سينما

عن الحياة في رأس جون مالكوفيتش

بقلم عبدالرحمن جاويش

عن الحياة في رأس جون مالكوفيتش

عن الحياة في رأس جون مالكوفيتش أذكر مشاهدتي الأولى لهذا الفيلم، عنوان جذاب، صورة ليست هي الأفضل مقارنةً بسنة إصدار الفيلم، لم أجد ممثلًا من أبطالي المفضلين آنذاك، مرت الدقائق الأولى دون أن أجد سببًا للاستمرار في هذه المشاهدة التي بدت لي مؤملة.. فنان عرائس شبه مفلس، عاطل عن العمل، علاقته الزوجية فاترة، حياة مملة كبداية هذا الفيلم الذي لم أفهم عنوانه للمرة الأولى.. “أن تكون جون مالكوفيتش”.

وفجأة تتغير ملامح وجهي من الفتور للانبهار، حين يكتشف فنان العرائس البائس أن حياته لن تستمر على هذه الوتيرة المملة البائسة، وأنه قد اكتشف عن طريق الصدفة بوابة في منزل ستقوده إلى أغرب مكان قد يدخله بشر في هذا العالم، وهو عقل الممثل “جون مالكوفيتش”.. واللي يستطيع فنان العرائس أن يستحوذ عليه لمدة ربع ساعة ويتحكم فيه كأنه دمية خاصة به.. ومن هنا يبدأ الفيلم يتحرك في منحنى مشوق لا يخلو من فلسفة جميلة.

الحبكة مشوقة، تطرح فرضية سابقة لعصرها بكثير، ماذا لو تمكنت من الهروب من نفسك لمدة 15 دقيقة يوميًا.. وأن تعيش أفراح وأحزان ليست محسوبة عليك، وأن تتصرف وفق قناعات مختلفة عن قناعاتك، وأن ترتكب الأخطاء وتترك غيرك يتلقى عقوبته عليها..
تبدأ الحكاية مع قبول “كريج” العمل في وظيفة أرشيفية في شركة غريبة تقع في الطابق “السابع والنصف” وهي مزحه لم تفشل في إبهاري كلما أعدت مشاهدة الفيلم، حيث يقع مقر الشركة بين طابقين، ويضطر الموظفون للخروج من المصعد عنوة، ويسيرون داخل أروقة الشركة خافضي القامة بسبب قصر السقف.

دائمًا ما تشعر خلال أحداث الفيلم أن شيئًا مريبًا سيحدث، هناك مفاجأة آتية.. هذه العبثية لن تمر على خير أبدًا، حتى يكتشف “كريج” البوابة التي قادته لأغرب مكان في العالم؛ رأس الممثل جون مالكوفيتش.. حيث يرى الحياة بعينيه ويعيش في جسده لمدة خمسة عشر دقيقة.. حتى يجد نفسها مُلقى على جانب إحدى الطرق السريعة.

يجد كريج متعة عظيمة في مشاركة جون لكافة تفاصيل حياته، تناول الطعام واختيار الملابس وكافة الأنشطة اليومية.. تتابع المشاهد التي تنتمي للون الكوميديا الكلاسيكية السوداء، ولكن هل تذكرك الأحداث بشيء ما في عالمك الحالي؟ سأخبرك لاحقًا.

ومع الوقت يفكر “كريج” بأخذ اكتشافه لمستوى آخر، وتحويله لعمل تجاري حين يتعاون مع إحدى زميلاته لاستغلال بوابة الدخول لعقل “جون مالكوفيتش”، وفتحها لمن يدفع ثمن التذكرة.. ليتعرض الناس لصدمة في هوياتهم، ورغباتهم.. أعتقد أن الممثل “جون مالكوفيتش” واجه نفس شعور التخبط حين ترك صناع الفيلم يضعون اسمه وشخصيته الحقيقية في الأحداث، وترك باقية زملائه يخوضون جولاتهم داخل عقله داخل وخارج الفيلم.

كانت طموحات “جون مالكوفيتش” الممثل لا الشخصية أن يخلد اسمه بأعمال أخرى غير هذا العمل، خاصةً بعد أن عرف أن “توم كروز” كان مرشحًا ليكون محور الأحداث.. لكن أظن اختيار “مالكوفيتش” من صناع العمل كان متعمدًا؛ كونه ليس يكن من أفضل الممثلين (على الأقل بالنسبة لي)..  وعلى الرغم من مسيرته الحافلة، إلا أنه لم ينل شهرة  لاحقة إلا من خلال عمل يحمل اسمه، وكأنك لا يمكن أن ترى ما عاشه “جون مالكوفيتش” كنجم يشارك تفاصيل حياته؛ إلا في حدود الحبكة التي رسموها له.

الفيلم يمثل تنبؤًا عظيمًا لحياتنا الآن؛ فنحن أشخاص مملون، أو هكذا نرى أنفسنا.. نمسك هواتفنا (البوابة السرية) طيلة اليوم، لنصبح أشخاصًا آخرين، فتذوب هويتنا مع هويات من نتابعهم من مشاهير و”مؤثرين” على مواقع التواصل الاجتماعي.. لنصبح أسرى في عقول أكثر من مليون “مالكوفيتش”.. لكننا أسرى سعداء بهروب مؤقت من واقع أظنه كذلك مؤقت.

يتيح لنا تويتر التعرف على أفكار المشاهير، ويتيح إنستجرام مشاركتهم كافة تفاصيلهم اليومية، ويتيح لنا فيسبوك التعرف على أعمالهم وإنجازاتهم، فكل تطبيق يكشف لنا جانبًا معينًا من شخصية كانت لتكون مبهمة لولا التواصل الاجتماعي.. حتى أصبح الجميع بمن فيهم الرؤساء والقادة كتبًا مفتوحة للجميع، نعرف فيمَ يفكرون وكيف يفكرون، نتنبأ بردود أفعالهم ونتوقعها بسهولة.. فسمة هذه الحقبة أن تكون من تريد في أي وقتٍ تريد، لم يعد الأمر مجرد ربع ساعة في عقل شخص واحد.. بل أصبح يمكنك قضاء عمرك بعيون شخصٍ آخر لن يعرفك أبدًا.

أعتبر هذا الفيلم من المقربين لذوقي، كلما رأيته شعرت بذلك الشعور “إياه”.. كأن عقلي قد اندهش وقلبي قد انقبض، لكن –لغرابة الأمر- لم يتكدر مزاجي.

اقرأ أيضاً

فيلم “sphere” وقدرة الآلهة

فيلم “READY OR NOT” وعقد مع الشيطان بلعيال

عبدالرحمن جاويش

كاتب وروائي شاب من مواليد محافظة الشرقية سنة 1995.. تخرج من كلية الهندسة (قسم الهندسة المدنية)..صدر له عدة رويات منها (النبض صفر،) كتب في بعض الجرائد والمواقع المحلية، وكتب أفكار العديد من الفيديوهات الساخرة على مواقع التواصل الاجتماعي.. كما دوَّن العديد من قصص الديستوبيا على صفحته الشخصية على موقع facebook وحازت على الكثير من الإشادات من القراء والكُتَّاب كذلك..
زر الذهاب إلى الأعلى