حكايات

سرقات صديقة

سرقات صديقة

سرقات صديقة .. الحلقة الرابعة

أخذ الهواء المنعش البارد يتجول بحرية في المكان محركًا معه ما شاء مما جرؤ على اعتراض طريقه, صاحبه ارتفاع أصوات أمواج البحر الغاضبة المصطدمة بحواجز الأمواج التي تعوقها عن أداء مهمة تصر على تنفيذها منذ مئات السنين.

على الجانب الآخر من الطريق كان المقهى القديم المميز بأبوابه الخضراء العالية واللافتة التي لا تنتمي لتلك الأيام، خطها القديم وآثار الزمن عليها في اختفاء بعض حروفها ولكن ببعض التدقيق ستتمكن من قراءة “قهوة البورصة التجارية الكبرى”.

لم تطرأ تغييرات كبيرة بالمقهى منذ إنشائه سوى أوجه بعض العاملين والعصائر المستحدثة مؤخرًا مثل ذلك المزيج الغريب الذي ينشأ بعد إجبار نوع معين من البسكويت على التحول لسائل يمكن شربه.. وبخلاف هذا فيمكن اعتبارها أحد تلك الأماكن التي غفلت عنها تشوهات الزمان أو لعلها خجلت من أن تضع عليها علامتها.

داخل المقهى في ركن متطرف وبالتحديد على أحد المناضد الرخامية القديمة، كان يجلس شاب ظهرت عليه علامات الارتباك والتوتر بشكل ملحوظ، يتحسس ذقنه بحركة شبه متكررة وكأنه لم يعتد إحساسها حليقة وبحركة أخرى يتأكد أن ملابسه منسقة وتمنحه المظهر الجيد الذي يأمله؛ لقد اختار هذا المكان ليقابل الفتاة التي يتحدث معها منذ فترة وهو لم يفعل ذلك من قبل، في الحقيقة إنها المرة الأولى التي يقابل فيها فتاة بغرض التعرف والتقرب!

جاء اختيار هذا المكان لسببين أولهما أنه لا يستطيع دفع الكثير من المال في إحدى تلك الكافيهات المطلة مباشرة على  البحر، فهو يعرف أن مثل تلك اللقاءات على البحر تعطي انطباعًا جيدًا يحتاجه في تلك المرحلة، أما السبب الثاني فهو لا يعرف كيفية التعامل في الأماكن الراقية وما يمكن طلبه وكيف يطلبه.

فهو مازال يتذكر محاولته الأولى والأخيرة لطلب آيس كريم من إحدى السلاسل المشهورة وكيف انهالت عليه البائعة بأسماء عجيبة لإضافات لم يستطع استنتاج أي مكون منها، ولو كان المكان مختلفًا لظنه سبابًا من جارة يونانية عجوز!

وانتهت تلك التجربة المريعة بحصوله على آيس كريم على سطحه طبقات من عدة ألوان وعلى سطحه الأخير كانت حبيبات صغيرة غريبة تسبح بشكل مريب! أما هذا المكان ففي نهاية الأمر مجرد مقهى يمكنه طلب نسكافيه كما يحبه أو قهوة سادة إذا أراد إضافة أبعاد جديدة لشخصيته الرائعة والتي قام بزرعها داخل “سلمى” منذ بداية حديثهما. 

أدرك فجأة أنها قد تأخرت فهو ينتظر منذ مدة ولم تظهر أو هاتفته كما اتفقا في حالة عدم استطاعتها الوصول للمكان بسهولة، وللأسف لا يستطيع الاتصال لأنها لا تعرف أنه حصل على رقم هاتفها ضمن معلوماتها من البرنامج؛  فهي لا تعلم حتى اللحظة كيف عرفها وكيف وصل إليها من الأساس! تلفت حوله لعله يجد من يرتسم على وجهه ملامح الحيرة أو قلق الانتظار؛ فلعلها تكون قد جاءت قبله وكل منهما يجلس بمفرده لإكمال المشهد العبثي الذي يشعر أنه يعيشه الآن.

كانت خطواتها مترددة وهي متجهة لمكان اللقاء وكأنها لم تحسم أمرها بعد! هل فعلًا تريد لقاءه والتعرف عليه أم كان هذا قرارًا أحمقًا وعليها العودة إلى بيتها في الحال! طمئنتها فكرة أنها قد اتخذت كل الاحتياطات اللازمة فهو لا يعلم رقم هاتفها أو أي معلومات تدل عليها ويمكنها الاختفاء بكل سهولة من حياته وبالتالي إقصاءه من حياتها.

أما مكان اللقاء فقد جلست به عدت مرات من قبل وتعرف أنه مكان آمن ويمكنها الاطمئنان لجلوسها فيه، لمحت صورتها المنعكسة على مرآة جانبية لسيارة متوقفة وتأكدت من أن آثار بكائها لا تظهر عليها! لم تعرف لماذا بالتحديد ولكن بعد أن ارتدت ثيابها ووضعت القليل من مستحضرات التجميل على وجهها وبدون أي سابق إنذار انهمرت دموعها…

دموع تلونت باللون الأسود منحه لها الكحل الذي كان يزين عينها منذ لحظات وأصبح الآن يزين القطرات الصغيرة المتتالية المتسارعة، ولكن الغريب أن تلك الدموع ظهر لها تأثير لم تتوقعه عليها؛ فعندما مسحتها بحرص من على وجهها بأصابعها الرقيقة, شعرت وكأنها قد أزالت أيضًا بعضًا من شكها وارتباكها فقررت الاستمرار للنهاية.

لم تعيد وضع ما تمت إزالته ولكنها حرصت على التأكد على أن كل شيء في حالة جيدة قدر الإمكان، مشطت شعرها وأجبرته على التحرك للوراء وهو مستمرًا في التدلل يمينًا ويسارًا قبل أن تتناول “توكتها” المحببة وقيدت طرفه بمهارة وابتسمت مشجعة لنفسها.

وها هي الآن أمام المقهى، ترى من الخارج ذلك الشاب  الذي لم يكف عن النظر في كل الاتجاهات ولكن فاته أن ينظر خلفه حيث تقف.. كيف عرفت أنه هو؟ لم تعرف ولكنها شعرت أنه هو.

كان يحمل كثيرًا من توقعاتها لشكله؛ فعلى الرغم من هندامه والاهتمام الواضح بمظهره ولكن لسبب ما كانت تعلم أنها ليست طبيعته وذلك سبب ما ظهر على ملامحه من عدم الارتياح أو الاعتياد لحاله الآن! لم تشعر أنه قد يكون مصدرًا للخطر فقررت أن تكمل ما بدأته..

أغمضت عينيها وحاولت التنفس بهدوء وهي تخرج هاتف صغير كانت قد اشترته مؤخرًا لوضع الخط الجديد الذي لم يكن له فائدة سوى تلك المكالمة التي ستجريها الآن، ابتسمت لنفسها في ثقة عندما رفع الشاب الهاتف المرتجف بأصابع مرتعشة، حاول أن يستقبل المكالمة ولكنها لم تمهله وأنهتها قبل أن تتحرك نحوه وعلى وجهها ملامح تقطيب، لم تدرك لماذا ارتسمت على وجهها في تلك اللحظة!

– يعني برضه مش عاوز تقول اللي سرقته وديته فين؟ 

صاح الضابط في وجه “النوبي”  الذي كان يرتعد مفكرًا بما سيحدث له إذا لم يقم بإخباره بما يعرف، وأيضًا بما سيحدث له إذا أخبره ما يعرف! أحداث كثيرة جرت في الساعات القليلة الماضية التي أمضاها في قسم الشرطة: شجاره مع “كمال” وتهديده بأن لا يذكر أي شيء عن شقيقته وإلا سيلقى جزاءً سعيرًا، والاستقبال الحار الذي تلقاه من المخبرين بمجرد وصوله قبل دخول الحجز! وكل ما يشعر به الآن أنه لم يعد قادرًا على احتمال المزيد!  كل ما فعله أنه حاول الانتقام من “كمال” بخلق الأزمات له  مع شقيقته ولم يتخيل بأي شكل من الأشكال أن تقوم بالإبلاغ عن أخيها وتكون المحطة الأخيرة لهم هي قسم الشرطة! قرر الاعتراف بكل شيء واسم التاجر الذي اشترى منه المسروقات لعله يحصل على هدنة يلتقط فيها أنفاسه.

لا يعلم لماذا شعر بتلك الرغبة الملحة في أن ينظر خلفه، ولم يكد يلتفت حتى أخذ جسده في إفراز هرمونات التوتر بسخاء بمجرد أن تغلغل العطر الأنثوي لداخل رئتيه ثم إلى قلبه مباشرة! كانت قريبة للغاية بل كانت بالتحديد وراءه تمامًا حين التفت مما أفزعه! والذي بدوره سبب في ظهور بعض علامات الارتباك على ملامحها قبل أن تتداركها بسرعة تحسد عليها قائلة بصوت زاد من توتره حتى أنه قد بدأ في الارتجاف:

– “خالد” صح؟

هب من مكانه واقفًا وهو يحاول اتخاذ قرارًا في المصافحة، هل يمكنه مد يده أم أنه لا يليق؟ وصوته  يجاهد في محاولات الخروج وهو يجيب:

– اااا ااااه، أنا “خالد” وأنتي “سلمى” صح؟ 

نظرت له في شفقة حاولت أن تخفيها وثقتها أخذت في التزايد وكأنها تقوم بالتغذي على تخبطه، فاتخذت مكانها أمامه قبل أن تمد يديها في جراءة أدهشتها هي نفسها قائلة بلهجة باردة بعض الشيء:

-اه، أنا .. إزيك وإيه أخبارك؟

لم يجب ولعله لم يسمعها من الأساس؛ انشغل عقله بما يصل إليه من جميع الحواس.. كانت جميلة بحق، بسيطة ولكن لن تستطيع أن تحرك وجهك عنها طويلًا، لأنك ستكون مجبرًا على العودة وتكرر النظر إليها مرة أخرى وكلك يقين أنها لن تكون الأخيرة!

ملامحها لم تكن تعبر عن البراءة التي طالما تمنى أن يراها في فتاة أحلامه ولكنها كانت مميزة للغاية؛ ظلل عيناها حاجبان سميكان قالا الكثير عن طباع حادة، عيون واسعة بهما قدر كبير من التحفز.. وعلى الرغم من هذا شعر نحوهما بالانجذاب لا بالخوف من أي رد فعل قد يؤلمه.. زين خدها الأيمن علامة صغيرة باهتة اللون، ولدت لديه انطباع عن رقتها أو لعلها فقط فكرة حمقاء أخرى من ذهنه الخاوي من أي تجارب حقيقية يستقي منها الخبرات..

فجأة أدرك أنها تنظر إليه منتظرة رد ما .. فليقل أي شيء .. فليجعلها تتحدث ليكمل تأملها وإنهاء نقش تفاصيلها  في ثناياه حتى لا تفارقه أبدًا.

– أنا الحمد لله كويس، مبسوط جدًا إننا اتقابلنا بصراحة! الكلام هنا أكيد هيسهل إننا نعرف بعض أكتر.

– فعلًا، أنا كمان شايفة كده.

تمتمت بها وهي تبحث في حقيبتها عن شيء ما باهتمام، كان مبهورًا في الواقع بكل تفصيلة تلتقطها عيناه، خطفت الخواتم العديدة التي ترتديها في معظم أصابع يديها جل انتباهه، قبل أن يلتفت لوشم تم رسمه على رسغها .. لم يتبين ما هو بالتحديد ولكنه شبيه جدًا للفصلة المنقوطة (;), قرر أن يسألها عن معناه بعد قليل ولكنه رغمًا عنه ظهر التعجب على ملامحه بشدة عندما وجدت رفيقته أخيرًا ما كانت تبحث عنه، نظر إليها في استغراب وهي تشعل سيجارتها الرفيعة في سرعة المعتاد وهي تخفي نفسًا عميقًا بداخلها قبل أن تخرجه على دفعات بيضاء  لتنتشر بعدها رائحة النعناع حولهما.

– بتدخن؟ 

قالتها وكأنها لم تلحظ ملامح الاستنكار والتعجب التي ارتسمت على وجهه، مادة يديها نحوه بالعلبة الصغيرة المزينة برسم لصرصور صغير، يبدو أن التدخين لم يكن من هوايته المفيدة، بدت عليها الشفقة عندما التقطها منها بأصابع مرتجفة وارتباك واضح وكأنه لا يعرف كيف يخرج السيجارة، قبل أن يضع طرفها في فمه لتبدأ محاولات إشعالها بقداحتها الملونة حتى نجح أخيرًا بكثير من الجهد وبعض النجاحات الغير مكتملة في نشر اللهب على طرف السيجارة الرفيعة.

– اه..اه طبعًا، من زمان أصلًا بس بحاول أقلل من مدة، بس السيجارة دي شكلها غريب رفيعة أوي كده ليه وطعمها نعناع شوية.

– هي سيجارة خفيفة بيسموها “Slim” وفيه منها نكهات كتير مش بس نعناع فيه شيكولاته وكريز و..

لم تكمل جملتها، فقد قاطعها صوت سعاله المرتفع ووجهه الذي أخذ في الإحمرار؛ مدت له كوب الماء وتراجعت في قلق ليرتشف منه القليل قبل أن يعيده وهو يقول بإحراج من وسط صوت تنفسه المتتابع:

– شكلي شرقت، أو حد بيجيب في سيرتي!

قالها في محاولة لإضحاكها وهو ينظر حوله في خجل للوجوه التي كانت مسلطة عليه لعلها تظفر بلحظات مثيرة أثناء سعاله.

كانت تنظر له في قلق واضح محاولة الاستفهام منه عن ماذا حل به، وعندما قال دعابته ابتسمت لا لشيء إلا أنها شعرت أنه أخيرًا أصبح بخير، فقالت له بلهجة خرجت  حانية رغمًا عنها:

– شكل السيجارة تقيلة عليك أو مش من النوع المتعود عليه فمتشربهاش أحسن تتعبك.. احكيلي بقى أنت وصلتلي إزاي وتعرف عني إيه بالظبط؟ 

– أنا هقولك على كل حاجة ياباشا، كل الحاجات اللي سلكتها من عيادة الضاكتور أخدها مني “سيد سمكة”  واداني تلت تلاف جنيه قسمناها أنا و “كمال”.

– وإيه دور “سحر” أخته معاكم؟ هي اللي ادتكم معلومات عن العيادة ومواعيدها صح؟

نظر “النوبي” للمحقق وفي سرعة حرك عينيه بعيدًا عن نظراته التي تخترقه، وقال في لهجة خاضعة:

– الأمانة لله أنا لا سمعت منها حاجة ولا شوفتها من الأساس، “كمال” هو اللي كان قراني العيادة بتقفل امتى وإيه اليوم اللي حيكون فيه كشوفات كتير عشان نلاقي فلوس، غير كده معرفش يا باشا.

رمقه المحقق بنظرة متشككة قبل أن يشير لأحد الواقفين والذي على إثرها خرج لحظات ثم عاد دافعًا أمامه “كمال” الذي كان مكبل اليدين وتظهر على وجهه علامات الإرهاق والاستسلام وكأنه مر بمثل ما مر به “النوبي” من قبل.

بصرامة وعدم اكتراث قال له وهو يشير “للنوبي”:

– الواد ده بيقول إنك أنت وأختك اللي خططوا للسرقة ودخلتوه معاكم عشان الدكتور ميعرفش شكله، إيه رأيك في الكلام ده؟ 

 

جحظت عينا “النوبي” وهم بقول شيء لولا نظرة المحقق المرعبة، وبالقرب منه كان “كمال” ينتفض في غضب بشكل يدل أنه لولا قيده والمخبر بجواره كان سيهاجم  “النوبي” بكل تأكيد وهو يقول بانفعال:

– والله يابيه أختي ماتعرف حاجة ولا ليها في الموضوع والا مكنتش بلغت عني، أنا اللي كنت بسرسبها في الكلام أكني بطمن عليها وهتتأخر امتى وكده، فقدرت أعرف اللي قولته “للنوبي”، بس والمصحف الشريف متعرفش أي حاجة خالص يا باشا.. أبوس إيدك متتبهدلش بسببي لأنها ملهاش ذنب! 

وبالفعل حاول التقدم ليقبل يد المحقق لولا جذبة خلفية من أحد الواقفين أجبرته على الثبات. 

راقب المحقق “كمال” بوجه خال من التعبيرات لا ينبئ بما بداخله، ثم بلهجة روتينية قال:

-رجعوهم الحجز وجيبولنا “سمكة” ده علشان نشوف هبب إيه في المسروقات ونخلص. 

نهاية الجزء الرابع. 

شاهد ايضا “سرقات صديقة الحلقة الأولى”

زر الذهاب إلى الأعلى