لماذا توقف قرَّاء الفانتازيا العرب عند تولكين ؟
في العام ٢٠٠١ عُرض كُلًّا من “سيد الخواتم lord of the rings “، و”هاري بوتر وحجر الفيلسوف harry potter and the philosopher’s stone” في العالم العربي بالتوازي مع عرضهم في الخارج.
لحسن الحظ فإن الإنتاج السنيمائي الهوليودي بالذات يأتنا لنستهلكه في الوقت نفسه الذي يتم استهلاكه عالميًّا.
ومع صدور الفيلمين جاءت انفراجة صغيرة لعالم ثري من الخيال الفانتازي الذي يزخر به الأدب الغربي، وقد تحول إلى صورة مرئية.
النجاح الكبير لكلا الفيلمين صنع تعطشًا عند البعض لأن ينغمسوا أكثر في تلك العوالم السحرية. المحظوظون الذين يستطيعون القراءة باللغة الإنجليزية استطاعوا على الفور -منذ الأجزاء الأولى لكل من السلسلتين- الحصول على الكتب، وإرضاء الفضول، واستيعاب حجم العوالم التي صنعها “تولكين Tolkien” في فانتازيته الملحمية “سيد الخواتم lord of the rings “، والفانتازيا الموجهة للأطفال واليافعين الموجودة في كتابات “جي. كيه. رولينج J.K rowling” كاتبة سلسلة “هاري بوتر Harry Potter”.
من أمسك يومها بكتابٍ لـ”تولكين Tolkien” وقرأه لم يستطع أن ينفك من براثن تلك العوالم الخيالية المذهلة؛ حيث أن ما قُدم على الشاشة -بكل النسخ الممتدة التي جاءت بعد ذلك- لم يستطع أن يلم بكل تفصيلة من التفاصيل التي وُجِدت في الكتب.
لحسن حظ القارئ العربي أنه -وبعد عدة سنوات- من عرض آخر أجزاء السلسلة صدرت الطبعات العربية المترجمة لذلك العالم؛ ليأسر مرة أخرى قلوب قراء العربية. بينما جاءت ترجمة “هاري بوتر Harry Potter” بشكل أو بآخر “موازية لأجزاء أفلامه على مدار سنوات، حتى عند صدور آخر فيلم من سلسلة “هاري بوتر”؛ كان محبي السلسلة في العالم العربي قد قرأوا الترجمة قبل الفيلم بسنوات.
ثم جاءت “ملحمة نارنيا Chronical of Narnia” التي لم تنل نصيبًا من النجاح على الشاشات الكبيرة وإن توقع لها النجاح. وقد حصلت على ترجمة للغة العربية سعد بها قراء الفانتازيا.
ومع تباطؤ هوليود عن إنتاج أفلام فانتازيا ملحمية مبنية على روايات، وتفضيلها إنتاج أفلام للأبطال الخارقين، أو إعادة إنتاج أفلام كلاسيكية برؤية جديدة؛ فقد توقف الناشر العربي عن محاولة ترجمة أي إنتاج فانتازي لم ينل نجاحًا سنيمائيًّا. حتى جاء بالطبع “أغاني الجليد والنار Songs of Ice and fire”، المسلسل التي أنتجته شبكة HBO تحت عنوان “لعبة العروش Game of thrones” ليُترجم هو الآخر ترجمة مميزة جدًا.
ولكن ما الذي يعنيه ذلك للقارئ العربي المهتم بالفانتازيا؟
دعنا أولًا نتفق إلى أن هناك تعطش كبير للفانتازيا عند القارئ العربي. من أبسط الدلائل على ذلك النجاح الكبير للكاتب “عمرو عبد الحميد” في ثنائيته “أرض زيكولا” وثنائيته “قواعد جارتين”، ومن قبلها جاءت رواية “الغول الأحمر الأخير” للكاتب “محمد الدواخلي” التي سُوِّقت على كونها فانتازيا عربية؛ في حين أنها لم تكن تمت بصلة لذلك النوع من الكتابات، بل هي “خيال تاريخي”.. ولكن لمجرد اقتران اسم الكتاب بالفانتازيا استقبله القراء بأذرع مفتوحة، وعيون نهمة، وهو ما لا يقلل من محتوى الرواية في ذاتها؛ لكنها ما تزال بعيدة عن الفانتازيا. إذن فهناك إقبال من القارئ، وبالتأكيد هناك إقبال من الكتاب وإن كان بطيئًا مقارنة ببداية موجة أدب الرعب التي تكتسح سوق القراءة العربي الآن.
من أين نبدأ؟
مؤخرًا كنت قد أنهيت رواية “ملوك الوايلد kings of the wyld” للكاتب “نيكولاس إيماس Nicholas Eames” وهي أول أعمال الكاتب، وصدرت في عام ٢٠١٧، وحققت نجاحًا كبيرًا، وأتبعها بجزء ثانٍ صدر في ٢٠١٨، وثالث يعد قراءه أنه سيصدر قريبًا.
تميزت تلك الرواية أنها تُحطم كلاشيهات الفانتازيا التي اعتاد عليها القارئ الغربي. وهنا ستكمن أكبر مشاكل أي ناشر سيحاول تقديم تلك الرواية الحديثة لقارئ يقرأ حصريًّا باللغة العربية؛ فقراؤنا توقفوا عند تولكين وكلاسيكياته، وأحدث ما وصلوا له هو “هاري بوتر”، و”أغاني الجليد والنار” التي لا تُعتبر حديثة برغم عدم اكتمالها بعد؛ لأن الجزء الأول الذي يحمل عنوان “لعبة العروش Game of thrones” بدأت كتابته في الثمانينات، ونُشرت عام ١٩٩٦.
وفي الوقت نفسه يتحدث الكاتب “نيكولاس إيماس” سالف الذكر عن أنه متأثر بكاتب مثل “باتريك روثفوسPatrick Rothfuss” وهو كاتب فانتازيا مهم للجيل الحالي، صدر له عدة روايات فانتازية أهملها رواية “اسم الريح The name of the wind” -أول أعماله- التي صدرت عام ٢٠٠٧.
وبذكر الكتاب المعاصرين فأقل من القليل يعرف واحد من أهم كتاب الفانتازيا المعاصرين “براندن ساندرسون Brandon Sanderson” صاحب ثلاثية “مولود الضباب Mistborn”، والفانتازيا الملحمية “أرشيف أضواء العاصفة The Stormlight Archive“، والذي أوجد واحد من أهم كتابة القواعد في كتابة الفانتازيا الحديثة وهو “نُظم التفريق بين نظامي سحر مهمين”: “السحر الجامد hard magic” و “السحر اللين soft magic”.
باختصار فإن “السحر اللين soft magic” نجده في كتابات مثل كتابات “تولكين” حيث لا نستطيع تحديد ملامح وقدرات هذا النوع من السحر بالضبط. فقدرات الساحر “جاندلفGandalf” تتطور وتتطور حسب احتياجات الحبكة؛ فأنت لا تعرف تمامًا متى ينضب هذا المعين من السحر ومتى سيقف “جاندلفGandalf” عاجزًا عن فعل شيء.
بينما “السحر الجامد hard magic” فله إطار محدد، يستطيع القارئ أن يعرف بالضبط متى يمكن استخدامه لحل عقدة في الحبكة، ومتى يصير بلا أي فائدة.
إذا كنت من متابعي الأنمي ستتعرف على ذلك النوع من السحر سريعًا كما ظهر في أنمي “الخيميائي الفولاذي Full metal alchemist” فمنذ بداية الأحداث أنت تتعرف على قواعد الخمياء، فأنت لا تستطيع أن تحصل على شيء من العدم، ولا يمكنك خرق تلك القواعد أبدًا.
ومثال آخر من عالم الخيال العلمي فهو “قواعد الروبوتات الثلاثة Three Laws of Robotics” عند “إيزاك أزيموف Isaac Asimov“، وبالطبع في كتابات “ساندرسون” نفسها. وبالطبع مصطلحات كتلك وقواعد كتلك لم تصل لنا بعد.
“ساندرسون” يربط بين جيلي فانتازيا، وقد تجسد ذلك في كونه هو من أكمل كتابة سلسلة “عجلة الوقتthe wheel of time” فتلك السلسلة بدأ كتابتها “روبرت جوردنRobert Jordan” في عام ١٩٨٤، ونُشرت أول أجزائها بعنوان “عين العالمeye of the world ” عام ١٩٩٠. وكان من المخطط أن تكون مكونة من ١٢ جزء، ولكن جوردن توفي عام ٢٠٠٧ بعد أن أنهى أحد عشر جزءًا فقط، ولكن لحسن الحظ فقد ترك الكثير من المخطوطات توضح كيف يرغب في إنهاء السلسلة لتُقرر عائلته وناشره إحضار “براندن ساندرسون” ليُكمل تلك السلسلة التي كان يومًا ما قارئًا ومعجبًا بها فقط، ولضخامة أحداث تلك السلسلة فقد احتاجت ثلاثة كتب آخرين لم يقل كل واحد منها عن ٣٠٠ ألف كلمة! ليُنهي ملحمة “عجلة الوقت The wheel of time”.
ولاقت الأجزاء التي كتبها “ساندرسون” استقبالًا إيجابيًّا، وسعادة من القراء الذين بدأوا الرحلة منذ ١٩٩٠.
من الممكن أن نرى ترجمة لذلك الكتاب قريبًا حيث أن “Amazon” قد حصلت على حقوق تحويله لمسلسل في حجم “لعبة العروش” بالاشتراك في الإنتاج مع شركة شركة “Sony”.
هناك مقولة في عالم كتاب الخيال العلمي والفانتازيا في الغرب أن هوليود دائمًا متأخرة بمقدار من عشر لعشرون عامًا عن الأدب المكتوب.
بمعنى أننا حين رأينا سلسلة “حرب النجوم Star wars”، وحققت نجاحها المُبهر؛ كانت كتابات حروب الفضاء المنتشرة كروايات وكقصص قصيرة في المجلات الصغيرة التي لم تعد رائجة منذ عشر سنوات، وكان وقتها “السايبر بنك cyberpunk” هو السائد في سوق الأدب، بالتأكيد لم نره على الشاشات إلا بعدها بعقد آخر وهكذا دواليك.
وبالطبع بعد أن ينجح الفيلم في صورته الهوليودية يأتي الناشر العربي يأخذ المصدر الذي مر عليه عشرة أو عشرين عامًا ليقدمه للقارئ العربي كأحدث كتابات الفانتازيا ونظل دائمًا في آخر ركب الخيال. وإذا حاول أحد الكتاب المطلعين على الفانتازيا الغربية الحديثة إخراج عمل أدبي على نفس سياق ما يُقدم حاليًا للقارئ الغربي سيشعر القارئ إحساسًا غير مسبوق بالغربة، وحين يحاول تقديم نوعية مختلفة مثل الفانتازيا الكوميدية التي قدمها “تيري براتشت Terry Pratchett” منذ زمن بعيد في سلسلة “عالم أسطواني” (قد يتعرف القارئ الآن على أحد أعمال براتشيت “علامات جيدة Good omens” حيث قدمتها أمازون برايم وحقق نجاحًا جيدًا هذا العام) فلن يتقبل منهم القراء حيث أن خلفياتهم الثقافية لا تحوي على تلك القواعد والكليشيهات التي يحاول السخرية منها.
بعد كل ذلك نجد إجابة السؤال جليًا لماذا توقفنا عند تولكين؟
يواجه سوق النشر الكثير من المصاعب مثل استمرار القراء العرب في استهلاك الكتب المقرصنة عوضًا عن شراء الكتاب المطبوع؛ بالتالي أي ترجمة سيحاول الناشر الحصول على حقوقها يجب أن يضمن لها جمهورًا عريضًا، يضمن له نسبة لا بأس بها من المبيعات حتى في حالة قرصنة الكتاب، وبالتأكيد أكبر ضمان لذلك وجود فيلم ناجح شاهده الملايين مرتبط باسم الكتاب.
في النهاية وبالرغم من حركة ترجمات مميزة بدأت منذ أعوام؛ ولكنها ما تزال ترتكز بشكل رئيسي على الكلاسيكيات الأدبية التي لا يحتاج الناشر الاستثمار في تحصيل حقوقها -حيث أنها بلا حقوق بعد مرور عدد من السنوات على أول إصدار- وإن غامر بعض الناشرين بترجمة إصدارات حديثة؛ نسبيًّا فإنهم ما زالوا يراهنون على أدب اليافعين، وروايات الرعب التي يكاد سوق الكتاب أن يتشبع بها إن لم يكن قد تشبع بها بالفعل!
نحن نحتاج حقًا لتلك الترجمات حتى وإن تسارعت وتيرة تقديم الفانتازيا العربية من كتاب شباب قادمين حتى نُقدر تميز مجهوداتهم. فقد كان لنا سبقًا في الخيال الفانتازي في الأساطير الشرقية كـ”ألف ليلة وليلة”، وكل حكايات الخوافي، لكن أين نكون الآن في ساحة عالم الخيال؟