رنا مسعد تكتب: مدينة منف وخلق الكون
سكون وعدم، العالم لم يتشكل بعد، لا وجود للوجود ولا لصوت أو لهواء أو لبشر، فقط الماء الأزلي (نون) هو الكائن، الزمن لم يُخلَق بعد، السماء لم تُرفع والأرض لم تُوضع!
ثم يظهر من وسط الماء تل اسمه (بنبن) وعليه تتجمع قوة خفية تأخذ شكل ووجود، ويظهر الإله (بتاح) خالق نفسه بنفسهِ، فيوجد الزمن والبداية، فيفكر في الشيء وينطق باسمه فيُخلَق الشيء، يقول ناطقًا كلمة (هواء) فيكون الهواء، ويقول (بشر) فيخلقوا وهكذا يُخلق العالم، فالماء الأزلي هو الفيضان الذي حاصر مدينتنا (منف) أما التل (بنبن) فهو مدينتنا الحبيبة (منف) التي على أرضها تم الخلق..
تلك هي القصة التي قالها فلاسفة وكهنة مدينة منف لسكانها عن حقيقة خلق الكون، ولكن ما هي منف؟ أين مكانها؟ ما أهميتها؟ ومن هو ذلك الإله بتاح؟ ما قيمة هذا الفِكر؟ هو ما سنعرفه في مقال اليوم.
ولكن عليّ أن أُذكركم مهما وجدتم من تشابه بين ما تقرأون اليوم وما تعتقدون من معارف دينية حالية، فهو من قبيل الصدفة لا أكثر ولعلها جاءت لتستفز عقولنا البشرية!
فمنف هي مدينة مصرية قديمة، كان اسمها عند نشأتها (الجدار الأبيض) ثم تحوّلت إلى (من نفر)، وفي العصور الإغريقية سُميَت (ممفيس) وعند دخول العرب إلى مصر تغيَّر اسمها إلى (منف) ونجد أطلالها اليوم في قرية ميت رهينة بمركز البدرشين على بعد ٢٥ كم تقريبًا من الجيزة.
كان الغرض من بناء (منف) قديمًا هو أن تكون بمثابة قلعة لمراقبة أهل الدلتا بعد أن أخضعهم ملك الصعيد، كما استخدمت للإشراف على الوجهين البحري والقبلي في مصر.
وظلت منف عاصمة مصر حتى الأسرة ١٨ نظرًا لأهميتها السياسية والإدارية والحربية والدينية.
فسكان مدينة منف عبدوا إله يدعى (بتاح) ومعنى اسمه (الفاتح- الفتاح- الخالق) وهو رب للفنانين والحرفيين، وكان لمنف مذهب خاص بقصة خلق الكون وهو يُعد من أرقى فلسفات الفكر الديني القديم.
وقد سُجل المذهب على لوحة من الجرانيت الأسود تنتمي لعصر الملك (شباكا) من الأسرة ٢٥ وللأسف فُقِد منها جزء كبير ولكنها محفوظة حاليًا في المتحف البريطاني.
ولأن أهل منف كانوا على دراية بأهمية وعبق تاريخ بلدهم فنظروا لها على كونها بداية العمران والتحضر، وسَعُوا إلى رفع شأن أقدم أربابها (بتاح) بل وصوروه في فلسفتهم كإله خالق للكون ظهر من العدم وخلق نفسه بنفسه كما ذكرت سابقًا.
وشهرة ومكانة البلدة ساعدت في انتشار عبادة بتاح واعتباره إله لكل الأرض وسيد للفنون، فمن ألقابه: سيد العدالة وملك الأرضين وصاحب البداية الأولى.
وبتاح صوِّر بشكل ثابت عبر مختلف العصور القديمة بهيئة رجل يرتدي لفائف مومياء لا تُظهر إلا يديه وهما ممسكان برمز ديني يسمى (صولجان الواس)، وتزين رقبته قلادة عريضة تغطي كتفه وجزء من صدرهِ.
صورة توضح نقش للإله بتاح من مقبرة بوادي الملوك:
صورة لتمثال برونزي للإله بتاح:
يقوم المذهب على أن بتاح خلق الكون عن طريق الفكر والنطق، أيّ أن خلق الكون كان من خلال الكلمة المقدسة، وهو يدل على الرقي العقلي والروحاني، رأى أصحاب ذلك المذهب أن كل الآلهة التي عرفها المصريين ما هي إلا صور من بتاح الخالق نفسه! فهو بالنسبة لهم الجوهر.
وتؤكد نصوص المذهب على كيفية سيطرة القلب واللسان على جميع أعضاء الجسد للبشر والمخلوقات وللآلهة، فالفكرة تنشأ من القلب (الإدراك والوعي) ثم تُقال عبر اللسان والنطق.
فمذهب منف من أعمق مذاهب الخلق البعيدة كل البعد عن المادية ويُعَد من أعظم إنجازات الفِكر الإنساني قديمًا.