فوق التوقعات.. الكائنات أحادية الخلية قادرة على اتخاذ القرار
نحن نأخذ القرارات سواء إرادية أو لا إرادية بناءً على الأوامر الصادرة من المخ، كذلك كل الحيوانات.. لكن ماذا عن الكائنات التي لا تمتلك مخ؟ بل ماذا عن الكائنات التي تتكون من خلية واحدة.. خلية واحدة مسؤولة عن كل شيء يقوم به الكائن؟ هل في إمكان تلك الكائنات أن تتخذ قرارات مدروسة مبنية على حسابات منطقية، أم أن هذا مستحيل لفقدان تلك الخلايا للمخ الذي يقوم بعمل الحسابات المنطقية الازمة لاتخاذ القرار؟ دراسة تؤكد أن الكائنات وحيدة الخلية قادرة على اتخاذ قارات معقدة مبنية على حسابات منطقية.. تغير رؤية العلماء للحياة.
في سن 1906 نشر عالم أمريكي شهير يسمى هيربرت سبنسر تجربة قام بها على كائن أحادي الخلية يسمى س. رويسيلي S. roeselii يعيش في المياه العذبة، هذا الكائن أظهر مقدرة أذهلت هيربرت. مستعينًا بميكروسكوب بدائي وبمضخة تمكن هيربرت من إتمام تجربة المذهلة. س. رويسيلي كائن أحادي الخلية كبير الحجم نسبيًا بحيث يسهل رؤيته بالميكروسكوب الضوئي.
يتكون هذا الكائن مما يشبه القمع الذي يحتوي على فتحة بمثابة الفم حيث يمتص هذا الكائن الغذاء. يحمل الكائن أحادي الخلية على سطح جسمه أهداب يستخدمها للسباحة ولدفع الغذاء داخل فمه. يقوم الكائن عند استقباله للغذاء بتثبيت نفسه في أي شيء ثقيل حتى يمنع التيار من جرفه وذلك بعد أن يفرز مواد كيمائية خاصة تمكنه من الالتصاق، ثم يفتح فمه لتيار الماء ويلتقط المغذيات مستعينًا بأهدابه التي يستخدمه لدفع الغذاء في فمه.
كل هذا رغم تعقيده ورغم أنه غاية في الإذهال يمكن اعتباره عمل روتيني لا يتضمن اتخاذ قرارات منطقية. لكن ما حدث عندما عرض هيربرت الكائن لمؤثر مزعج تبين أن الكائن قادر على إظهار سلوك مغاير. فقد عرض هيربرت الكائن لتيار من البودرة الضارة أثناء توقف الكائن لالتقاط الغذاء ليقوم س. رويسيلي بأمر غير متوقع.
أولًا قام س. رويسيلي الكائن أحادي الخلية بثني جسده ليبعد نفسه عن تيار البودرة الضارة ليظهر رفضًا لامتصاصها، وعندما لم تتوقف البودرة عن دخول فمه غير س. رويسيلي من اتجاه حركة أهدابه محاولًا إبعاد تيار تلك البودرة عنه، وعندما بائت محاولته بالفشل إنكمش على نفسه محاولًا أغلاق فمه، ليظهر كأنه سلحفاء تدخل في صدفتها، وعندما ظل التيار فترة طويلة بدون توقف، قرر س. رويسيلي أن يرحل من هذا المكان الموبوء فقام بفك نفسه من الشيء الذي يلتصق به وبدأ بالسباحة بعيدًا.
المذهل أن س. رويسيلي قام بتكرار تلك السلسة من الأحداث كل مرة يتعرض فيها لمؤثر مزعج، نحن لا نتكلم عن خلية واحدة من س. رويسيلي بل عندما كرر هيربرت التجربة مع أي س. رويسيلي أظهر نفس السلوك.
فكيف لهذا الكائن أحادي الخلية أن يقوم بهذا الفعل المعقد؟! إنه لمن المحرج ما يقوم به س. رويسيلي وغيره من الكائنات أحادية الخلية لهؤلاء الذين يدعون أن الحياة ظهرت بالصدفة. فكيف للصدفة أن تخلق كل هذا التعقيد المذهل؟! فنحن نعلم أن الخلايا تتواصل فيما بينها وأنها تتعاون فيما بينها وأنها تتفاوض فيما بينها لصنع الحياة التي نراها.
كيف يمكنهم أن يصلوا لهذا الإدراك وهم لا يمتلكون مخ، كل ما لديهم خلية وحيدة تقوم بكل شيء؟ نحن عندما نسأل عن كيفية إتخاذنا للقرارات نرد على السؤال بأننا نمتلك مخ يقوم بذلك، متجاهلين جهلنا للكيفية التي يستطيع بها المخ فعل هذا الأمر. لكن ما يقوم به س. رويسيلي لا يسعنا صرف النظر عنه. فلا يوجد عالم على الأرض يستطيع تفسير قدرة س. رويسيلي على اتخاذ تلك القرارات المنطقية والتي تنبئ عن إدراك ما للبيئة المحيطة وقدرة على تحليلها واتخاذ قرارات بناءً على هذا التحليل.
كمهندس في مجال النانو تكنولوجي أستطيع أن أؤكد بأنه يستحيل علينا تقنيًا في الوقت الراهن صناعة روبوت في حجم س. رويسيلي قادر على فعل أبسط ما يقوم به هذا الكائن أحادي الخلية وهو تحريك أهدابه للسباحة في الماء.
نحن لا نمتلك المقدرة التقنية لصنع شيء بهذا الحجم له تلك المقدرة.. وهو أبسط الأشياء التي يقوم بها س. رويسيلي فما بالك بقدرته على التحليل للبيئة المحيطة وقدرته على اتخاذ القرارات المبنية على تلك التحاليل المعقدة والسريعة. يقف العلم المادي مذهولًا عاجزًا أمام أبسط أسرار الحياة والتي تظهرها صارخة بالتحدي أبسط الكائنات.. الكائنات أحادية الخلية أمثال س. رويسيلي.