نعود بالجزء الثانى من قلب الشيطان بقلم الكاتب / أحمد الشمندي لقراءة الجزء الأول هنا
مشهد رقم ١
- أحمد .. أحمد ، اصحى يا ابني ، إنت معندكش شغل النهاردة ولا إيه ؟! الساعة بقيت تسعة …
نايم على ضهره ، إيديه على صدره ، فتح عينه فجأة ، واتنفض …
- بسم الله الرحمن الرحيم ، فيه إيه يا ابني !
- أنا فين ؟!
- إنت فين إيه ؟! إنت في سريرك يا حبيبي ! إنت كنت بتحلم ولا إيه ؟
أحمد بص لأمه ، وبص حواليه … أنا في أوضتي ودي أمي ؟!
قام من السرير ، مشي ناحية مكتبه ، مسك التليفون وبصله …
مشهد رقم ٢
- بت يا ميريام .. ميريام ، الساعة تسعة يا بنتي ، إنتي مش رايحة الشغل ولا إيه ؟ كل دة نوم ؟! قومي يالا …
نايمة في وضع الجنين ، إيديها ماسكين في بعض ، مضمومين على صدرها ، قدم رجلها فوق التانية ، فتحت عينيها فجأة ، واتنفضت …
- فيه إيه فيه إيه ؟! مالك يا بت ؟ بسم الله الرحمن الرحيم ، مالك يا بت بتترجفي كدة ليه ؟
- أنا فين ؟!
- إنتي فين ؟! مالك يا ميريام ؟ إنتي بتحلمي ولا إيه ؟
ميريام بصت لأمها ، بصت للأوضة ، وقامت ناطة من على السرير ، وجريت على مكتبها ، وطلعت الكاميرا من شنطتها ، وبصتلها ثانيتين ، وفتحت البوم الصور …
مساء الفل يا عزيزي ، كل سنة وإنت طيب ، أتمنى تكون قضيت عيد سعيد ، وضربت لحمة لما شبعت J ، مقولتليش صحيح ، رأيك إيه في الجزء الأول ؟ طيب يا سيدي متشكرين ، هنبتدي الجزء التاني أهو …
- صباح الخير يا ميريام
- صباح الخير يا أحمد
- إنتي فين ؟
- في البيت ، وإنت ؟
- في البيت
- أحمد … هو إحنا كنا المفروض نتقابل النهاردة الفجر ؟
- أيوة
- ومتقابلناش ؟
- ميريام إحنا في بيوتنا ، والساعة تسعة وعشرة الصبح
- إنت صحيت إمتى ؟
- لسة صاحي ، أمي اللي صحيتني
- وأنا كمان لسة صاحية ، ماما اللي صحيتني … أحمد !
- نعم
- فيه صور على الكاميرا ، أنا مصورتهاش !
- إنزلي قابليني طيب ، كمان ساعة في مكاننا المعتاد
- ماشي …
تخيل نفسك كدة مكان أحمد ، وتخيلي نفسك مكان ميريام …
الراجل اللي كان قلبك هيوقف من الرعب بسببه من شوية ، واللي شكله أصلاً مرعب ، واللي بينكم وبينه تلت ساعة أو نص ساعة بالعربية ، يعني مسافة كبيرة قطعتوها بعيد عنه ، فجأة بقى موجود في ضهرك بعد وصولك بدقايق ، مش بس كدة ، دة جايلكم ماشي في الهوا …
- نزلة الأموات هتفضل أموات ، نزلة الأموات هتفضل أموات
في حالة ما بعد الرعب ، أحمد وميريام كانوا باصين للراجل نظرة مليانة آلاف المعاني ، لا عارفين يردوا ، ولا عارفين يفهموا ، ولا عارفين يمشوا ، ولا حتى يفضلوا واقفين …
وقبل ما يكون فيه أي رد فعل ، اللي هو مش عارف ممكن يكون ازاي في موقف زي دة ، الراجل وبضحكة شيطانية رجت الأجواء قال …
- أنا حراز ابن ملك الجبل …
حراز ابتدا يتلاشى من المشهد في اتجاه الجبل ، جبل شيطان ، التلاشي كان في اتجاه جزء محدد في الجبل ، قلبه ، أيوة قلب الجبل …
لما تبص للجبل بنفس النظرة اللي قولتلك عليها وكأنه راجل قاعد ، هتلاقي في مكان القلب مغارة واضحة جداً، بالرغم من سواد الجبل حتى في عز النور ، الراجل لما تلاشى ، آخر ظهور ليه قبل لحظة الاختفاء كان على أعتاب المغارة دي …
ومع اختفاؤه … أحمد وميريام فقدوا الوعي ، تماماً
- صباح الخير
- صباح الخير يا ميريام
- عامل إيه ؟
- الحمدلله ، تشربي إيه ؟
- هاتلي قهوة دوبل ، محتاجة أفوق
أحمد وميريام بيتقابلوا دايماً في كافيه ريتش في وسط البلد ، وبيقضوا فيه معظم الوقت لما بيكون عندهم شغل بيجهزوه قبل النشر …
- يعني إيه ؟ إحنا حلمنا بنفس الحلم ، في نفس الوقت ؟! طيب ماشي ، وارد إن دة يحصل وإن كان يعني شبه مستحيل ، لكن الصور اللي على الكاميرا يا أحمد دي جات منين ؟! إزاي يعني ؟! يا أحمد الصور اللي على موبايلك ، بتقول إننا كنا مع بعض فعلاً في البنزينة اللي على الطريق ، اللي كنا فيها في الحلم ، إزاي بردو ؟! أنا مرعوبة …
- أنا مش مستوعب ولا عارف أفكر أصلاً ، لما شوفت الصور على الموبايل اترعبت ، ولما قولتيلي إن فيه صور على الكاميرا بتاعتك ، دماغي اتشلت ، أنا مش مش عارف افكر ، أنا مش قادر أصلاً …
- وبعدين طيب !
- مش عارف يا ميريام ، مش عارف
بعد ساعتين من الحوار اللي أسفر عن اللا شيء ، أحمد وميريام خرجوا من الكافيه على شارع طلعت حرب ، بعد ما فشلوا في الوصول لأي تفسير للموقف اللي حصل ، وفجأة وبدون سابق إنذار ، ميريام كلبشت في إيده وشهقت وبرقت ، وبصوت مخنوق مبحوح …
- العربية السودا يا أحمد ، العربية السودا
أحمد في رد فعل تلقائي ، بص للعربية السودا الوحيدة اللي بتعدي أودامه حالاً ، علشان يتفاجئ ، فيتخض ووشه يصفر ويعرق ويترعش ويتنح ويبرق وريقه ينشف ونفسه يضيق وضربات قلبه تتسارع ، وكأنها خطوات عداء سرعة ، داخل على خط النهاية ، الحالة اللي سيطرت على أحمد في الفاصل الزمني بين الرؤية ورد الفعل ، تقول بلا شك ، إنه شاف ملك الموت واقف أودامه مبتسم وبيقوله الدور عليك دلوقتي …
ميريام مكانتش بتترعش بس ، ميريام وكأنها مسكت سلك كهربا جهد فائق ، البنت حرفياً كانت مصعوقة ومرعوبة وعلى وشك تاخد السكتة القلبية بالحضن …
عربية سودا فارهة ، إزازها إسود ، ماشية في نص الشارع بالراحة ، وبالنسبة لاتجاه رؤيتهم ، كانت جاية من الشمال لليمين ، وقبل ما توصل لمواجهتهم ، الإزاز اللي ورا اتفتح ، علشان يظهر اللي قاعد جوة العربية ، بدله سودا بتلمع ، تحتها قميص إسود ، بيبيون أحمر ، سكارف بنفس لون البيبيون ، وكان اللي لابسهم بيبصلهم وبيبتسم ابستامة قاتلة …
الاتنين في نفس اللحظة ، نطقوا نفس الكلمة … حراز …
اللي كان حقيقي غريب وملفت للنظر ، في الثواني اللي سبقت رؤية حراز ، الهدوء والصمت والفضا ، مكانش فيه حد في الشارع ، ولما أحمد وميريام ركزوا في نفس الثانية اكتشفوا انهم كانوا لوحدهم في الكافيه ، والشارع ، والمنطقة كلها ، وكأنهم الوحيدين الموجودين في القاهرة ، ومع الذهول وتسارع المفاجآت … أحمد وميريام فقدوا الوعي … تاني
بصراحة أنا مستغرب من موضوع فقدان الوعي المتكرر لأحمد وميريام ، يا سيدي ماشي ، أنا متفق معاك إن الموقفين مرعبين جداً ، بس مش متخيل أنهم يوصلوا لدرجة الإغماء ، حاسس كدة إن فيه حاجة تانية أو سبب تاني غير الخضة ، تعالى كدة نشوف …
أحمد فاق فجأة ، اتلفت حواليه وهو بينهج وكأنه كان بيجري في سباق ٤٠٠ متر حواجز ، علشان يلاقي ميريام مرميه أودامه مغمى عليها ، كانوا في نفس المكان اللي شافوا فيه حراز ، قبل ما يوصلوا لنزلة الأموات ، وكان من الواضح إنهم فقدوا الوعي لفترة بسيطة ، لأن الوقت كان لسة العصر …
- ميريام … ميريام فوقي
- هو فين ؟ راح فين ؟
- اهدي ، اهدي
- ياللا نمشي يا أحمد ، ياللا نمشي
- طيب طيب ، إهدي بس ، هشوف العربية
أحمد قام من الأرض وراح للعربية يحاول يدورها ، والغريبة إنه لما دورها دارت فوراً ! ، قامت ميريام جري على العربية ونطت جنبه ، وفي ثواني أحمد حط عصاية الفتيس على وضع ال D وانطلق ، ومع الانطلاقة كانت المفاجأة الكبرى ، اللي تخيُّلها في حد ذاته مستحيل …
أحمد بمجرد ما داس على دواسة البنزين ، وكأنه داس على زرار القيادة الآلية ، أو كأن حد بيحرك العربية بريموت كنترول عن بعد ، أمان الأبواب اتقفل ، الإزاز مش بيتفتح ، و … العربية ابتدت تتحرك لوحدها …
- أحمد فيه إيه ؟ إنت رايح فين ؟
- أنا مش رايح في حتة يا ميريام ، العربية بتتحرك لوحدها
- يعني إيه بتتحرك لوحدها ؟!
- يعني بتتحرك لوحدها يا ميريام ، مش أنا اللي سايق !
ميريام متنحة في أحمد ، مذهولة من اللي بيقوله …
أحمد سايب الدركسيون ومتنح في لوحة عدادات العربية …
الاتنين بصوا أودامهم ، علشان يكتشفوا إن العربية بتتحرك في اتجاه نزلة الأموات ، ذهول ممزوج بالرعب ، أنفاس محبوسة بتحارب علشان تخرج ويدخل مكانها أنفاس ، قلوب نبضاتها بتجري زي الخيل في حلبات السباق ، عيون مبرقة ، وصمت ، استسلاماً للمجهول …
عشر دقايق وسط عاصفة صامتة من الرعب والذهول لغاية ما العربية وقفت فجأة ، وقفت أودام نزلة الأموات ، البيوت على إيدك الشمال ، والنيل والزراعات على ايدك اليمين ، العربية بطلت ، أمان الأبواب اتفتح ، أحمد نزل من العربية جري ، وجاب اللي في بطنه من كتر ما هو مرعوب ومخضوض ، ميريام قاعدة في العربية بتترعش ، ومتنحة في اللا شيء …
تخيلت الموقف ؟ لو مكانهم هتعمل إيه ؟ خليني بقى اوصفلك الأجواء …
مبدئياً كدة ، الجو كان العصر ، الشمس نفسها مش باينة ، السما صفرا ، تحس كدة وكأن الأجواء متربة ، البيوت معظمها مبني من الطوب الني ومتليسة بالطين ، فلونها الأصلي ما بين البيچ الفاتح والغامق ، لكن مغطيها هباب اسود ، وكأنها محروقة ، هو في الحقيقة مش معظمها ، هي كلها كانت بالشكل دة ، عدا بيت واحد على مرمى البصر في اتجاه المدافن اللي كانت بنفس الوصف كدة … ميريام نزلت من العربية …
- أحمد … أحمد
- أيوة يا ميريام
- بص يا أحمد
- فيه إيه
- المية واقفة
- مية إيه ؟
- أحمد النيل مش بيتحرك ، الزرع مش بيتحرك ، الزرع كله لونه أصفر ، الناحية التانية فاضية وكلها صفرا ، أحمد فيه إيه ؟ إحنا فين ؟ بص البيوت ، تحس إنها محروقة كلها ، مفيهاش حد أصلاً ، اسمع كدة … مفيش صوت هوا حتى
- طيب ممكن تهدي ؟ ممكن ؟ بصي يا ميريام ، إحنا في واقع ، يعني مفيش مفر ، لازم نواجه
- يعني إيه يا أحمد ؟
- يعني مفيش إمكانية نمشي دي ، إحنا متساقين لغاية هنا لسبب معين ، ولسة منعرفوش ، فاهدي علشان نعرف نفكر ونتصرف
ميريام بصتله بصة المُجبر المغلوب على أمره ، كلامه منطقي ، مفيش مفر من مواجهة المجهول فعلاً …
كل البيوت زي ما قولتلك تحس إنها محروقة ، عدا بيت واحد بعيد ناحية المدافن ، لما أحمد شافه قرر إنهم يروحوله ، بما إنه الوحيد المميز …
طول الطريق للبيت ، كانوا بيمروا بين بيوت القرية ، وكان من الواضح إن البيوت كلها مهجورة ، ومنها بيوت كتير بدون أبواب ، وبيوت تانية بدون شبابيك ، وبيوت بدون الاتنين …
لكن كان فيه حاجة بالنسبالهم غريبة ومميزة جداً لا تقبل الشك …
- أحمد
- ها
- إنت حاسس وسامع زيي ؟
- إنتي سامعة ؟!
- أيوة يا أحمد جداً
صوت همس وهمهمة مش مفهومة طالعة من كل بيت بيعدوا جنبه ، الصوت كان بيبتدي بمجرد ما يكون بينهم وبين البيت خطوات ويختفي بعد ما يعدوه ، وهكذا مع مرورهم بكل بيت ، إنت متخيل !
- أحمد
- روشتيني يا ميريام ، فيه إيه ؟
- الوقت مش بيمشي
- يعني إيه ؟!
- يعني إحنا لينا أكتر من ساعتين ونص يا أحمد من وقت ما وصلنا ، الجو لسة عصر زي ما هو ، أحمد الساعة واقفة على تلاتة
أحمد بص في ساعته ، الساعة واقفة فعلاً على تلاتة …
- إحنا برة الزمن يا ميريام
- يعني إيه ؟!
- إحنا في بعد تاني
- يعني إيه بعد تاني ؟!
- يعني إحنا نايمين أو مغمى علينا يا ميريام
ميريام بصت لأحمد نظرة إنت مستوعب اللي بتهذي بيه دة ، أو إنت سامع إنت بتقول إيه ، إنت مصدق نفسك …
- أيوة ، في قوة معينة خرجتنا من أجسادنا ونقلتنا لبعد تاني أعلى من البعد اللي إحنا مستوعبينه وعايشين فيه ، علشان نعمل حاجة معينة ، بس مش عارف إشمعنى إحنا
- يعني اللي بتقوله دة عادي ، ومستغرب بس من إشمعنى إحنا ؟!
- هو دة التفسير الوحيد يا ميريام
طول الطريق للبيت الوحيد المختلف ، صوت الهمس والهمهمات مستمر وبيتنقل من بيت لبيت ، الصوت كان وكأنه مخنوق ، بالرغم من إنه مش مفهوم ، وبالكاد مسموع …
ومع قربهم من البيت ، كان بيدور في ذهنهم سؤال …
هو إحنا المفروض نعمل إيه لما نوصل ؟ نخبط ؟
بفاصل خمس خطوات بينهم وبين البيت ، وقفوا وبصوا لبعض و …
الباب اتفتح فجأة وبمنتهى الهدوء ، علشان تظهر وراه مفاجأة أغرب من الخيال ، بس المرة دي مفقدوش الوعي ، برقوا وتنحوا ومنطقوش …
إنتهى الجزء الثاني
لا … أرجوك .. انت وقفت عند اكتر جزء مثير ..
ده حديث العقل لما بيقرا جزء من اجزاء قصص الكاتب المبدع أحمد شمندي.. حقيقي نقلة نوعية في عالم القصص حيث الكلمة تتجسد في صورة مشهد حي و متحرك.. منتهي البراعة في الكتابة و الوصف أفضت إلي إثارة و حماس لا متناهي في عقل القارئ.. حقيقي أبدعت