في خبر مفاجئ ومحزن كتبت ريهام نبيل فاروق ابنة الكتاب المتميز د.نبيل فاروق خبر وفاة والدها بأزمة قلبية، ولكن الخبر الذي كتب في عدة سطور قد ترك صداه في نفوس ملايين الشباب عبر الوطن العربي، فجيل الثمانينات والتسعينات اللذين أصبحوا الآن الآباء والأمهات للأجيال الجديدة قد نشئوا وتربوا على أعمال نبيل فاروق التي شكلت وجدانهم وكيفية رؤيتهم المستقبلية للحياة.
عندما لم يجد الشباب ما يقرأه كان نبيل فاروق
في حقبة الثمانينات من القرن العشرين، كان عمالقة الأدب كنجيب محفوظ وطه حسين وتوفيق الحكيم وأبناء هذا الجيل المميز قد توفى أغلبهم أو توقف عن الكتابة أو في أفضل الأحوال تباعدت كتاباته بشكل كبير، ليتركوا فراغ هائل في عالم الأدب، بين كتابات متناثرة أو ترجمات أجنبية غير دقيقة.
وهكذا نشأ جيل يشعر بالحيرة فحين يتوقف عن قراءة ميكي والمغامرون الخمسة، يجد أنه لا يملك طريق لعالم الأدب إلا الأعمال الصعبة والثقيلة أدبيًا لكبار الكتاب، وهكذا وكأن مسرح الأدب كان ينتظره عندما قَدم نبيل فاروق في مسابقة النشر التي أجرتها المؤسسة العربية الحديثة للطباعة والنشر لكتابة روايات من أدب الشباب وقد فاز بها ليقدم العدد الأول من سلسلة ملف المستقبل أشعة الموت.
لم يدري ملايين الشباب عبر العالم العربي أن هذه اللحظة ستكون فاصلة بالنسبة لهم وأنهم أخيرًا سيجدون ما يقرأون. ولكن هذا ما حدث فخلال عدة سنوات كانت أعداد سلاسل نبيل فاروق تثبت تفوقها ليجد الشباب الصغير مادة متميزة لغويًا وأدبيًا غزيرة المعلومات دون انتقاص ذلك من شغفها، تبث قيم حميدة دون أن تتحول للأفكار الزاعقة والخطب المباشرة، فارتبط بها الجيل وقد وجد ضالته.
رجل المستحيل صناعة محلية
إن كان العدد الأول لـ د.نبيل فاروق من سلسلة ملف المستقبل، فإن سلسلته الأشهر كانت رجل المستحيل ببطلها المحبوب أدهم صبري.
عندما سئل نبيل فاروق في إحدى ندواته عن سبب كتابته لأدهم صبري، صرح أنه أحب عالم الحركة والأكشن ولكن فوجئ أن كل ما يقدم في هذا العالم يبث قيم غربية لا تتفق مع قيمنا العربية، وتقوم بتغريب الشباب، لذا أراد أن يقدم بديل لجيمس بوند الذي يهزم أعداءه وبين يديه كأس من الخمر وعلى ذراعة فتاة جميلة، فقدم أدهم صبري رجل المخابرات الشاب الذي يعشق وطنه الذي يعرف من هو العدو الصهيوني ويقدر أخوته في العروبة، الذي يدافع عن القضية الفلسطينية بسلاسة ويقدمها للشباب الصغير في كلمات بسيطة ومفهومة، الذي يقطع عمله ليصلي، ولا يتذوق الخمر، ولكنه منفتح في ذات الوقت فيعمل مع زميلته وحبيبته فيما بعد منى توفيق، لقد قدم خلطة متميزة من الأخلاق والتدين والقيم دون إفراط أو تفريط ودون كلمات زاعقة أو أفكار مسيئة.
أغلب الأجيال الأولى التي أحبت أدهم صبري هم حاليًا في نهايات الثلاثينات وبداية الأربعينات من أعمارهم، وربما تخطى أغلبهم هذا العالم، ولكن نفس هؤلاء ممتنين له بشده ولكاتبه فهو وضع اللبنة الأولى من حب الكتابة والشغف الحقيقي للحروف المطبوعة.
غزارة إنتاج وإبداع فكري
لم يتوقف نبيل فاروق عند سلسلة أو اثنتين بل قدم أنواع مختلفة ومتنوعة من الأدب فبين رائعته الأخرى للشباب ملف المستقبل ببطلها نور الدين محمود، والتي جعلت الشباب يدخل عالم الخيال العلمي من أوسع أبوابه.
فمن من قراء نبيل فاروق لم يتباهى على زملاءه فخرًا عندما يكتشف أنه يعرف معنى المصطلحات العلمية في الفيزياء والبيولوجي يعرف أسماء الكتاب الأشهر في العالم، ويستطيع أن يفهم المصطلحات الاقتصادية والسياسية والكثير والكثير من المعلومات التي تجمعت في هوامش أعماله لتصنع تدفق معلوماتي وثقافي حقيقي لدى جيل من القراء.
كتب د.نبيل فاروق في أغلب أفرع الكتابة، الحركة الخيال العلمي، التاريخ، الأدب الاجتماعي، الأدب المصور، الرومانسية والكتب التحليلية، وكتب الأطفال.
قدم نبيل فاروق ما يربو من 700 عنوان بالإضافة لمئات المقالات في عدد من المجلات والجرائد والمواقع العربية المختلفة.
قدم أجيال جديدة من الكتاب
لم تتوقف تجربة نبيل فاروق لدى ذاته ولكنه قرر في نهاية التسعينات وبداية الألفية أن يقدم تجربة جديدة تقدم جيل جديد من الشباب، فأنشأ دار المبدعون للنشر والتي أصدرت سلسلتي مجانين وأيس كريم وهما من نوعية الأدب الساخر، وقد أشرف نبيل فاروق على السلسلتين التي تَصدر الكتابة بهم شباب جديد في ذلك الوقت متحمس ويبحث عن فرصة انطلاق قدمها لهم هو بشكل جيد ومتميز، لتخرج من هذه التجربة أسماء كـ أحمد العايدي، ومحمد فتحي، وياسمين شفيق بل أخرجت ناشرين جدد كمحمد سامي مؤسس دار ليلى للنشر وهو ما جعل الأدب وكأنه تفاعل متسلسل يسلمه جيل إلى الأخر.
في نفس الوقت فقد كانت هناك أجيال جديدة تنشأ في المؤسسة العربية الحديثة على عينه، فقبل ذلك بوقت طويل قرأ العمل الأول لعملاق أخر هو أحمد خالد توفيق وأوصى بالتعاقد معه ليكون الشرارة الأولى لانطلاق العراب في عالم النشر.
ثم توالت الأسماء التي تحوبت الآن لكتاب متميزين مثل؛ محمد سليمان عبد الملك وتامر إبراهيم.
وداعًا يا صانع المستحيل
إن كان رفيق رحلته وصديقه د.أحمد خالد توفيق قد جعل الشباب يقرأون ويحبون القراءة وقدم لهم نوع جديد من الأدب، فإن د.نبيل فاروق قد عَلم هؤلاء الشباب الصغير وهم بعد أطفال عشق الحروف ومعنى القراءة، ولا يكاد قارئ من الجيل الحالي -مهما اختلف معه في المستقبل- لا يدين له بحبه الأول البريء للقراءة، بنبضة القلب الفالتة شغفًا عند رؤية عنوان جديد، بدفقة الأدرنالين في العروق وعينيه تجري فوق السطور لتجاري الأحداث الشيقة اللاهثة، لدمعة ملتاعة تهبط على الخد الغض الصغير تأثرًا بحدث جلل بين دفتي كتاب، لقد شُكل وعينا كصغار على قلمه الفريد فاستحق بجدارة أن نحزن اليوم لفراقه، وأن نبكي مع رحيله رحيل؛ براءتنا وطفولتنا وشبابنا، رحيل عالم متكامل كان أجمل من أن يكون حقيقة، عالم صدقناه جميعًا وأحببناه ونحن ننهل منه عبر كل كتاب جديد.
اليوم ننظر بعيون دامعة في الأفق فنرى أدهم يتوارى ونور يغمض عينيه ومنى تبتعد وفارس يرحل وأكرم يشد الستار ليختم الفصل الأخير من رجل صنع مع جيل كامل المستحيل..
لنقول جميعًا وداعًا للرجل ..
الرجل الذي سنفتقد قلمه للأبد، الذي قدم لنا الحروف كهدية مغلفة مليئة بالحماس والأسرار ..
لـ نبيل فاروق