نقطة المنتصف
معروفٌ أن البوصلة من شأنها أن تهديك إلى الطريق الصحيح، كي لا تضل أو تهدر وقتًا أنت في حاجةٍ ماسةٍ إلى كل ثانية منه، إلا أن هناك نوعًا آخر من البوصلات، وأخطرها على الإطلاق وهو ما يسمى ببوصلة الحياة أو بكلمة أكثر عمقًا “شغفك”.
أدركت بعد مرور 10 أعوام من حياتي الدراسية بمختلف مراحلها الإعدادية والثانوية والجامعية، أن الخطوة الأولى ليست بهذا السوء أبدًا، والخطوة الأخيرة ليست معقدة كما يزعم البعض، إن هناك مرحلةً بتّ أجزم أنها الأخطر والأصعب والأكثر إيلامًا وهي “نقطة المنتصف”..
فأنت تبدأ مشروعك أو عملك أو دراستك بلهيبٍ مشتعل، وعندما تكون على مشارف الانتهاء تكون نيرانك متجمرةً تمامًا كالعقيق، ولكن ماذا حدث منذ نقطة البداية حتى هذه اللحظة المكللة بالغبطة والامتنان!؟ كم ألف شعورٍ عشت؟ كم آلاف الثواني والدقائق التي كدت بها أن تنتهي وتتلاشى؟ كم طنًا من الدموع ذرفت؟ كم مئة مشكلةٍ واجهت؟ وسطورًا وأوراقًا وأفكارًا مزقت؟
هذه هي نقطة المنتصف، عندما تصل إليها بعد فرطٍ من النشاط والاندفاع، تصل منهكًا متوجعًا محطمًا، لقد قطعت شوطًا هائلًا حتى تصل إلى هنا، نسيت كيف تضحك وتعلمت كيف تصارع روحك على ملذات الحياة، وتعيش الجهد بكل تفصيل، لم يكن بالحسبان كل هذا، سؤالٌ واحدٌ يدور في فلك جمجمتك الصغيرة، هل أستطيع فعلها؟
أنت هنا يا صديقي في قلب المعركة، جندي يحمل قلمه، تشعر بالفشل، سلسلة خيباتٍ متتالية تنقض على روحك حتى تدخل كهف الكآبة وتعيش عتمة الألم والتذمر وتذوق مرارة العزلة، عاجزًا عن مواصلة المسير، أو حتى التوقف والبقاء معلقًا بين الماضي والحاضر، بين الفشل والنجاح، بين أن تكون أو لاتكون، إنه قرارك.
صديقك الحميم، العقل الباطن، يستحضر لك نجاحاتك وأطياف فشلك، خيباتٌ تولد وأحلامٌ تموت في مهدها قبل أن تبصر النور، تشعر وكأنك على شفا حفرةٍ عمقها نيران الغضب والألم والتعب، مثقلٌ بنفسك وأوجاعك، لايوجد أحد لإسعافك، جميعهم خذلوك، لا أحد هنا إلاك مكبلًا بأغلال الفشل محاطًا بجنازير اليأس، تفتش هنا وهناك عن مخرج، عن بصيص أمل، عن حلمٍ عابر، عن فكرةٍ جديدة، تفتش عن نفسك القديمة، تتهاوى جدران روحك وتلملم آخر ما بقي لك من ذرات السعادة.
هل سينتهي بي الأمر محاطًا بهذه الظلمة؟
هذا أول ما سيتبادر إلى ذهنك أو بمعنىً آخر مابقى منه، فهو لم يعد صالحًا للاستخدام، قدماك تخوناك فتسقط جثةً هامدةً مضرجاً بخيباتك، شريط حياتك يمر أمامك، فرصٌ فائتة ووعودٌ منسية، أحلامٌ مشلولة، أنت عالقٌ في حزنك تحتاج حياةً إضافية لتمحي هذه الكوابيس والأوهام وتجعلها في مكب النسيان.
انظر جيدًا وأمعن النظر، اصرخ في أذنك بأعلى صوت: إنه فخ لا تكمل! هذه ليست محطتنا ولا نهاية السكة، موعد قطار الأمل بعد ربع ساعة، استجمع شجاعتك فأنت على قيد الحياة.. على قيد الأمل.. على قيد الحلم.. على قيد النجاح، ارسم بداخلك عالمك ولونه بأريج أحلامك وعبق إصرارك، صافح شغفك بحرارة، وقّع عقد صلحٍ مع ذاتك وانهض إلى العالم كمولود هذه اللحظة وأطلق صرختك الأولى، صرخة وجودك حتى وقتٍ آخر حتى لقاءٍ آخر.