نابش القبور (الجزء الأول)
نابش القبور.. أنا ياسمين الطبيبة بعامي الخامس بكلية الطب، أبي لديه محل بقالة صغير تحت المنزل.. وهو منزل صغير في حارة تدعى “كهرمانة”، كان أبي فخورًا جدًا لأني أول طبيبة تخرج من أحضان تلك الحارة، فكانت تلك الحارة في السابق وكرا لكل الأعمال الإجرامية بمصر.
وفي فترة النكسة وبعد ذلك، كان الفقر والفوضى المظهر السائد في كل أنحاء مصر، فكان انتشار الجرائم آنذاك نتيجة طبيعية مترتبة على ذلك.
نابش القبور
استمر الحال في تلك الحارة على ذلك الوضع حتى عهد قريب، ولكن بعد ذلك تاب أغلب ساكني الحارة.. وقام معظم من هنا بتغيير نشاطهم، فكنت أتقبل فكرة أن أم محمد بائعة الخبز كانت نشالة سابقة، وأن عم مُنجي خطاط الحارة كان مُزور محترف سابقًا.. ولكنها كانت صدمة كبيرة حين علمت وأنا في السادسة عشر من عمري أن أبي كان “نابش قبور”!!
لكنه تاب بمجرد أن وُلدت ولم يقبل أن يصرف عليّ من فلوس حرام.. ولمن لا يعلم من هو- نابش القبور- هو لص القبور، يقوم بسرقة مقتنيات الميت الثمينة التي تُدفن معه مثل الأسنان الذهبية وأي مقتنيات أخرى يُوصي الميت أن تدفن معه.
وبالرغم من أنها كانت صدمة كبيرة ولكنني كنت فخورة بأبي لأنه تاب، كما أن سرقة إنسان ميت لا تقارن بسرقة إنسان حيّ، ففي هذا الزمان يُسرق منا كل شيء تحت أسماء مستعارة.
سرقة الميت
كما أن أبي رفض أن يشتري محل البقالة من مال السرقة وتبرع به بالكامل لأعمال خيرية، بل قام ببيع فدانين كان ورثهما عن أبيه واشترى المحل.
شيء واحد فقط كان يرفض أبي الحديث عنه وهو “أمي” فكل ما أعرفه عنها أنها توفت أثناء ولادتي، كلما اعتراني الفضول لأعرف المزيد عنها كان أبي يتهرب من الإجابة.. كان يعتريني الفضول لأعرف شكلها.. لم نكن نملك لها أي صور.. هل أنا أشبهها؟! هل كانت ستحبني وتحنو عليّ؟! أسئلة من ذلك النوع أحيانًا كنت أود فقط لو أن أعرف إجابتها.. ولكن أبي يتهرب من الحديث دائمًا.
كان يومي يمر ما بين الجامعة والمحاضرات، ثم أعود لأطهو بعض الأطعمة سهلة التحضير.. ثم أجلس لأذاكر بعض المحاضرات لأقضي باقي السهرة أستمع لحكايات أبي، فهو لديه الكثير من القصص المشوقة عن أيام عمله كنابش قبور.. فهو كان ينهب مقابر مختلفة في كل مرة، وكان يسافر للمقابر البعيدة في الصعيد والريف، فتلك المقابر البعيدة والمهجورة يسهل السطو عليها.
قصص وحكايات
كنت أحرص على أن أنهي مذاكرتي باكرًا لكي أقضي أكبر وقت وأنا استمع إليه، كان أبي أبًا رائعًا على الرغم من كل شيء، وإن كانت الأم هي دفء المنزل، فالأب هو عاموده الفقري.. فالحمد لله أن الله ترك لي عامود بيتي وظهري قائمًا.
لا أنسى تلك المرة التي قص لي فيها عن المقبرة التي فتحها فوجد بها رائحة مسك تفوح منها وكان يقسم لي أن النور الذي ينبعث منها كان يضيء المقابر من حوله، على الرغم من أنها كانت ليلة غير قمرية مظلمة تمامًا، فاستحى أن يسرق منها شيء، وذلك القبر الذي بمجرد أن فتحه انبعثت منه رائحة عفن كريهة، قال لي كدت أن استفرغ ورغم أني معتاد على رائحة الموتى ولكن تلك الرائحة كانت مختلفة تمامًا، فاضطررت لأن أغلق التربة دون أن أنهي مهمتي.
وتلك القصة التي قصها لي فظلت عالقة في رأسي حتى الآن.. عن ذلك القبر الذي فتحه في الصعيد وكان يخص واحد من أغنى أغنياء الصعيد، كان غني حرب ومن أكبر تجار الخمور.. قال لي انتظرت بعد دفنه بأكثر من أسبوع، لأتأكد أن لا أحد من عائلته سيذهب إلى هناك، فهكذا هو الإنسان دائمًا ينسى ثم يُنسى!
حارس المقابر
بمجرد أن فتحت القبر في الظلام انبعثت منه رائحة عفن وحريق قوية مثل رائحة احتراق اللحم.. ولكني تلك المرة كنت أحطاط وألبس كمامة وبمجرد أن وجهت ضوء الكشاف باتجاه القبر وجدت ثعبان من نوع “كوبرا” يلتف حول جثته كنت أسمع صوت تكسر العظام، اعتراني الخوف وانتابتني صدمة ورعشة.. صرخت بأعلى صوت ولم أخشى أن يسمعني حارس المقابر، فوجدت الكفن قد انكشف عن وجهه وكان وجهه أسود بدون أي ملامح وكأنه تعرض لحرق ضخم قبل موته!
أخذتني الشفقة به ففي النهاية كلنا مذنبون، وحاولت أن أجمع بعض الأحجار الكبيرة وأصوبها نحو الثعبان لعله يترك جسد الرجل، وبالرغم من أني أصبته لكنه لم يبتعد فتركته له وانصرفت.
وفي مرة ذكر لي أبي أن أغلى ما اقتناه في حياته وجده في قبر، وأن ذلك القبر كان سبب في توبته وهدايته وفي تلك الليلة رزقه الله بي.. لكنه يرفض أن يقص لي تلك القصة وكلما ألححت عليه يقول لي: “ربنا كتبلي التوبة وخلاص”.
كانت بعض الأشياء غامضة في حياة أبي كذكرى أمي، وقصة توبته.. حتى أهل الحارة لا يعرفون شيئًا عن أمي فقالوا لي أنه سافر سفرا طويلا لعمل وعندما عاد كنتي معه وكان عمرك عام وأخبرنا أن زوجته توفت.
صندوق الكراكيب القديمة
مرت الأيام هادئة.. حتى ذلك اليوم الذي كنت أساعده بترتيب المحل وأنقل معه بعض الأشياء من المخزن، حين لفت انتباهي صندوق به بعض الكراكيب القديمة فوجدت صوري وشهاداتي وأنا صغيرة، تركته يرص البضاعة في المحل وجلست أستعيد ذكرياتي حين سمعت صوت يأتي من ذلك الصندوق!!
صوت غناء ينعبث منه ويقول “مع أمي أصحو وأنام مع أمي تصحبني الأحلام”، انتفض جسدي فأنا أشعر أني سمعت تلك الأغنية من قبل.. ذلك الصوت وذلك الغناء محبب لقلبي كأني لم أكن أسمعه للمرة الأولى، فتحت الصندوق لأرى مصدر الصوت فانبعثت منه رائحة طيبة.. ووجدت صندوقا صغيرا جميلا جدًا مزخرفا برسومات للورد الأبيض والوردي، حين فتحته خرجت منه عروسة صغيرة ترقص وتدور ويبدأ ذلك الصوت في الغناء، إنه صندوق موسيقى رائع!
لكنه كيف كان يغني وهو مغلق؟! يبدو أنه صندوق قديم به عطل.. حين سألت أبي عنه ارتبك وقال لي إنه كان صندوقي وأنا صغيرة، فقلت له إنه بحالة جيدة لما تحتفظ به في المخزن؟! فقال لي إنه لم ينتبه له.. ولكن لم يكن أبي بحالته الطبيعية فكان ينظر لذلك الصندوق بخوف شديد وتلك الرجفة واللمعة بعينيه ما كان سببها؟! ثم احتضنني بقوة وشهق!
عندما طلبت منه أن أضع ذلك الصندوق بغرفتي، رفض وبشدة وطلب مني أن أضعه مكانه.. وتعلل بأن ذلك سيشغلني عن مذاكرتي.. حجة ضعيفة جدًا فأنا لست طفلة!
مع إصراري الشديد على احتفاظي بذلك الصندوق وافق أبي، حملته وصعدت للشقة ودخلت به غرفتي، كانت غرفة صغيرة متصلة بشرفة تطل على الحارة وكان لون دهان الغرفة أزرق سماوي، بها سرير صغير في مقابل الباب بجانبه مكتب عليه بعض الكتب وجمجمة صغيرة بلاستيك كانت أهدتني إياها صديقة عند قبولي بكلية الطب، وضعت الصندوق بجانبها وانصرفت لإعداد الطعام وعندما خرجت من المطبخ وهممت بالنزول لأخبر أبي أن الأكل جاهز، سمعت تلك الأغنية مرة أخرى.. “مع أمي أصحو وأنام، مع أمي تصحبني الأحلام”.
اعتقدت أن الصندق به عطل مجددًا وعندها دخلت الحجرة لأغلقه وجدت….!!