ثقافة وفنون

في سوق الخردة

في سوق الخردة.. نظر إلى الوقت في ساعة يده وتتبع المارين أمامه. أشعل سيجارة وعلقها بفمه ليترك يده حرة. ثم أبعد ظهره المستلقي على عمود الإنارة، ونهض من فوق الحجر الذي يجلس عليه منذ قرابة الساعة. 

لامست إحدى العرائس المبتسمة ركبته وهو ينهض، فسقطت ليرى موضع القماش المبلل من تحتها. دخان السيجارة يكسوا وجهه، وهو يشد القماشة الرطبة الملاصقة للأرض عليها العروسة وباقي بضاعته، قطع نحاسية، عرائس مختلفة الأحجام، معادن وأوانٍ- منها ما هو صدأ- وبعض الزجاجات.

تزداد الثرثرة من أفواه الباعة المجاورين له. لكنها كانت أكثرهم صخبا. نظر إليها بحدة. أومأت إليه باعتذار. لا يستطيع أن يتحمل اليوم صياحها المتزايد. هكذا قال لها. 

يتقدم المارة نحو بضاعته. يعود ليلتصق بعمود الإضاءة الذي ينساب ضوئه فوق بضاعته تماما. يحاول أكثر من مشتري أن يخفض من سعر العروسة المبتسمة. لكنه كان يرفض في كل مرة بيعها.. عادت إلى ضجيجها. ينظر إليها نظرة حيرة. هي التي جاءت ببضاعتها إلى سوق الخردة منذ شهور، قادمة من الأقاليم لأسباب ذكرتها لتستعطفهم بها.

يشك هو في صدقها. يمر أمامه صبي القهوة بأكواب الشاي يأخذ منه كوبا، وتأخذ هي الأخرى كوبا من الصبي الذي يميل على أذنها يوشوشها بنكتة إباحية. تدفعه بيدها في ابتسام وكأنها تصده. يبتعد صبي المقهى، وهو يدفع المارة موسعا لنفسه طريقا. ترشف الشاي وتشرد لحظات ليخرج من فمها آهة تتبعها أخرى عميقة من صدرها. 

تهب عاصفة ترابية فتتطاير أكياسها الفارغة. سرعان ما يحتجز بعضها جدار الرصيف، والبعض الآخر يسقط في برك مياه صغيرة. يرتعش جسدها. تنظر إلى السماء التي تغرب. تنهض وتحكم القماشة حول بضاعتها. تنظر بجوارها فتلمحه هو أيضا يلملم أشياءه، زجاجاته وعرائسه، وكل الأشياء التي استغنى عنها أصحابها بعد أن مكثت لديهم زمن ما.

تتحرك أمامه بدلال لم تفعله منذ مجيئها. تضع كوبها بحركة رشيقة يعوقها نسبيا جلبابها المحكم. تقفز على صينية صبي المقهى. وتترك عملتها على الصينية ترن وهي تنظر صوب عينيه.

يدرك هذه النظرة جيدا هو الذي خاض التجارب وخبر الحياة منذ الصغر. مرت أعوام منذ قرر الوقوف في سوق الخردة. عمل بأسواق عديدة لكنه استقر أخيرا هنا. عرف البائعين وعرفوه. واعتاد على ملامح الزبائن. يعرف جيدا إذا كان قاصده سيشتري أم سيجادل وينصرف.

وعندما تأتي بائعة جديدة للسوق كان يراهن الباعة على معرفتها والدخول معها في علاقة. وكان يكسب الرهان دائما. لكنه منذ عام توقف عن ذلك. بعد أن أحرقت إحداهن نفسها عندما علمت أنه يخونها مع أخرى.. لم تحتمل الخيانة احترقت وماتت.

كانت قد أحبته بقوة دون أن يدري. لم يستطع بعدها أن يقترب من أخرى. كثيرا ما تعبث به صورتها. وها هو يتذكرها وهو يلملم أشياءه لينصرف. يعقد القماشة ويضعها فوق ظهره. وهي لا زالت تنظر إليه بإلحاح ورغبة. هي التي سمعت عنه الكثير من نساء السوق. ها هي تتخلى عن حذرها.

وها هو يحمل ذكرياته وأشيائه التي يتخبط منها القطع النحاسية مكتومة داخل القماشة، وهو يستدير ليتحرك. تسير خلفه حتى عمود الإنارة. لكنه لا يعبأ بها، ويبتعد كما يبتعد كوبها الفارغ بحافة الصينية مع صبي المقهى الذي ابتعد هو الآخر. 

تقف هي في يأس ووحشة تحت عمود الإنارة، وفوق موضع العروسة الرطب تماما… يغمرها الضوء كما كان يغمره منذ قليل.

زر الذهاب إلى الأعلى