قصر الوجوه.. حاثّا خطاه ومتنفّسا بصعوبة، وصل إلى منزله أخيرا، أغلق الباب وراءه ثمّ نزع قناعه الأسود ورماه بغضب مشوب بكثير من الارتياح.
جلسَ على أريكته وأمسك ألبوم صور اهترأ وأخذ يتأمل زمانا ماضيا كان وجهه فيه يبصر النور ونسمات الهواء تغازل وجنتيه بقبلٍ ثملى، وفاض قلبه حنينا لعهد لا يعتقد أنه سيعود، وبينما كان يقلّب صوره وجد بطاقةً خضراء مذهّبة الحواف مدسوسة بينها، وإذ بها دعوة لحضور حفل راقص في قصرِ الوجوه!
استبدّت به الحيرة، كيف لشخص عاديٍّ مثله أن يتلقى دعوة لحضور حفل في مكان لا يضطر فيه لوضع القناع الذي فرضته إدارة المدينة؟ ولماذا القصر الذي يكرهه جميع أفراد المدينة ويشمئزون عند ذكر اسمه قرر أن يضم فردا منها إلى بلاطه محتفلا؟
فتح بطاقة الدعوة ببطء لا متناهٍ وبدأ يقرأ ما كُتِب فيها:
إلى السيد المحترم،
نحن نعلم كم تتوق إلى الحقبة الماضية، حيث كان لكلِّ إنسان الحق في أن يبرز ملامحه؛ ولذلك ندعوك إلى مستقبلٍ لا تحتاج فيه إلى قناع في جنبات قصرنا هذا، مع العلم أنه سيتم استقبالك في حفل راقص يليق ببداية جديدة!
المكان: قصر الوجوه.
الزمن: الوقت المناسب.
وجهك ينتظرك
ما هذا؟!
رسالة منمّقة مكتوبة بماء الذهب ولم يحددوا موعدا؟ هذه سخافة! هل ستنتظره الفرقة الراقصة أياما وأسابيعَ حتى يأتي؟ لا بد أنه فخّ، وما هذه إلا طريقة ليعرفوا مدى رغبته في الانضمام إليهم.
أمسك قناعه الأسود على عجل وارتداه وانطلق باتجاه القصر بسرعة الضوء، ولم يهدأ عقله ثانية واحدة! يا ترى هل قصر الوجوه يستعبد أهل المدينة كما يُشاع؟ لطالما تكلم عنه جيرانه بسوء، وأن له حاكما قميء الوجه يقطرُ مكراً، لا بل إنهم يستخدمونه كشتيمة: أبشع من حاكم القصر- رغم أننا نسينا أشكال وجوه بعضنا بعد قرار وضع الأقنعة السوداء خارج البيوت، ومع كل هذه الأفكار أُثقِلت خطواته وباتت أبطأ فأبطأ، وجاع من كثرة التفكير، يا ترى هل طعام القصر لذيذ؟ قال اللحام إنهم يستخدمون أردأ أنواع اللحوم، وكلما اشتكى أحد من أسعار البقّال قال له أن يحمد ربه كثيراً فهو لا يأكل من طعام القصر الفاسد! ربما يجب عليه أن يتناول وجبة أخيرة قبل أن يذهب إلى هناك.
وتوالت أفكاره فغدت الوجبة حماما وتسوّقا ونزهة إلى الحديقة ورأى أخيرا أن الوقت قد تأخر وقرر الذهاب غدا أو بعد غد، وكلّما أحسّ بتأخره عن القصر نظر إلى الدعوة وقرأها مرة أخرى إلى أن حفظها عن ظهر قلب، ووضع قناعه في اليوم الذي يليه وراح يتجول مودعا المدينة مرة أخيرة، أو قبل الأخيرة بقليل، وبعد شهرٍ كامل تمزقت البطاقة نتيجة لكثرة القراءة، ولكنه لم يذهب بعد، وربما لن يذهب أبدا؛ فمدينته كانت جميلة، وهواؤها كان عليلا وإشراقة شمسها تضفي على قناعه إشعاعا مميزا، بل سيذهب عندما يملّ منها وسيلتجئ إلى القصر ويعيش حياة جديدة وقتما يريد، فكل الأوقات هي الوقت المناسب، ولا يوجد أنسب من وقت يحس فيه بالضيق من مدينته.
وبعد زمن طويل، بينما كان يرتب غرفته وجد ما تبقّى من البطاقة وقد غطاها الغبار وتآكلت أطرافها المذهبة، فقرر الذهاب إلى هناك أخيرا، وعندما وصل فوجئ ببديع صنع القصر وجمال سكّانه، وكأنهم ملائكة تشعّ وجوهها نورا ومحبة، كلما ابتسم أحدهم فاض قلبه فرحا وتمنى أن يلازم صحبتهم إلى الأبد، اقترب من الحارس وأراه البطاقة الممزقة وقال له: «لقد قلتم الوقت المناسب وأنا أرى أن اليوم هو أنسب وقت لأكون فردا منكم».
نظر إليه الحارس بحنوّ وقال له: «أهلا وسهلا سيدي، انزع قناعك لو سمحت وتفضل فهناك وليمة بانتظارك».
وضع يديه على قناعه وبحركةٍ خفيفة حاول نزعه ولكنه لم يستطع، أخذ نفَسا عميقا وابتسم للحارس بارتباك وعاود الكرّة بيد أن القناع لم يُنزع! قال للحارس: «أمهلني قليلا، لا بدّ أنّ التوتر قد نال مني». وحاول مجددا إلى أن وجهه بدأ بالتشقق والنزيف فأوقفه الحارس وقال له: «ربما ياسيدي لم يعد الوقت مناسبا كما ظننت، نعتذر منك ونتمنى لك ولقناعك وقتا طيباً في مدينتكم».
نظر للحارس غير مصدّقٍ لما سمعه للتوّ! كيف للوقت أن يفوته وهو قد قرر أن اليوم مناسب؟ ما هذا المكر والخداع؟! لم تكن هذه الدعوة إلا مزحة ثقيلة من أفراد القصر السّمجين، يا لخبثهم ودهاء ابتساماتهم!
أشاح عن الحارس وأقفل ضاربا بخطاه الأرض، وعندما مر بمكب القمامة قرر أن يرمي بطاقته فيه مع آلاف الأوراق الخضراء مذهبة الأطراف المتناثرة في زواياه، ترك القصر وسكانه وراءه وهو لا يطيق الانتظار ليخبر جيرانه كم كان الحارس وقحا!
قصة قصيرة