نادرًا ما تميز الحبكات الدرامية بين درجات الشر وبعضها؛ فهناك الحق والباطل وما بينهما من منافقين ينتظرون الفائز؛ فيهللون له..
أما شخصية هذا المقال فتخوض رحلة انطلاقًا من إحدى درجات الشر نحو الشر المطلق.. وهو ما أبدع فيه الكاتب “لينين الرملي” في فيلم “البداية” مع شخصية “نبيه بيك الأربوطلي”، لذا تجد أن أدق وصف للشخصية ليس “شرير”، وإنما هو مجرد “وغد”.
تبدأ رحلتنا مع “نبيه” بتعطل الطائرة التي كان يستقلها برفقة مجموعة من الركاب، ويضطر قائد الطائرة للهبوط في إحدى الواحات المهجورة، يتعلق الركاب في البداية بالطائرة التي ستأتي لانتشالهم، ولكن حين طال الانتظار وتأخرت النجاة، بدأوا يفكرون في التأقلم مع الوضع الجديد، والتعايش مع موارد الواحة.
من المشاهد الأولى نتعرف على السمة المميزة لنبيه بيك، وهي “المكر”.. فنشاهده في صورة رجل الأعمال الكلاسيكي، الشخص النفعي البراجماتي، يحتقر جمع من حوله رابطًا الثراء بالذكاء، تراه يحاول في مكر التلاعب بالركاب..
وهذه الصفة تظهر بشكل مباشر حين قرر أهل الواحة الجدد إجراء قرعة لتحديد من يحكم الواحة.. فهم لم يعرفوا بعضهم بعد، ولا يمكن أن تكون الانتخابات مجدية في هذا الحين.. تتم القرعة ليتبقى أمام “نبيه” منافس واحد وهو “سليم سالم” الفلاح البسيط.
يعرض عليه “نبيه” ورقة بخمسين دولارًا مقابل التنازل عن حقه في حكم الواحة لنبيه، فيوافق الأخير فرحًا بالورقة الخضراء؛ ليظل خير دليل على تخلي الشعب عن حريته وحقوقه المستقبلية مقابل بعض الامتيازات الزائلة.. ومن هنا تبدأ صراعات “نبيه” وتطور شخصيته.
طاقم طائرة، دكتورة في الكيمياء، فنان، إعلامية، بطل رياضي، فلاح، راقصة، طفل صغير.. هذه تقريبًا جميع الفئات التي قد تحتاجها لبناء مجتمع. وهنا بدأ نبيه كأي وغد تسلق زعامة هؤلاء مستغلًا الاحتياج الرئيسي لدى كل من هؤلاء؛ فتراه يشتري الفقير بالطعام، والغبي بالكلمات البراقة، حتى الدكتورة التي لا يمكن شراؤها بما هو مادي لعب معها لعبة الحب والوعد بالزواج.
ليثبت أن الرأسمالية تحكم في أي ظروف، حتى وإن كانت واحة لا قيمة للمال فيها، وليؤكد أن قوة الرأسمال ليست في العملات الورقية، وإنما فيما تسلبه من روحك، وما تخرجه من شرور كامنة في نفسك؛ ليعلن بعدها قيام الدولة.. دولة “نبيهاليا”.
أما عن دوافع نبيه في الحكم فهي واضحة؛ فهو لم يعتد طيلة حياته على أن يتم إدارته، وكذلك انعدام ثقته في جميع من حوله، فيراهم جميعًا جهلاء أقل منه علمًا وذكاءً.. وأظنه نفس الوازع الذي يريح ضمير أي ديكتاتور في العالم، فهو يرى نفسه البطل المُخَلِص من كل الشرور، وأن هؤلاء المستضعفين المساكين لا يساووا شيئًا بدونه.
ساعد على تطور شخصية نبيه ضعف المحكومين واستسلامهم التام له، خاصةً بعد أن قال لهم جملته الشهيرة: “هتسيبوني وتمشوا ورا كلام واحد ديمقراطي!”.
صحيح أنه لم يكذب في حرفٍ قاله لكن أداء العبقري “جميل راتب” للجملة جعلها تبدو وكأنها بداية للفتنة، الأمر الذي جعل الجميع يسلمون له.
وكذلك لعبت الإعلامية “شهيرة كامل” دورًا هامًا في ترسيخ عقيدة “الامبراطور” داخل نفوس الجميع، لدرجة أن الشاب الثوري “عادل” قد صدقها في وقتٍ من الأوقات وكان من المخلصين للدولة.
تطورت شخصية نبيه بالتدريج من مجرد ذئب ماكر، مرورًا بكونه وغد يتلاعب بالكلمات، وانتهاءً بديكتاتور صريح لا يخشى في الباطل لومة لائم.. ديكتاور يحاكم الشاب الثوري وينصب نفسه مدعيًا وقاضيًا ومحاميًا في نفس الوقت، في مشهد يبدو للوهلة الأولى خياليًا، ولكن حين تدقق النظر أكثر فأكثر ستصدقه.
أما غلطة “نبيه بيك” التي أنهت حكمه للأبد فهي أنه لم يقرأ التاريخ، لم يتعلم من أخطاء من سبقوه، انهار أمام نفسه قبل أن ينهار أمام أهل الواحة، سقط حين جثا على ركبتيه أمام شهوته ليحاول النيل من جسد “آمال”؛ مما أفقده عملته الوحيدة في الواحة: الهيبة.
وبعد ثورة أهل الواحة الناجحة عليه، واختيارهم لعادل ممثلًا عنهم، يقرر نبيه الهرب على مواجهة عقوبة السجن، حارقًا خلفه مخازن البلح وكل ما بناه من مظاهر الدولة..
وبعد الضيق يأتي الفرج في هيئة القائد السابق للطائرة الذي ظنوه قد مات، لكنه عاد بطائرة بديلة تنقذ الجميع وتترك الواحة لنبيه كما تمنى دائمًا.. لكنه أصبح حاكمًا في دولة منقضية، بلا محكومين.