ما وراء “ما وراء الطبيعة”
هو واحد من الأعمال التي تجد الشغف المصحوب بانتظاره إما صفريًا، وإما يفوق أي شغف سابق.. كذلك ردود الأفعال المتوقعة؛ إما أن تكون ثناءً مطلقًا، وإما أن تكون قائمة من التحفظات التي لا تقترح تحسينًا أو تعديلًا في المواسم القادمة.. فحين نتحدث عن واحدة من أشهر مطبوعات جيل الشباب، ومنصة Netflix الأشهر في العالم، فالأمر أشبه بالمعركة؛ حيث لا توجد آراء وسطية، ولا مجال للحياد.
والحديث عن “ما وراء الطبيعة”، وهي سلسلة روايات “جيب”، تتحدث عن دكتور “رفعت إسماعيل”، وهو طبيب أمراض دم ساخر ومتشكك لا يؤمن بالخرافة، ويخوض العديد من المغامرات التي تنتمي لعالم الميتافيزيقا، ولا يمتلك سلاحًا في هذه المغامرات سوى حظه الذي يبدأ عاثرًا، لكنه ينهض مع الأحداث وينقذه في نهاية كل مغامرة، وبين بعض الذكاء الفطري ورغبة منه في النجاة.
“ما وراء الطبيعة” هي السلسة الأكثر نجاحًا ومبيعًا في الوطن العربي خلال الثلاثين سنة الماضية، وهي السلسلة الأولى من نوعها والتي تقدم جميع أنواع الرعب باللغة العربية دون أي نصوص مترجمة.. أتذكر طابورًا طويلًا أقف فيه منتظرًا ورود الأعداد الجديدة من السلسلة، لا أتحدث مع أحد من الواقفين، ولكن تجمعنا نظرة واحدة، وتساؤل مشتاق: ما طبيعة المغامرة التي سيخوضها رفعت إسماعيل هذه المرة؟
ولعل هذه البداية الأكثر ذكاءً من “نتفلكس” للأعمال الأصلية المصرية، فالمسلسل قائم على روايات لكاتب صاحب الشعبية الأكبر بين قراء مصر، والروايات نفسها محفورة في أذهان حوالي ثلاثة أجيال متعاقبة، مع نجم محبوب مثل “أحمد أمين” وأحداث لا تقترب من التابووهات العربية في المشاهدة على عكس خريطة أعمال نتفلكس التي تتضح في أعمال مثل The Elite، وLuifer.. فبالتأكيد هذه التجربة هي بداية مثالية.
ولكن كل هذه المزايا لا بد أن يكون لها ثمنًا، وتحديًا يجب أن يخوضه صناع المسلسل للنجاة بهذا القارب الفخم المزين بحب الجمهور وترقبهم..
(ملحوظة: بشكل شخصي متفائل بالعمل، وبكونه بداية لأعمال أخرى تستند على أعمال أدبية، وخاصةً للراحل أحمد خالد توفيق، وبوجود ممثل أؤمن بمشروعه مثل أحمد أمين.)
(1)
غياب العراب
صحيح أن رحيل دكتور أحمد خالد توفيق عن عالمنا كان صادمًا ومؤلمًا للجميع، لم يترك الخبر عَبَرة حبيسة عين إلا وأخرجها، إلا أنه كان مؤشرًا عظيمًا وعرفانًا بمكانة هذا الرجل، وتقديرًا كان أحق أن يحصل عليه وهو بيننا.. الأمر الذي لفت أنظار جميع المصريين إليه، وليس مجرد مجتمع قراء “العراب” كما يلقبوه.. وأظهرته في مكانة “كاتب الشباب” الأجدر بأن تحوَل أعماله لدراما بدأت من مسلسل “زودياك” الذي انطلق من فكرة أحد كتبه “حظك اليوم”، ومرورًا بما وراء الطبيعة، وإلى ما يشاء الله من أعمال قادمة أخرى ستخلد ذكري أحمد خالد توفيق.
ولكن هذا الغياب بقدر ما أظهر حب الناس وتقديرهم، إلا إنه – من وجهة نظر فنية بحتة- سيكون تحديًا أمام صناع العمل، وسيفقد العمل ثقلًا أتمنى ألا يفقده.
(2)
صراع أزلي
المشكلة الثانية هي صراع تاريخي بين اللغة الفصحى والعامية، فحوار “ما وراء الطبيعة” كان ينتمي للغة الفصحى البسيطة، التي تنتقي أسهل ألفاظ المعجم العربي وتصيغها في جمل سلسلة قصيرة، دون تشبيهات معقدة أو تراكيب مكلفة لمجهود القارئ مما قد يثنيه عن استقراء الأحداث ولا يعطل سلاسة الحبكة.. ولكن هذه اللغة هي عقبة في طريق المسلسل الذي سيقدم بالعامية المصرية لا محالة.. مما سيفقد النص بعضًا من جمله الشهيرة.. مثل “حتى تحترق النجوم..”، ومثل “بك أسعد ولك قلبي يطرب”.
وهنا سيواجه النص الحواري مشكلة ما بين الإتقان والافتعال، وكذلك بسبب طبيعة العمل الذي ينتمي لأدب الرعب، والذي لا توجد له قواميس أو مراجع قوية في ذهن صناع السينما والدراما، ولا في ذهن المشاهد.. هذا الأمر سيجعل صياغة الجمل تحديًا صعبًا.. حتى لا تقع في فخ الصياغات الغريبة والمنفرة للأذن.
(3)
طبيعة البطل
طبيعة تجسيد شخصية رفعت إسماعيل نفسها هي طبيعة “داخلية” أكثر من كونها تعبيرات يمكن ترجمتها لإشارات وانفعالات بعينها، فهو شخصية قليلة الانفعال، أغلب خواطره تنبع من نفسه وينقلها للقارئ سرًا دون إخبار المحيطين به، لديك مزحة مثل “البذلة الكحلية التي تجعلني أبدو فاتنًا”؛ هي مزحة بين رفعت والقارئ، وسيصعب نقلها من رفعت إلى المشاهد من خلال جملة حوارية بعينها، إلا إن كسرنا الحائط الرابع أو أخذ الكاتب الأمر تحديًا ووجد له منفذًا مُبتَكرًا.
كما أن شخصية رفعت هي نموذج “عكس البطل” والتي تكون كل صفاتها مخالفة لما تعلمناه عن أبطال القصص والروايات المثاليين في كل شيء، ويعوض هذا بتعليقات وتأملات ساخرة ونظرة مختلفة للحياة لا تظهر لمن هم حوله.. وهنا يظهر تحدٍ كبير بنقل هذه السمات للشاشة دون أن تصبح مملة أو منفرة لمشاهد يبحث عن الإبهار في كل مشهد..
فإن لم تكن من قراء السلسلة، ولم ينجح السيناريو في نقل الصفات الممتعة الكامنة في عقل “رفعت إسماعيل” وفلسفته الحياتية، لوجدت نفسك أمام عجوز ملول مدخن مصاب بأمراض العالم!
(4)
خيال القارئ
أما التحدي الأخير والأهم في رأيي، فهو ما يخص مخيلة القارئ، القارئ الذي ظل لعقود يتخيل شخصية رفعت ولوسيف وماجي وعزت وغيرهم، وظل يغذي مخيلته بتصميم خاص في عقله للأماكن ولطريقة الحركة ولطريقة إلقاء الحوار، ومخيلة القارئ لا تخضع لظروف إنتاجية ولا لأسعار الممثلين والفنيين، ولا لأي عوامل أخرى سوى متعته الشخصية.. ناهيك عن كون التصور فرديًا وليس جمعيًا لكون الروايات عملًا مكتوبًا بشكل كامل، ولم تظهر من نسخته الأصلية أي رؤية فنية للمرئيات، باستثناء بعض الأغلفة والقليل من الرسومات الداخلية.. وأظن هذه المخيلة كانت العائق الأبرز في عدم تحويل السلسلة لمسلسل في وجود العراب، والذي بالطبع سيكون سعيدًا متحمسًا مثلنا لهذه الخطوة.