طلاسم

متلازمة اللكنة الأجنبية

متلازمة اللكنة الأجنبية
متلازمة اللكنة الأجنبية .. “هناك مناطق أشد ظلمة في مصطلح اليأس، يمكنها أن تحيل حياتك لمشهد رعب متكرر”

“دكتور جلال .. دكتور جلال، مفيش في المستشفى كلها غير دكتور جلال، يا سيدي عندك دكتورة إيمان ودكتور صفوت، اشمعنى أنا اللي بتندهلي أستلم كل الحالات، أديني جيت أهو خير يا عم عبده فين الحالة الجديدة؟”

رد عم عبده متبسمًا ناظرًا لأسفل في حياء” يا دكتور جلال ما أنت عارف هما بيعملوني ازاي، دكتورة إيمان بتخانق دبان وشها، ودكتور صفوت بيجر رجليه بالعافية وطول الوقت بيتأخر، وأنت عارف لما بنتأخر فاستلام وتسكين الحالات الجديدة، دكتور خالد بيخصم للكل، أبوس إيدك تعالي بسرعة أحسن الحالة الجديدة دي غريبة على الأخر وسايبها في المكتب مع رضوان التمرجي الجديد هي وأهلها”

طبطب جلال على كتفه وابتسم “أنا بهزر معاك يا راجل يا طيب، يلا بينا”

*الحالة: لينا الباجوري، ٢٥ سنة
مصابة ب متلازمة اللكنة الأجنبية*

“مساء الخير أنا دكتور جلال، دكتور مساعد ونائب المدير، أهلا بحضرتك يا باجوري بيه عارف حضرتك من التلفزيون، صاحب أشهر معارض سيارات في مصر، أتفضلوا تشربوا أيه”

كان يغزو ملامح الأب والأم القلق والتوتر الواضح في تحركاتهم وتلعثم حروفهم حتى جلسا مصوبين أنظارهم تجاه دكتور جلال، نظرة غريق يتعلق بأي أمل متاح.

تحدث الأب وهو في عجلة من أمره متلهفًا خائفًا على أبنته ” طمني يا دكتور، التقرير اللي قدامك ده بتاع الطبيب النفسي اللي جه البيت ولما جاب اخره قالنا لازم مصحة، عشان كده أنا جبتها أفخم مصحة( مشيرًا بأصبعه للأعلى في تباه) عشان تتعالج كويس، أنتوا كنتوا ترشيح دكتور مؤنس الفيشاوي)” قال كلمته بزهو لا يتناسب مع انكسار يبدو في عينيه.

“طبعًا طبعًا يا باشا دكتور مؤنس أستاذنا كلنا، والله التقرير بيقول أنها مُصنفة هلاوس ومتلازمة لكنة أجنبية، على ما حضراتكم تخلصوا العصير هتكون غرفتها جاهزة جناح كبير زي ما طلبتوا، ومن بكره الصبح هكشف عليها بنفسي وأعمل التحاليل والاختبارات اللازمة، ودلوقتي هنتكلم شوية عن بداية الحالة وطريقة التعامل اللي حصلت الفترة اللي فاتت عشان أكون صورة واضحه، وهل فيه خلافات عائلية وغيره أو لا”

بينما نتحدث جلست (لينا) بكل هدوء عينيها مثبتة على الأرض، لا يبدو عليها علامات لأي مرض نفسي، أنيقة وذات شعر ناعم يغطي وجهها رقيق الملامح، كانت تخطف نظرة مضطربة لدكتور جلال من حين لأخر، ومثلها للغرفة، ولكن تعود للأرض سريعًا.

قال والد (لينا) “كل حاجه عايز تعرفها هتلاقيها في الملف بتاعها اللي عامله الدكتور مؤنس، عشان تقصر وقت علينا وعلى نفسك، بس أختصارًا هي صحيت من النوم فاجأه كده بتتكلم لغه غريبة والبيت كله جاله ذعر، كلمنا الدكتور وجه أداها مهدئ ونامت صحيت كويسة ومش فاكرة اللي حصل، بس الموضوع بقي يتكرر تاني كتير ومحدش عارف أيه اللغة اللي بتتكلمها دي أصلًا مش حتي ممكن تكون أتعلمتها، لأن جبت واحد من مكتب الترجمة عارف اللغات كويس قال إن دي أكيد من اللغات الميتة لأن مفيش لغة من اللغات الحية شبه كده، جبت لها كل الدكاترة وحتى أمها جابت لها مشايخ، مع أني كنت معترض، بس من كتر زنها قلت نجرب جايز فيها حاجه، وأنا راجل كبير في السوق ومعروف وليا أعداء، قلت يمكن حد عملها عمل ولا حطلها دوا وهي مش واخده بالها في أي حته، لحد ما جبت الدكتور مؤنس كان صديقي وفيه ما بينا شراكة زمان كمان، قالي أن دي حالة معرفة اللي انت قلت عليها دي وهتاخد وقت بس هتتعالج وفعلًا قعدت فترة بعد علاج دكتور مؤنس كويسة، بس رجعتلها الحالة تاني ويمكن أوحش، لأنها بقت بتصرخ وأنها شايفة حاجات شكلها غريب بتقرب عليها.
وبقت حالتها يا أما بتتكلم لهجه غريبة، يا إما عربي بس شايفة خيالات وعفاريت، دكتور مؤنس قالي أنه هيكمل علاج وجلسات معاها بس أنا قولت له لا أنا هوديها مصحة كبيرة دي محتاجه رعاية أكبر من البيت، والبركة من عند ربنا وفيكو يا دكتور”

أحس دكتور جلال بإحساس غريب ولكنه معتاد على مثل هذه الحالات الغريبة والنادرة، رد بابتسامة مطمئنة وقال للأب “متقلقش يا باجوري بيه كل حاجه هتبقى تمام وبنت حضرتك هتبقى كويسة، تقدروا تمشوا وتيجوا زيارة أي وقت من اللي متحدد في الجدول ده”
سلمهم (جلال) ظرف به أرقام التليفونات ومواعيد الزيارة وقوانين الدار والمستلزمات التي يجب تواجدها مع المريضة.

في الصباح الباكر، ذهب (جلال) ليبدأ أولى جلساته مع (لينا) التي كانت تتحدث بلكنة غير مفهومه ولكنه أعطاها دواء يساعد المخ علي الاسترخاء، وعاد إليها ليتحدث معها، وكانت هادئة وتحدثت معه بالعربية العامية،
تنهدت ثم قالت ” أنا مكنتش متوقعة أن كل ده يحصل، بس أنا مش فاهمه بيحصلي أيه” توقفت كلاماتها بسبب دخولها في نوبة بكاء عاتية، مما أضطر (جلال) لإنهاء جلسة العلاج وأمر الممرض (رضوان) أن يعطيها مهدئ.
في مساء ذات اليوم، ذهب لجلسة أخرى مع (لينا) التي كانت تتحدث بلكنة غريبة وتشير إلي زوايا الغرفة برعب شديد وهي منكمشة في سريرها، طمئنها (جلال) بأنه لا يوجد شيء وأخذها خارج غرفتها بصعوبة من شدة خوفها ذهبا سويًا لحديقة المشفى وجلسا وهي تتلفت حولها في رعب وتقول” مش هيسبوني غير لما أموت، هيموتوني”

قال لها (جلال) مطمئنًا ” متخافيش المستشفى هنا أمان محدش هيقدر يأذيكي”

أبتعدت عنه خطوة للخلف وقالت برعب ونظرات تحدي” حتى أنت ممكن تبقي منهم وعايز تموتني، المستشفى مش أمان مفيش مكان أمان منهم، دول موجودين في كل مكان، أنا لازم أنهي حياتي بنفسي قبل ما حد ينهيها”

تدخل الدكتور(جلال) والممرض (رضوان) وأعطاها مهدئ مرة أخرى لتذهب في ثبات عميق، وتم ربطها في سريرها حتى لا تنفذ فكرة الانتحار.

وكتب (جلال) في تقريره أن الحالة، متلازمه اللكنة الأجنبية وميول انتحارية وأنفصام من الدرجة الثانية، ثم كتب خطة العلاج المقترحة التي يجب أن يتم التصديق عليها من طرف مدير المصحة.

في صباح اليوم التالي، عندما ذهب (جلال) للمصحة وجد حالة إستنفار غير معتادة وكان السبب هو أن (لينا) ليست في فراشها، ويبحثون عنها بكل مكان، قال (لرضوان) وهو في حالة غضب شديدة ” يا رضوان مش أحنا ربطناها في سريرها أمبارح أيه اللي حصل فكت أزاي ولا أنت فكتها”

قال (رضوان) ” يا دكتور أنا صحيت على صوتهم وأنها مش في أوضتها بعد ما دخلت الست اللي بتنضف وملقتهاش، دي كمان الباب كان مقفول بالمفتاح عليها من برة”

جلال وعلى وجهه علامات الاستغراب” كلامك ده بيخلي الموضوع شكله أوحش وأحنا اللي في وش المدفع، أنت مش عارف دي مسؤولية كبيرة أزاي، لازم نلاقيها وإلا المدير وأبوها هيسجنونا دور في كل شبر”

بعد وقت طويل يقرب من نصف اليوم وجدوها في غرفة التنظيف منكمشة وراء الأدوات ترتجف خوفًا وتبكي وجهها باهت من الخوف والجوع بكل تأكيد، أخذتها الممرضات وأهتموا بها من أستحمام ومأكل ومشرب، وذهب لها (جلال) وكانت هي أفضل حالٍ من ذي قبل للتحدث معها،
جلس وقد احضر بضع اختبارات نفسية، وتجاوبت (لينا) معها وتكشفت له بعض الحقائق، أن هناك عنف منزلي في منزل (لينا) كان يضربها أبوها ويضرب أمها، وبالرغم من كون (لينا) أبنته الوحيدة إلا أنه لم يكن يقضي معها وقتًا كافيًا كأب، وذلك الوقت المتواجد به يُعنف كل من بالبيت، ويظهر للأخرين أنه الأب المثالي.

مرت ثلاث شهور و(لينا) بالمصحة ما بين زيارات أهلها كل أسبوع وبين الاختبارات والعلاجات وبين بعض الأشياء العجيبة مثل تواجد لينا بأماكن متفرقه من المستشفى في أوقات متأخرة من الليل بالرغم من التأكد من قفل باب غرفتها جيدًا، ومراجعة الكاميرات تجدها تخرج من غرفتها وكأنما الباب غير مُقفل بينما المقطع السابق له يبين رضوان يقفل بالمفتاح، كان يبدو على دكتور (جلال) اليأس لعدم تحسن حالتها،
ولكن جاء اليوم الذي تنكشف به حقيقة الأمر، لماذا لا تتحسن لينا؟
قال (جلال) (لرضوان) في المساء بعد إنتهاء فترة عمله” مش هوصيك يا رضوان تقفل عليها كويس وتجهز الدواء بتاع الصبح ومتخليش أي حد يدخل أو يخرج من عندها، تجيب سريرك وتنام قدام أوضتها علي الأقل تعرف بتخرج أزاي ولا تلحقها قبل ما تعمل في نفسها حاجة”

خرج(جلال) من المصحة وركب سيارته، وفي منتصف الطريق أكتشف أن هاتفه ليس معه، عاد ليأخذه، لم يشعر به رضوان الذي ذهب في ثُبات عميق في غرفته وفراشه الخاص عكس الاتفاق السابق مع دكتور جلال، وكان أيضًا تاركًا كل شيء في حاله فوضى، باب غرفة لينا غير مُقفل، وهناك أدوية غير معروفة في إناء الدواء الخاص بها، ذهب (جلال) مرة أخرى لغرفة رضوان ولكن هذه المرة على أطراف أصابعه، لأن الشك دخل قلبه، وبالفعل وجد في خزانته أدوية مؤذية لمرضى الفصام وتساعد في زيادة حالتهم سوء.
ضربت العديد من الأسئلة رأس (جلال) واندفع الدم في رأسه وجعله يوقظ (رضوان) بلكمة في وجهه أسقطته من فوق سريره وأستيقظ مفزوعًا متسائلًا عما يحدث،
رد(جلال) مقتضبًا وفي حالة انفعال شديد” فهمني بسرعة وإلا هبلغ عنك ونفهم في القسم، أيه قصة الدواء ده وليه مش بتقفل على لينا”

قال له (رضوان) باكيًا متوسلًا “هقولك..هقولك كل حاجة يا دكتور جلال، أنا عبد المأمور بس، من خمس شهور أنا كنت شغال في مستشفى دكتور مؤنس وقالي أنه بيعالج حالة وأنها هتيجي المستشفى هنا، قالي اجي اقدم على شغل هنا وكانوا محتاجين ناس وقبلوني واداني فلوس كتير أوي، وكمان هو كان ظبطني بسرق من المستشفى ومبلغش عني وقالي أنه كده ليه عندي خدمة وهردها في يوم من الأيام وإلا هيبلغ عني بالڤيديو اللي متفرغ من كاميرا المستشفى،
ولما جت (لينا) قالي ابدل الدوا بتاعها بالدوا ده وهيديني فلوس كتير اوي ومش هيفضحني بالڤيديو ويا دار مدخلك شر، وهو اللي كان بيقولي مربطهاش في السرير كويس وأعمل نفسي بقفل الباب عشان الكاميرات لكن هو مش مقفول وعشان كده كانت بتقدر تخرج، معرفش هدفه أيه من كل ده وأنا البنت صعبانه عليا بس أنا بيتي هيتخرب وولادي هيتشردوا لو مسمعتش الكلام”

تركه (جلال) محذرًا بألا يتفوه بأي من هذا الكلام لأحد حتى يعرف ما هي الحقيقة وسبب ما يحدث وقال له أن يطمئن (مؤنس) مثل ما يفعل ولكن هذه المرة يخدعه ولا يضع لها الدواء.
وبعد شهر كانت(لينا) بدأت في التحسن، وأخبرت (جلال)أنها تريد التحدث أليه.

كان سلوكها أفضل مما كانت عليه، وأستقبلت (جلال) بأبتسامة وبدأت في الحديث
“يا دكتور جلال أنا أحب أشكرك عشان أنا بقيت أحسن ومبقتش أشوف خيالات، بخصوص متلازمة اللكنة الأجنبية بقي، دي محتاجة وقت أفهمك فيه بدأت أزاي، اللي حصل أن بابا راجل أعمال وكل همه الفلوس، فاكر أنه لما يديني عربية أخر موديل ولا فلوس وقت ما أحتاج كده هو عمل دوره كأب، مش بس كان بيختفي بالأيام، لا كمان كان لما بيجي بيبقي عصبي جدًا وبيضربني أنا وماما، كنت بقضي كل الوقت في أوضتي مع الموبايل والكمبيوتر بأخد كورسات وأتعلم حاجات جديدة، لحد ما في مرة لقيت لغة مش دارجة وقررت أدور وراها وأتعلمها، وفعلًا أتعلمت منها كام جملة، وقررت أحاول اجذب إهتمام بابا، وصحيت في يوم بتكلم بيها وتصرف تصرفات غريبة، فضل بابا معانا الأسبوع ده مش بينزل وأنا كنت مبسوطة إني بشوف وجه جديد لبابا وبحس أنه أب فعلًا، كانت التمثلية ماشية كويس، لحد ما جه الدكتور مؤنس، واداني دوا مهدئ وقال إني دخلت في اكتئاب وأنا حسيت بكده فعلا وقررت أخد الدواء عشان أنام كويس، بس اللي حصل إني أبتديت أشوف خيالات واحس أن كل اللي حواليا عايزين يقتلوني، متحسنتش غير علي ايدك يا دكتور جلال شكرًا”

أبتسم لها جلال لتحسن حالتها ولكن تدور برأسه عدة أسئلة ولكنه أحس أن (لينا) ليس لديها أجوبة لها، وعلى الشق الأخر كان (رضوان) يبلغ (مؤنس) بسوء حالة لينا ومحاولاتها للأنتحار المتكررة وما إلى ذلك، يبلغه بما يريد أن يسمعه تحت إشرافي.

تحدث مع والد (لينا) هاتفيًا وحدد معه ميعاد، وعندما أتى، أستقبله (جلال) وبدأ الحديث ” أهلًا يا باجوري بيه أتفضل، أنا حابب أطمنك أن حاله(لينا) بتتحسن دلوقتي وتقدر تخرج كمان أسبوع لما تخلص العلاج وتكمل الباقي في البيت، كمان حابب الفت نظر حضرتك أن سبب مرضها جزء كبير منه حضرتك، بسبب العنف الأسري، أتمني لو تحب أساعدك فيه أنا تحت أمرك، الشق التاني هو دكتور (مؤنس) هل فيه عداوة بينكوا؟”

كان (باجوري) ينظر للأرض في خجول ولكنه رفع عينيه عندما سأله عن مؤنس وقال” لا مفيش عداوة دي كانت حاجه قديمة وخلصت، بس انت عرفت منين يا دكتور، عمتا هو كان شريكي بمبلغ كبير في صفقة وخسرت، وأفترقنا بعدها عشان كان شايف إني نصبت عليه، مش فاهم أن التجارة مكسب وخسارة”

(جلال) ” دكتور مؤنس هو السبب في مرض بنتك، وكان بيديها دواء غلط عن طريق ممرض هنا ولازم يتحاسب، بس أنا حبيت أفهم منك الأول، المطلوب أنك تروحله وتسجله عشان نقدر نقدم دليل للشرطة”

وبعد وضع خطة ذكية، نفذها (باجوري) وسجل لمؤنس ومع شهادة (رضوان) والدواء وتسجيلات من رضوان أيضًا، تم الزج به في السجن برفقه تهم أخرى من ممرضات لديه بالتحرش بهن، وتهريب أدوية وبيعها سوق سوداء وظهر كل ما كان خفي عنه.
تحسنت (لينا)، وكان يزور (باجوري) دكتور(جلال) من وقت لأخر في السر لجلسات لتحسين علاقته بأسرته، التي باتت أفضل.

*”الوهم يمكنه أن يصبح أشد فتكًا من المرض”*

اقرأ أيضاً

أسطورة إسون بوشي.. الجزء الثالث

لغز اختفاء مادلين ماكان

زر الذهاب إلى الأعلى