طه حسين.. المعلم الأكبر
طه حسين.. المعلم الأكبر.. في الرابع عشر من نوفمبر عام 1889 ولد عميد الأدب العربي طه حسين في عزبة الكيلو- مركز مغاغة- محافظة المنيا.. وبعد عدة سنوات فقد بصره، ولكن اليأس لم يتمكن منه ولا من والده الشيخ حسين سلامه، الرجل الذي كان بقيمة طه وذكاء عقله وحدة بصيرته، فقام بإلحاق طه بكُتاب القرية ليحفظ القرآن، ثم يتعلم التجويد.
وفي سن الثالثة عشر التحق طه بالأزهر الشريف الذي ظل به من عام 1902 إلى عام 1908، ثم التحق كطالب منتسب بالجامعة الأهلية ليدرس الكثير من العلوم المدنية كالجغرافيا والتاريخ والأدب.. الخ ثم يتخرج منها مثل بقية الطلاب، ولكن طموحه لم يتوقف عند هذا الحد، إذ يقوم بإعداد رسالة دكتوراة عن الشاعر أبي العلاء المعري، ويحصل عليها في عام 1914 ليصبح أول طالب مصري يحصل على درجة الدكتوراة من الجامعة الأهلية.
مسيرة طه حسين العلمية
بيد أن طموح طه حسين لم يتوقف أيضا عند هذا الأمر، فقد طمح في أن يستكمل مسيرته العلمية ومشواره التعليمي في فرنسا من خلال بعثة علمية على نفقة الجامعة، وسافر إلى البعثة في جامعة السوربون واستطاع الحصول على الدكتوراة– الثانية له– في فلسفة ابن خلدون الاجتماعية في العام 1918، ثم دبلوم في القانون الروماني في العام التالي مباشرة 1919.. وهو نفس العام الذي اندلعت فيه ثورة 1919 الكبرى تلك الثورة التي تعتبر واحدة من أهم الثورات المصرية، مع ثورة يناير 2011، ففي هاتين الثورتين انكشف بشكل جلي وواضح قيمة ومعدن الشخصية المصرية الأصيلة، وعمقها الحضاري.
وعاد الدكتور طه حسين إلى مصر بعد البعثة، وقلبه ممتليء بكل الخير لأمته المصرية التي أراد أن يساعد في نهضتها، وأن يُقدم كل معارفه وخبراته من أجل أن يسير شباب مصر وأطفالها في نفس المسار الذي قطعه طه حسين في التعلم والتعليم، فطالب بأن يكون التعليم حقا للمصريين كالماء والهواء، لأنه هو طريق التقدم وسر التفوق، بل لا يمكن قيام ديمقراطية حقيقية ولا مجتمع حقيقي تحت سماء الجهل والمرض والاحتلال.
نهضة علمية وثقافية
من هنا ربط طه حسين بين الاستقلال الحقيقي والتعليم، وبين الاستقلال الحقيقي والإنتاج، بالاستقلال ليس فقط خروج المحتل الغاصب، بل لا بد أن يلحق ذلك الخروج نهضة علمية وثقافية وتربوية واجتماعية تجعل المصريين قادرين علي ممارسة الحرية بكل ما تحمل من معاني المسؤولية الاجتماعية.
لم يكن طه حسين مجرد أستاذ جامعي، أو ناقد أدبي، أو روائي فقط، بل كان معلما للأجيال، ورمزا من رموز الفكر والثقافة في مصر. وقد لخصت سيرته الذاتية معني الإرادة والتحدي والقدرة على فهم المتغيرات، وكذلك معنى أن يكون المثقف في خدمة وطنه وشعبه، وأن يعمل دائما من أجله.. وهذا كل ما حدث مع طه حسين، فالرجل تعلم في كُتاب القرية ثم الأزهر ثم في الجامعة ثم في أهم جامعات أوروبا.
ولما عاد إلى مصر أراد أن يحظى كل طفل مصري بمثل ما حظي هو به من فرص كاملة للتعليم، فطالب بمجانية التعليم، وطالب بأن يتضمن التعليم المصري مناهج المحدثين، وطالب بأن نأخذ عن أوروبا العلم، ونأخذ عن العرب الشعر وفنونه واللغة وآدابها، وأن نأخذ عن المصريين القدماء حكمتهم وفلسفتهم وإرادتهم وتقدمهم، وأن نأخذ عن دول حوض البحر المتوسط طبيعتها الثقافية وروحها المبدعة كما تتجلي في الثقافة اليونانية والرومانية.
مستقبل الثقافة في مصر
ثم وضع بناء على هذا كله، كتابه الأهم “مستقبل الثقافة في مصر” عام 1938 برنامج التعليم المصري، وكأنه كان على موعد مع القدر، فقد جاء الكتاب عقب معاهدة 1936 التي حققت فيها مصر استقلالا نسبيا، استشعر طه حسين معه أن هذا الاستقلال إنما يتطلب مشروعا للتعليم لكي لا يعود المصريون للجهل مرة أخري، ذلك الجهل الذي أراده الاحتلال البريطاني لمصر حتي لا يفهم شبابها قضيتهم الوطنية.
والمتأمل في مضمون وموضوعات كتاب مستقبل الثقافة في مصر يجد أن كل ما جاء فيه قد تحقق بالكامل، دون زيادة أو نقصان، فكل ما طالب به عميد الأدب العربي طه حسين، قد حققته الحكومات المصرية على التوالي بداية من حكومة مصطفى النحاس وحتي حكومات ثورة 1952.
وبذلك نستطيع القول بأن طه حسين هو أهم علامة وأعظم رمز ثقافي مصري، لأن سيرته الفكرية والثقافية تحققت فيها كافة عوامل التحدي والقدرة والوعي والفهم لواقع المجتمع المصري واحتياجاته.. وقد تولى من المناصب وتحمل من المسؤوليات ما يسمح له بأن يحقق ما يريد وينفذ ما يؤمن به من أجل أن يسود نور العلم كافة أرجاء الوطن، في الريف والحضر.
مناصب تولاها طه حسين
فكان عميدا لكلية الآداب بالجامعة المصرية- جامعة القاهرة الآن– وكان مديرا أو رئيسا لجامعة الإسكندرية، ثم ناظرا للمعارف، أي وزيرا للتعليم، وعضوا مهما في منظمة اليونيسكو، ورئيسا لمجمع اللغة العربية، وعضوا في الكثير من المنظمات الثقافية في العالم، ورمزا من رموز الثقافة العالمية يعرفه تقريبا جميع مثقفي ومفكري العالم. وترجمت أعماله الروائية إلى عدة لغات، وكان له دور ونفوذ كبير بين مثقفي العالم حتى أنه استطاع أن يجعل اللغة العربية من بين لغات منظمة اليونيسكو.
وكتب طه حسين في تخصصات علمية كثيرة جدا، في السياسة والأدب والتاريخ والفلسفة واللغة، وكان في كل ذلك رائدا ومُعلما للأجيال العربية والمصرية اللاحقة.
وفي 28 أكتوبر من عام 1973 رحل طه حسين عن عالمنا، وخرجت جنازته من قلب جامعة القاهرة وسط 50 ألف مشيع، وهي جنازة لم تحدث لمثقف مصري مثلها ولا بعدها، فقد أدرك المصريون أن هذا الرجل إنما ساعد في نهضتها وأخلص في الولاء لها بصورة غير مسبوقة، فأحبوه وشيعوا جنازته في مشهد مهيب يليق برجل أفنى حياته في خدمة وطنه.
قوة مصر الناعمة
هكذا يكون المثقف، وهكذا تكون أعلام الأمة ورموزها، وهكذا يجب ألا يغيب عن أذهاننا وعقولنا أمجاد تلك الأمة ومفكريها ومثقفيها الكبار الذين صنعوا المجد وبنوا قوة مصر الناعمة.
ما يجب أن نتعلمه من سيرة طه حسين، هو أن الإرادة والرغبة في التعلم والإصرار والإيمان بالنفس وبقدرتنا على تحقيق طموحاتنا؛ كل ذلك هو الطريق الوحيد لكي نتقدم، كأفراد أو كمجتمع بشكل عام. لقد آمن طه حسن بالعلم والمعرفة، وسعي لأن يجعلهما في متناول كل أبناء وطنه، وأستطيع أن أقول إن ما نحن فيه الآن من انتشار للتعليم- حتى لو صار مشوها الآن- هو من قريحة نضال طه حسين، فنحن جميعا مدينون له بكل فصل تعليمي تم إنشائه، وكل مدرسة تم تشييدها، فهو من طالب بقوة وبحدة بأن تُبتي المدارس في كل أرجاء مصر ولا تكن حكرا على أبناء الأغنياء فقط.
هكذا كان طه حسين مثقفا مخلصا لوطنه، مؤمنا بالعلم، مدافعا عن حق الأجيال القادمة بأن تحصل علي قسط من المعرفة يسمح لها بأن تساعد في بناء أمتها ووطنها، ونحن في انتظار أن تمدنا الأجيال الجديدة بنموذج آخر من طه حسين يعيد رسم خريطة الأمة الثقافية والتعليمة حتي تعود مصر لسابق عهدها من الريادة والقيادة.