويعبر عن آهاته ومشاعره بكلماتٍ فصيحة بلاغياً..
من ناحية أخرى يتمكن “باتينسون” من تقديم أداءً بدنيٍ بالغ الالتزام يتناسب مع اندفاعيات “دافو” الهوسية، بل ويهدد بتجاوزها هو الأخر مع مرور الوقت، ولهذا سيكون من المنطق الزج بهما معًا في حملةٍ ترويجية للترشح علي جوائز الأوسكار في التمثيل بدافع التكريم المستحق على ما وفروه من تجلياتٍ تجسدية بالغة التفجر.
علي شاكلة العروض المذهلة التي قدمت علي المستوى القصصي والتمثيلي، تكن رؤية “إيجرز” الإخراجية التي تحشد أجواءًا تمتص المشاهدين بفاعليه لمضمون الفيلم الازع بدايةً من اعتماد اللونين الأبيض والأسود داخل إطارٍ مربعي كلاسيكي تبلغ نسبة ارتفاعه “1:1.19″، ونبذ الموسيقى التصويرية لصالح أصواتٍ أكثر فعالية ورهبة تنبع من الطبيعة المكانية ونزوات الغضب الشيطانية عند الشخصيات.
فمنذ الافتتاحية ويدوي في الأرجاء أصواتٍ تولد من رحم هذا المكان العائم حيث الرياحٍ العاتية والقرنٍ الضبابي ذو النغمةٍ الخشنة وصراخ طيور النورس الطنانة وقشور الفحم الملقاة في النار، حتى عندما يطلق “توماس وايك” أولى كلماته..
قد يبدو في البداية وكأنها استراحة من شريط الصوت القمعي الذي يعج بأنماطٍ مختلفة تثير القلق والترقب، ولكن بمرور الوقت ينشأ نوع جديد من العنف الصوتي وهو يدلي بدلوه العنيف الذي ينصب بلا توقفٍ علي “وينسلو” ويزيد من مخاوفه.
“روبرت إيجرز” لا يتعمد إثارة حنق المشاهد بقدر ما يفتح له نافذةً ضيقة يطل من خلالها علي العالم الضيق المحيط بسياجٍ عازل يصيب من يقطن بداخله بسيلان عاطفي مرهق نتيجة تلك الظروف القاسية التي لم يكن ليحتملها إنسانٍ تعود علي الرفاهية طيلة حياته..
ويتفهم علي الجانب الآخر مبررات ذلك التوتر الحانق الذي يقبع بين “وايك” و”وينسلو” الذي يصل فيما بعد لأكثر الأبعاد ظلاميةً وصدمةً فرضتها الطبيعة برماديتها وأهوالها القاسية والتي قد تمهد لقادمٍ صعب وصراعٍ حامي من أجل النجاة وتجاوز براكين الوهم والحقيقة التي لا تكف عن الاندلاع بحرارةٍ حتي الرمق الأخير من الوقت.
فباختصار.. فيلم “The Lighthouse” سيفسح المجال لعدد كبير من محبي السينما الراقية لمتابعة كافة مشاريع “روبرت إيجرز” القادمة شريطةٍ أن لا تقل كفاءة عن ما قدمه هنا من توازنٍ كبير بين الشقين القصصي والتجسيدي وإثارة الرعب بطريقةٍ غير تقليدية يجمع بين مستوياتٍ عدة على الصعيد النفسي بين ظلال من الرمزية المجازية والحرفية التي تعطي نكهةً غير مسبوقة في وقتٍ باتت أفلام الرعب تنضج بمحتوى بارز يتعمق في النفس البشرية وما يدور في خلدها من هواجس وأحوالٍ مزاجية سيئة.