دعوة سينمائية لنبذ الكراهية.. مراجعة فيلم Jojo Rabbit
في إحدى التصريحات الصحفية أكد المخرج النيوزيلندي “تايكا وتيتي” على أنه قد جاء الوقت لتذكير الأجيال الشابة بما حدث خلال سبعون عامًا مضت، وما من طريقة لترسيخ تلك الأحداث سوى بالفكاهة التي قد تمنح فواصل من المتعة بخلفياتٍ تاريخية من وحي الواقع القديم.
ليس هذا فحسب، بل أظهر “وتيتي” رغبةٍ عارمة بسرد قصصٍ سينمائية بعيون أطفالٍ صغار في مقتبل العمر مستلهمًا أفكاره من وحي طفولته بما احتوته من مواقف عصيبة، خصوصًا أنه نصف يهودي من ناحية الأم، نصف نيوزيلندي حيث ينتمي والده لفصيلة السكان الأصليون لتلك الدولة الجزرية.
لذلك، وبالرغم من تواجد أسماء رنانة في “هوليوود” ك”سكارليت جوهانسون” و”سام روكويل”، إلا أن الفيلم يرتكز في الأساس على بطل صغير ذو ملامح بريئة يحاول الوصول لأسهل الطرق تحقيقًا للإيمان الدائم بالعقائد النازية التي تجعله فردًا خادمًا لوطنه رغم صغر عمره الفعلي.
وذلك المنظور تأكد نجاحه بالفعل حينما حصد الفيلم جائزة مهرجان “تورنتو” السينمائي بناءً على آراء الحاضرين لفعاليته، والذين أجمعوا على أحقية الفيلم لنيل ذلك التكريم بضل ذلك الفكر الناضج ل”تايكا وتيتي” الذي نبع من كون قصته تُسرد من وجهة نظر صبيانية نشأت وترعرت تحت ظلال الكراهية المتمثلة في شخوص معتنقي النازية وممارسينها..
كما أنها تبتعد عن الكليشيه التقليدي فيما يتعلق بمحتواها، وتطرح على الجانب الآخر رسالة اجتماعية هامة حول أثر الكراهية على النفس البشرية ووجوب التصدي للسلوكيات المسيئة التي قد تحدث بدافع الكراهية.
تدور الأحداث عن طفلٍ ألماني صغير يدعي “جوجو” يحاول أن يجد ضالته في هذا العالم كي يتعايش مع الآخرين بالطريقة التي تحلو له، ولكن وبالرغم من امتلاكه لصديق من نفس عمره يدعي “يوركي” وأمًا حنونة تدعي “روزي”، إلا أنه يتمتع بعلاقة من نوعٍ أخر مع صديقٍ خيالي ماهو إلا الفوهرر “أدولف هتلر”!!!!!
نعم، هو “هتلر” القائد النازي وأحد أكثر البشر قسوةً وعدوانية في التاريخ، حيث أن مركز القصة يقع في وقت الحرب العالمية الثانية، وقتها يتم تجنيد “جوجو” ضمن معسكر شباب “هتلر” والذي تعهد بذل قصارى جهده كي يكون مواطنًا وجنديًا صالحًا لخدمة ونصرة بلاده.
أثناء تواجده بالمعسكر يتعلم “جوجو” الكثير عن شرور اليهود ووجوبية القضاء عليهم بجانب عددًا مهولاً من أساليب القتال المختلفة علي يد قائد المجموعة “كلينزندورف” المصاب بإحدى عينيه والمراوغ إلي حدٍ كبير.
لم يكن”جوجو” متعطشًا للدماء كما كان يريد بصرف النظر عن مقدار الحب والولاء ل”هتلر”، ولذا كان منبوذًا من بقية زملائه في المعسكر لدرجة أنهم حاولوا تضييق الخناق عليه بفعل ما لا يطيق.
لكنه حينما يكتشف أن فتاة يهودية يتم إيوائها بإحدى جدران منزله يصبح عالقًا في حالة من الحيرة بين من يجب أن يثق به وما يفترض أن يفعله بإيواء من ضميره، ومن هذه النقطة تنطلق الأحداث في قالبٍ كوميديٍ ساخر.
قد يعرف بأنه كان هناك العديد من الأفلام التي تم إنتاجها عن الحرب العالمية الثانية بحدثها الشنيع “الهولوكوست” ونجحت في تغطية تلك الفظائع من زوايا متعددة علي مر عقودٍ عديدة في صناعة السينما.
فقد كان حدثًا كبيرًا يندي له الجبين بما أسفر عنه من مقتل أكثر من ستة ملايين من البشر على أيدي النازيين بلا رحمةٍ أو هوادة، ومع ذلك الكم الهائل من الأشخاص الذين جعلتهم الظروف يعايشون تلك الفترة العصيبة، كان هناك دائمًا الكثير والكثير من القصص والحكايات التي لا تقتصر فقط على تكريم ضحايا تلك المأساة ولكنها تدعم غاية وحيدة هدفها عدم السماح بنسيان التاريخ وإخفاء معالمه.
يذكر أن الفيلم ليس أول من يسرد حكايته من واقع الحرب العالمية الثانية عن طريق مزاوجة الكوميديا بشيء من الميلودراما، فهناك رائعة الإيطالي البشوش “روبرتو بينيني” المعروفة باسم “Life is Beautiful”، التي تمكنت هي الأخرى من إضفاء روح الدعابة على غالبية المواقف التي تتعرض لها الشخصيات المصممة كي تكون إنعكاسات حقيقية لأناس اضطروا للتعامل مع مواقف مروعة كادت تسلبهم أدميتهم بممارسات عنفوانية.
إن نسخة “وتيتي” مبهجة وطفولية إلى حد كبير، وذلك دليل فعلي يعزز فكرة اجتماعية هامة توحي بأن الأطفال الذين يقضون فتراتٍ من حيواتهم في ظل هذه الأوضاع الرهيبة لا يزالون صغارًا على ذلك، فهم يمتلكون عقولاً ليست ناضجةً بالمرة، لديها وعي غير مكتمل بالعالم من حولهم مع وفرة زائدة في الخيال وصعوبة في استيعاب اللامنطقية الرجعية التي تؤدي إلى الحرب والإبادة الجماعية.
قد يبدو من الغريب تعالي الضحكات على عديد النكات في وجود شخصية مثل “أدولف هتلر” وحملات التضليل التي تعادي السامية حتى ولو كانت ضد فصيلة بشرية لها في العالم الواقعي صولاتٍ وجولاتٍ تحت لواء الجريمة والاحتلال..
ولكن في “Jojo Rabbit” القضية لها أبعاد أخرى تتشابه نسبيًا مع الأسلوب التي بني عليها “روبرتو بنيني” قصته في “Life is Beautiful” ولكنها تختلف في المضمون والذي ينص على وجوب نبذ الكراهية والبحث عن السلام النفسي دون تقارب مع أية شعور سلبي.
وقد تمكن “وتيتي” من فرض ذلك النهج الكوميدي بنجاح كي يعزز مضمون رسالته وتترك بدورها إنطباعًا إيجابيًا على محيا المشاهد من خلال لقطاتٍ حوارية مثالية تحمل بين دفتيها مهمة انتزاع الضحكات من جانب وتعزيز فكرة العمل الأساسية بأن الحب لا يندلع فقط من فرط الرومانسية العارمة، بل يمكنه أن ينبع من الود والاحترام للغير مهما كان إنتمائه أو عقيدته دون غضاضةً أو معاداة من أية نوع.
ذلك النهج ليس بالغريب على “وتيتي” والذي يكن بمقدوره جعل شخصياته على قدر كبير من الإنسانية في الوقت الذي تنساب الطرافة بصورها المتعددة في السياق القصصي، كما فعل مسبقًا في “Thor-Ragnorok” وتمكن من إعلاء قابلية الجمهور لشخصية عالم “مارفل” الشهيرة.
وفي “Jojo Rabbit” يواصل “وتيني” على هذه الرؤية على عكس ما قد يتوقعه أحد في فيلم مستوحى من حدثٍ تاريخي مروع، فعند معرفة الحبكة وما يدور في فحواها قد يتوقع المرء أنه سوف يتم تسليط الضوء على النزعات العاطفية التي قد تلوح في الظهور بين أهوال الحرب.
لكن “وتيتي” يستخدم بذكاء جانب الفكاهة لتوسيع ذلك الارتباط العاطفي، فرؤية “جوجو” و”روزي” و “يورك” وغيرهم يطلقون ذلك الكم الهائل من النكات بينما عالمهم يقترب رويدًا رويدًا من نهايته الكارثية يجعلهم يبدون كأنهم شخصيات معقدة تضيف أبعاد طريفة لسلوكياتهم.. تعزز بطريقة مختلفة مخاوفهم ونظراتهم للحياة من حولهم والتي ستتغير مع مرور الوقت ومعرفة الصالح والحقيقي من هذه الأمور برمتها.
كل عضو في فريق التمثيل قدم مساهمةٍ بارزة على المستوى التجسيدي، فقد لمع “رومان جريفن دايفس” بكونه عين المشاهد للأحداث ونظرة الفيلم المباشرة لهذا العالم في الوقت الذي يكافح فيه في معرفة من بإمكانه الوثوق به من عدمه..
كما أنه نجح في عكس صفات جوجو الأساسية وتحولات شخصيته ببراعة من براءةٍ وتصلب في الرأي وبهجة ورهافة الحس وغضب وانكسار، وكل ذلك نابع من كون ظروفه في حالة تغير مستمر نظرًا لتعمد السيناريو تقديم بناء تدريجي لحالة الوعي الذاتي التي طرأت عند “جوجو” الذي وصل في النهاية لنقطة فاصلة ستساهم في تغيير حياته وإدراكه للأمور.
“توماسين ماكنزي” برزت هي الأخرى في دور الطفلة الصغيرة المضطهدة -كونها يهودية الأصل- والتي اضطرت للتخلي عن الكثير من طفولتها في سبيل البقاء على قيد الحياة تزامنًا مع الرغبة بالحفاظ على بصيصٍ من المشاعر بداخلها ينبض ولو بالقليل بالحياة كسائر البشر..
في جميع الأحوال، جميع الشخصيات -بما فيهم “هتلر” شخصيًا الذي جسده “تايكا وتيتي” بطريقةٍ كوميدية فائقة الروعة- تم تطويرها علي نحوٍ مثالي يضمن الإشادة بهم لفترة من الزمن في ظل أدائاتٍ تمثيلية تصل لدرجة من الكمال الواضح وبقوة للعيان.
لقد بات من السهل على كثير من صناع السينما رسم حياة الأشخاص في عوالم متردية مزقتها الحرب، حيث بات البقاء على قيد الحياة هو الأولوية الأولى وسط فيضانٍ حسي من الحزن واليأس، هذه الجوانب موجودة في “Jojo Rabbit” أيضًا، لكنها ليست تجارب تركن للميلودراما وتصير أحادية الأسلوب الطرحى للقصة.
فالفكاهة والاكتئاب والغضب والحب والارتباك والبر وغيرهم من السلوكيات يتشابكون لخلق قصةٍ أكثر واقعية مليئة بعددٍ من الشخصيات ذات عمقٍ مناسب يتردد صداه عند المتلقين ويصدر على أثره نوعًا من الاهتمام الجماهيري أو التعاطف مع أبطال القصة وأحوالهم.
لذلك تنص رسالة “وتيتي” من خلال الفيلم على أنه لكي يحيا التاريخ، فإنه يتطلب اهتمامًا زائدًا بالحالة الإنسانية، ليس مجرد سرد المادة الأصلية بسلبياتها وإيجابيتها فحسب، فكان “Jojo Rabbit” يمرق على أهوال الماضي عن طريق غرس الكثير من العبثية في غالبية مواقفه، وتلك طريقةٍ مثالية ستدفع الجماهير حتمًا لرؤية تأملاتهم الخاصة والتفكير في الموروثات التاريخية بطريقة أخرى.