قصة جمهورية الإسكندرية المستقلة التي أزعجت الخليفة المأمون
كتب- هيثم السايس:
في عام 202 هـ في مدينة قرطبة عاصمة الدولة الأموية بالأندلس، قامت ثورة قادها الفقهاء والعلماء ضد الأمير الحكم بن هشام ثالث أمراء الدولة الأموية بسبب فرض الضرائب الباهظة على السكان، والسياسات غير المنضبطة والأخلاقية التي كان يظهرها الحكم بن هشام، خاصة بعد أبيه هشام بن عبد الرحمن بن معاوية الذي كان يجّل الدين ويحترم الفقهاء ويستشيرهم في كل خطوة، فأتى الحكم مغايراً لتلك السياسة وأظهر عداوته مبكراً لتدخل الفقهاء والعلماء.
قامت الثورة بأحداثها الكثيرة، إلا أنه من المهم أن نذكر أن الاشتباك مع الفقهاء والعلماء الذين قادوا الثورة مع عامة الشعب تركّز في أحد أحياء قرطبة التي عاش فيها الفقراء، وتسمت بثورة الربض، وكلمة الربض تعني الحي، وقد نتج عن هذه الثورة تدمير العديد من الأحياء وقتل العامة واشتراط الحكم بن هشام على الثوار بأن يخرجوا من قرطبة بعيالهم وأمتعتهم جميعها، ليس هذا منفى داخلي، أي أنه لا يحق للثوار الذهاب إلى أي مدينة أندلسية أخرى، بل الخروج من الأندلس ذاتها.
ذاق الثوار مر المنفى، وتم شحنهم في مراكب خاضب بهم عباب البحر المتوّسط، فمنهم من اختار مدن شمال افريقيا، ومنهم من اختار الإسكندرية في مصر، إلا أن ولاة مصر دائماً ما كانوا يقفون لهم بالمرصاد لعدم دخول المدينة، أو استغلال بعض هؤلاء الولاة للأندلسيين ليكونوا أداة من أدوات الفوضى السياسية!!
كيف قامت الدولة المستقلة الأندلسية في الإسكندرية
يعتقد بعض المؤرخون[1] أن نزول الأندلسيين إلى الاسكندرية كان قبل ثورة الربض بحوالي 3 سنوات كاملة وتحديداً في عام 199 هـ حيث كانت الثورة التي قامت في الأندلس في 202 هــــ وذلك لن الأندلسيين كانوا أهل بحر ومغامرة وقد كانوا يغامرون بسفنهم وينزلون في أماكن الاضطرابات، وهذا حدث في أكثر من مناسبة في التاريخ.
ويذكر الكندي في كتابه الشهير الولاة والقضاة أن الأندلسيين” قفلوا من غزوهم فنزلوا الاسكندرية يبتاعوا ما يصلحهم وكذلك كانوا على الزمان وكان الأمراء لا تمكنهم دخول الاسكندرية وإنما كان الناس يخرجون إليهم فيبايعونهم” وهذا يؤكد أن هؤلاء الأندلسيين لم يكونوا غزاة بالمعنى المفهوم ولكنهم كانوا مغامرين يعرفهم أهل الاسكندرية جيداً بل وقد يبايعون بعضهم ليكونوا عضد لهم في الفوضى العارمة التي كانت تشهدها مصر آنذاك!!
فما هي هذه الفوضى؟
لقد كانت مصر تشهد فوضى بسبب الحرب الأهلية بين الأمين والمأمون في دار الخلافة ( بغداد) وكانت بسبب الصراع على الحكم، وقد انتهت تلك الحرب بانتصار الخليفة عبد الله المأمون، وقد كان في خضم تلك الفوضى مصر بما إنها كانت جزء من الخلافة العباسية، وشهدت صراعاً بين القبائل العربية فيها مثل لخم وبني مدلج وغيرها.
إنها كانت فوضى أهلية تربطها المصالح، ولقد تأثرت الحالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بتلك الفوضى، إلا أنه يهمنا في هذا المقال ما حدث في الإسكندرية.
أما عن دخول الأندلسيون إلى مصر بعد ثورة الربض فلها قصة، وهي أن والي مصر المطلب بن عبد الله الخزاعي وكان في ولايته الثانية قام بإرسال أخيه الفضل ليكون والياً على الاسكندرية ويقضي على فوضى عرب جذام ولخم فيها.
هنا طل برأسه عمر بن هلال أحد قواد والي مصر المطلب وتحالف مع الأندلسيين ضد الفضل لأنه كان يريد الولاية لنفسه، فتدخل الأندلسيين الذين كانوا في المراكب ودخلوا إلى المدينة مدافعين عن عمر بن هلال وفي جنده، ولكن انهزموا أمام مقاومة عنيفة من السكندريين، وبعد سلسلة من الأحداث الكثيرة على مدار عامين متتاليين قتل فيها ابن هلال، ثم عزل فيها المطلب وأخاه أيضاً وتولى فيها السري بن الحكم والياً جديداً كان الأندلسيون في كل مرة يشاركون في الفوضى، ينزلون من المراكب التي كانوا يقبعون فيها يشاركون في الفوضى ويرحلون مرة أخرى!!
حانت الفرصة لحكم المدينة والتحكم فيها من قبل الأندلسيين خاصة بعدما زادت أعداد سفنهم قبالة السواحل بعد ثورة الربض والنفي الاختياري للأندلسيين بعد الثورة، حيث استغلوا حرب بين اللخميين بقيادة زعيمهم رباح بن قوة وقبائل أخرى، فدخلوا النزاع كالعادة، وهنا انقلبت الكفة ضد اللخميين الذين أقوى طرف في المدينة، وأصبحت الاسكندرية الآن فارغة تماماً من القوى، في نفس الوقت الذي كانت تعاني منه عاصمة البلاد ( الفسطاط ) من الفوضى والانقلابات العسكرية!!
انفرد الأندلسيون بالحكم وعينوا عليهم أبا عبد الرحمن الصوفي ولكن سرعان ما تم عزله واتهامه بالفساد، ثم تم تعيين رجل منهم يدعى الكناني.
نهاية الدولة وجلاء الأندلسيون من الاسكندرية
استمرت هذه الإمارة أو الدولة الأندلسية في الاسكندرية حتى انزعج الخليفة المأمون من هذا الوضع المزري في مصر، وقد كان هذا دافعاً له لتغيير السياسات الداخلية لمصر بإصلاح حال الولاية في الفسطاط أولاً، حيث عين عبد الله بن طاهر وكان أحد كبار القادة في الجيش العباسي وابن طاهر ابن الحسين الذراع اليمنى للخليفة في حربه ضد أخيه الأمين.
وقد أبلى عبد الله بن طاهر بلاءً حسناً في إصلاح الأمور وسار إلى الاسكندرية في عام 212 هـ
وحاصر المدينة حصاراً شديداً لمدة اسبوعين حتى اضطر أبو حفص عمر البلوطي وكان أحد زعماء الأندلسيين في المدينة إلى الاستسلام وأمر السفن الأندلسية بالمغادرة وترك المدينة، واختاروا الذهاب إلى جزيرة إقريطش أو كريت لتدور قصة أندلسية أخرى هناك.
إلا أن العلاقة بين الاسكندرية والأندلس لم تنتهي بل بدأت على العكس من ذلك، فهي أكثر مدينة مصرية تأثرت بالحضارة الأندلسية حتى في أسماء أحيائها العريقة الموجودة حتى الآن .. ولكن لهذا الأمر حديث آخر .
[1] ذكر هذا الدكتور السيد عبد العزيز سالم في كتابه تاريخ الاسكندرية وحضارتها في العصر الإسلامي، ص 134 وما بعدها.