عن رأفت الميهي والسيريالية المصرية
حين يقف المحامي في قاعة المحكمة بمنتهى الجرأة بحثًا عن براءة موكله حتى وإن استلزمت حبسه شهرًا، وحين تتحول سيدة إلى رجل كي تحصل على حقوقها الاجتماعية، وحين تحمل الحمارة طفلًا من نسل ابن صاحب الحظيرة، وحين يتزوج رجل من أربع صديقات في نفس اليوم بموافقتهن، وحين يتفق عشيقان على خلق قصة حب بين زوجيهما، وحين يصبح بمقدور الأبناء اختيار الآباء.. وحين تجد كل هذه العبارات التي تثير التعجب؛ فتأكد أنك ضيف في عوالم ” رأفت الميهي “.. رائد السيريالية في مصر.
ستشعر بغرابةٍ ما حين تقرأ مسيرة ” رأفت الميهي ” مستعرضًا بدايته التي كانت جدية بحق، فقد بدأ كاتبًا ومساعدًا مع مخرجين تميزوا بالجدية والواقعية في كثير من الأحيان، وهم كذلك أعمدة نهضت عليها السينما المصرية؛ مثل صلاح أبو سيف، وعاطف سالم، وكمال الشيخ، وحسام الدين مصطفى.. وتقارن هذه البداية مع بصمته المميزة كمخرج.
بدأ رأفت الميهي مسيرته كدارسٍ للآداب، شغوف بالسينما وتحديدًا بالكتابة، لم يفكر أن يصبح مخرجًا إلا حين انخرط في الصناعة التي هجر وظيفته “الآمنة” لأجلها.. كانت بدايته هادئة مع فيلم “جفت الأمطار” ليعود بعدها بواحدٍ من أفضل الأفلام العربية على الإطلاق، وهو “غروب وشروق”.. ويكمل مسيرته الناجحة ككاتب بـ”شيء في صدري” و”الرصاصة لا تزال في جيبي” و”أين عقلي”.. حينها يمكنك الوقوف أمام لوحة الميهي قائلًا أنها أيقونة من أيقونات الدراما والواقعية.. ليأتي الميهي بقرار العمل مخرجًا، فيلطخ هذه اللوحة بمجموعة من الألوان المختلفة المتناسقة، ليعلن نفسه رائدًا من رواد “الفانتازيا” في مصر، أو إن شئنا الدقة “السيريالية”..
لم تأتِ لطخات الميهي مرةً واحدةً، وإنما احتاج بعض الوقت ليثبت نفسه مخرجًا أولًا، فبدأ بأعمال درامية جادة، أثبت فيها جدارة وثقة، بعدها بدأ في أعماله التي نحفظها عن ظهر قلب وتميز مسيرته، وهي أعمال تتميز بالكوميديا غير الواقعية، أو الكاريكاتورية، والتي تعتمد على تغييب المنطق الدرامي لصالح المنطق الإنساني، وعكس عبثية الواقع في عبثية الشخصيات.. فإن كنت تنزعج من رؤية “حسن سبانخ” بأفعاله الغريبة ورؤيته العبثية للحياة، فانظر في مرآتك حين تكون وحيدًا، كيف تحدث نفسك، وكيف تضاحكها، ستكتشف أن بداخلك “سبانخ آخر”..
لا شك أن “الأفوكاتو” هو أفضل نموذج لشرح فلسفة الميهي، ورؤيته للواقع، رؤية جريئة ساخرة، عبثية في بعض الأحيان، ومجددة في طرح الرسالة.. تداعب المُسلَمات من الباب الخلفي الذي يحبه صناع الكوميديا.
داعب الميهي من خلال ذراعه الأقوى “حسن سبانخ” تابوو الفساد، ألقى الضوء عليه وحذر من وجوده، ألقى رسالة من أسفل الباب مفادها: الفاسدون بيننا.
عاود بعدها رأفت الميهي بقضية أشد حدةً من الفساد السياسي، وهي “الذكورية”.. فالفساد يمكن تعليق مسئوليته على أفراد بأعينهم، أما الذكورية فتسكن كل بيت.. وقد ناقش ذكورية المجتمع من خلال قضية ابنة عصرنا أكثر من كونها ابنة عصره هو.. مع فيلمين أعتبرهما من أهم إبداعات رأفت الميهي:
الأول هو “السادة الرجال” الذي يروي قصة سيدة قامت بعملية التحول الجنسي للحصول على المزايا الاجتماعية والمهنية للرجال، ولتضع زوجها أمام معضلة لم تطرأ على بال رجل قبله: إن كنا رجلين نتشارك نفس المسئوليات والحقوق.. فكيف تكون القسمة؟
أما الفيلم الثاني الذي انحاز فيه الميهي للمرأة، كان “سيداتي آنساتي” والذي أظهر نماذج قوية من النساء، أربع سيدات لا يرغبن سوى في حرية الاختيار، يرفضن تسلط الأزواج، فيقررن قرارًا غريبًا يليق بعقل الميهي: الزواج جميعًا من نفس الرجل.. صرخة في وجه المجتمع بنفس أسلحته.. لتظهر معضلة أخرى أمام المجتمع الذي يستميت في تبرير تعدد علاقات الرجال: هل سيظل الأمر ممتعًا إن حدث بمعرفة المرأة؟ بل وبإرادتها الحرة؟ يجيب الفيلم عن هذا السؤال إجابة واضحة مقتضبة: لا.
يأخذ الميهي السريالية والجموح في خلق العبث لمستوى آخر بعيد جدًا، وهو فيلم “سمك لبن تمر هندي”.. والذي أرغب حتى هذه اللحظة في حضور كواليسه، وكذلك اجتماعات الميهي مع الممثلين والمنتجين لأجل إقناعهم بهذا السيناريو.. لا لدراسة الميهي، فدراسة الميهي بمتابعة أعماله.. ولكن لمعرفة كيف أقنعهم بالموافقة على هذا العمل من الأساس!
وكأن الميهي قد شعر أن رسالة “سمك لبن تمر هندي” لم تصل جيدًا للجمهور، فعالج نفس تيمة “اليد العليا” في فيلمين؛ “مية فل” الذي يطرح فرضية طريفة؛ وهي اختيار الأبناء للآباء، و”علشان ربنا يحبك” حين عرض نتيجة زواج أبطال الفيلم طبقًا لاختيار الأهل، وما نتج عن ذلك من سياق عبثي أوجده كل منهم لإدارة حياته، سياق جعل عشيقين يرتبان خطة محكمة لقصة حب بين زوج كل منهما!
في النهاية فرضيات الميهي بعضها نادر الوجود، والآخر مستحيل التحقق، ولكن في كافة الأحوال تظل أسباب الفرضيات وتوابعها جزءًا أصيلًا من الواقع، فقط لمن يرى.