تكنولوجيا

نهاية عصر الفضاء: بقلم محمود علام

شبيبيب
السفر عبر الفضاء Space Travel يعتبر أكبر معضلة واجهت البشرية في تاريخها.. بداية من الطيران العادي اللي أصبح حقيقة على يد الأخوين رايت The Wright Brothers، وانتهاءًا بإطلاق الصواريخ الحاملة لمحطات الفضاء والأقمار الصناعية في العصر الحديث.. معضلة دايمًا كانت بتختبر مدى ذكاء البشر ورغبتهم في الذهاب لأماكن بعيدة للغاية، مشافتهاش عين بشر قبل كده..

لكن المضحك في الموضوع، إننا من الوارد جدًا ندمر عصر الفضاء، ونفسد على نفسنا أي فرصة لارتياده مرة أخرى، بسبب عدم حرصنا، ومواظبتنا على إرسال الصواريخ والإطلاقات الفضائية له بشكل دوري، غير مدروس.. مع كل صاروخ وكل قمر صناعي، وكل جسم عمومًا بنطلقه للفضاء في كل سنة، إحنا في الواقع بنخلق فخ مميت لنفسنا، ممكن في أي وقت يبلغ مرحلة يستحيل معها إنه يخلينا نخرج من كوكبنا مرة أخرى.. ومش بس كده، الفخ ده في الواقع هيدمر تكنولوجيا العصر الحديث الخاص بينا، ويعيدنا للوراء عشرات السنين..

طب إزاي ؟.. خلوني أحكيلكم..

في البداية، خلونا نتفق على حاجة.. إرسال أي جسم للفضاء هو مهمة شديدة الصعوبة..

عشان نقدر نوصل بالصاروخ للفضاء نفسه، في الأول بنحتاج إننا نعمل عملية إطلاق بشكل عمودي من سطح الأرض، زي اللي بتشوفوها في المعتاد في عمليات إطلاق الأقمار الصناعية هنا على الأرض.. الصاروخ بيصعد للأعلى بسرعة خيالية تحت تأثير قوة دفع الوقود عشان يقدر يتغلب على قوة الجاذبية الأرضية، لحد ما بيوصل لارتفاع معين على بعد بضع مئات من الكيلومترات فوق سطح الأرض، وساعتها، بيبتدي يميل مداره بزاوية حادة، ويكمل مساره بنفس السرعة، عشان يدخل في مدار بنسميه في علوم الملاحة الفضائية Astronomy بإسم (مدار الأرض المنخفض Low Earth Orbit)..

أول بقى ما بنوصل لمدار الأرض المنخفض ده، بيبقى من الصعب جدًا إننا نخرج منه.. ليه ؟.. لإننا هنبقى وصلنا لمرحلة سقوط دائم حول الكرة الأرضية.. يعني آيه ؟.. يعني جسم الصاروخ هيكون بيسقط بالعرض نحو الكوكب، واللي بدوره بتكون الأرض بتاعته وكتلته كروية الشكل، فبالتالي الموضوع بيبقى كإن الجسم بيسقط سقوط دائم بيخليه يدور حوالين الكوكب في المدار بتاعه.. يعني المدار ده هو في الواقع ممكن نتخيله بإن الجسم بيقع من فوق، بس بيقع بالعرض.. الجاذبية الأرضية اللي بتشده، بتعادل سرعة سقوطه بعيد عن الكوكب، فبالتالي بيفضل على ارتفاعه مبيخرجش منه، لكن بيفضل يدور حوالين الكوكب في حالة السقوط الدائم دي..

طيب كل ده جميل.. وبعدين؟

اللي بيحصل بعد كده زي ما قلنا، إن الأجسام اللي احنا بنرسلها للفضاء بتفضل محتجزة في المدار الأرضي المنخفض ده، وبتفضل تدور هناك لعشرات، ويمكن مئات السنين، لحد ما مقاومة الغلاف الجوي الضعيف جدًا هناك تقدر تشكل طاقة كافية تهدي سرعتها وترجعها تاني للأرض، عشان تحترق في الغلاف الجوي، والباقي منها يقع على الأرض، لو في باقي أصلًا..

طبعًا اللي احنا بنقوله ده في حد ذاته شيء عظيم بالنسبة للأشياء اللي احنا أصلًا عايزينها تفضل في الفضاء.. زي مثلًا الأقمار الصناعية والمحطات الفضائية الدولية.. طيب جميل.. ماذا عن الأجسام اللي مالهاش لازمة بقى فوق ؟..

زي ما انتوا عارفين، الصواريخ عشان تقدر توصل لمدار الأرض، بتعمل ده على مراحل.. يعني الصاروخ بيبقى فيه كذا خزان.. بيطلع لحد ما الوقود ينتهي من خزان، بعد كده ينفصل الخزان ده عن جسم الصاروخ، يستهلك وقود من الخزان التاني لحد ما ينتهي، بعدين ينفصل، وهكذا، لحد ما يوصل لمدار الأرض ويكون استهلك الوقود كله.. طيب الخزانات اللي بتنفصل دي بتروح فين ؟..

بعضها بيقع مرة تانية على الأرض ف أماكن مدروسة، ومعظمها بيحترق في الغلاف الجوي أصلًا.. لكن بعض آخر منها بيفضل موجود بيدور في المدار الأرضي لسنين طويلة أوي.. وبسبب ده، إحنا في الواقع نقلنا معظم البنية التحتية البشرية المتعلقة بالفضاء، للمدار الأرضي المنخفض ده.. لو مقدرتوش تفهموا الكلام ده أوي، مش مشكلة.. هو علم صورايخ حرفيًا، مش تريقة 😀 .. المهم.. بسبب ده بدأت تحصل كارثة كبيرة جدًا، وكانت غايبة عننا طوال سنين طويلة، ومحدش مهتم بيها أوي..

الكارثة دي، هي المقبرة الفضائية اللي المدار الأرضي المنخفض إتحول لها..

بعد سنين طويلة أوي من السفر في الفضاء وارتياده، بدأت في الخمسينات من القرن العشرين، لحد دلوقتي، المدار الأرضي لكوكبنا اتحول لساحة خردة حرفيًا، من الأجسام المستهلكة والبايظة.. سواء كانت صواريخ مستهلكة، أو أقمار صناعية منفجرة ومحطمة، أو أجزاء من صواريخ وخزانات وقود، أو اختبارات للصواريخ العابرة للقارات أو النووية، أو شظايا ناتجة عن انفجارات وتصادمات ما بين الأجسام وبعضها.. كل ده بيسبح في الفضاء حوالين الأرض بسرعات خيالية بتوصل لعشرات الكيلومترات في الثانية الواحدة !.. أسرع من طلقات الرصاص !.. تخيلوا..

إحنا حاليًا بعد دراسات مشتركة أتعملت من مؤسسات الأبحاث والملاحة الفضائية الأمريكية والأوروبية والروسية، نعرف بالتقريب عدد كبير من الأجسام الموجودة حاليًا في الفضاء، بتغلف الكوكب بأكمله بعاصفة مميتة من الشظايا القاتلة.. خلوني أعدلكم الأجسام دي أيه بالترتيب:
1- عدد 2,600 قمر صناعي خارج الخدمة أو محطم.
2- عدد 10,000 جسم وشظية أكبر من شاشة الكمبيوتر.
3- عدد 20,000 جسم في حجم تفاحة طبيعية.
4- عدد 500,000 شظية في حجم حباية العنب.
5- عدد أكبر من 100,000,000 شظية صغيرة لدرجة لا يمكن تعقبها.

تخيلوا !.. تخيلوا كل ده بيغلف الكوكب بسحابة مميتة بتدور حول الأرض سرعتها تقريبًا حوالي 30 ألف كيلومتر في الساعة، سرعة الشظية الواحدة فيها أكبر من سرعة الرصاصة بعشرات المرات.. السرعة دي في الواقع لو حبيت أديلكوا عليها مثال، يكفي بس إني أقولكم إن شظية صغيرة بحجم تفاحة، ماشية بالسرعات المدارية العملاقة دي، تقدر إنها تدمر قمر صناعي كامل !.. لكم إنتم التخيل بقى..

عشان أديكم فكرة عن مدى الكارثة التي تنتظر الحدوث، خلوني أوضحهالكم شوية.. إحنا دلوقتي أرسلنا مئات الملايين من الشظايا المميتة للمدار الأرضي المنخفض.. وفي نفس الوقت، عندنا بنية تحتية يقدر سعرها بمئات المليارات من الدولارات، بتسبح في نفس المدار الأرضي المنخفض.. الأجسام الموجودة في البنية التحتية دي بتؤدي وظائف وأعمال هي اللي بتصنع التكنولوجيا البشرية الحديثة حاليًا.. سواء كانت أقمار إتصالات أو إنترنت أو ملاحة و GPS للطيران، أو أقمار تنبؤ بالطقس، أو أقمار تبحث عن النيازك قبل أن تصيب الأرض، أو تليسكوبات بحثية لدراسة الفضاء، أو أقمار تجسس أو أقمار تنقيب عن المعادن، أو غيرها مئات من الوظائف اللي من غيرها هنرجع للقرون الوسطى بدون أدنى مبالغة..

تخيلوا بقى لما قطعة واحدة من الشظايا تصيب أي واحد من الـ 1100 قمر صناعي مفعل اللي موجودين حاليًا، هتدمره فوريًا.. يكفي إن أقولكم إن 3 أو 4 أقمار صناعية بيتم تدميرها فعلًا بالشكل ده، في كل سنة.. بس المشكلة بقى إن في السنين المقبلة، عدد الأجسام اللي هيتم إرسالها للفضاء هيتضاعف عشرات المرات.. سواء بأقمار مؤسسة Space X بتاعت الإنترنت العالمي، أو أقمار Amazon و Google المنافسة، أو مهمات ناسا لغزو القمر والمريخ، ومهمات Space X الفضائية.. عدد الأجسام اللي هيتم إرسالها وإبقاءها في الفضاء في العشر سنين الجاية، متوقع إنه هيتضاعف حوالي 10 مرات !.. كل ده وسط غباء بشري كامل، وعدم دراسة كافية للعواقب او النتائج اللي ممكن تحصل بسبب إطلاقات فضائية غير مدروسة، أو غير مخطط ليها جيدًا زي دي.. كل واحد بيقولك يا عم مش مشكلة، مانا كده كده مش هعيش عشان أشوف ده.. نسيب الأجيال الجاية تولع بقى..

خلوني مثلًا أقولكم حاجة.. أسوأ حاجة ممكن تحصل في الفضاء، هي مش سحابات الشظايا المميتة اللي اتكلمنا عليها دي.. لأ مش مجرد كده خالص.. المشكلة والكابوس الحقيقي هو سلسلة من الإنفجارات والتصادمات اللي ممكن تحصل، وتخلق سحابة مميتة من الشظايا تدمر أجسام تانية، وتبدأ السحابة تكبر بشكل خيالي، في أوقات قصيرة لا تستوعب، لحد ما قبل ما احنا نقدر ناخد بالنا أصلًا، هنلاقي كل الأجسام الموجودة في مدار الأرض اتدمرت تمامًا.. فرص ده في إنها تحصل كانت قليلة زمان، لإن الأجسام الموجودة كانت قليلة، والفضاء واسع جدًا جدًا.. لكن باللي احنا بنعمله ده، إحنا بنقرب المسافات ما بين الأجسام لحدود غير مسبوقة، وبعدم دراسة متأنية كافية.. وهو ده الكابوس الحقيقي..

صحيح إن في طرق حاليًا بيتم دراستها لإعادة الشظايا والأقمار الصناعية المحطمة دي للأرض، أو دفعها بعيد عن الكوكب، سواء بإستعمال أقمار صناعية أخرى مزودة بحراب وحبال معدنية تقدر تشدها للكوكب مرة تانية، أو عن طريق أجسام كهرومغناطيسية صناعية عملاقة تقدر إنها تتنافر معاها وترسلها للفضاء العميق بعيد عن الكوكب، بس كلها لسه حلول غير متطورة، وبدائية جدًا جدًا في أبحاثها، بشكل لا يتناسب مع مدى التطور العلمي اللي وصلنا له في غزو الفضاء..

الغباء البشري، وجشع الشركات العالمية، وسعيهم خلف المال والتكنولوجيا، وسباق التطور والإتصالات بين الدول العظمي، هيوصل كوكبنا في يومٍ ما لنقطة لا عودة ربما نكون بلغناها بالفعل حسب بعض الإحصائيات اللي بتؤكد إن بالفعل عدد الأجسام الغير معروفة حاليًا في الفضاء لازم ولابد هتؤدي لكارثة فضائية في العشر سنين المُقبِلة، تقضي على كل أو معظم الأقمار الصناعية التكنولوجية العالمية، وترجع البشر لعصور الظلام.. ترجعنا للوراء عشرات السنين.. قبل عصر الإتصالات والطيران والملاحة والإنترنت.. نقطة لا عودة هتدمر حضارتنا حرفيًا، وتكلف مليارات المليارات من الدولارات اللي ممكن تدمر إقتصاد العالم بأكمله لو تم إنفاقها، لإصلاحها من جديد، ومش بنفس الكفاءة..

عشان كده لو انت مستقبلًا بتفكر إنك تسجل في مبادرة Space X للسفر للمريخ، أو بتحلم باليوم اللي هتصبح فيه السياحة الفضائية حقيقة، وإنك تشوف العصر اللي البشر فيه يعملوا فنادق في الفضاء ويسافروا كواكب بعيدة، فكر تاني.. لإن الفرصة أكبر من 90% إنك مش هتشوف ده يحصل أصلًا، عشان التكنولوجيا البشرية بأكملها هتتدمر بسبب كارثة لا يمكن التنبؤ بميعاد حدوثها، وصعب جدًا جدًا إيقافها في المرحلة الحالية..

و وسط كل ده إحنا كبشر بنعمل أيه ؟.. إحنا كبشر بندي Space X تصريحات لإطلاق أكثر من 12 ألف قمر صناعي قريب عشان خطة الإنترنت، وهيكون في ضعفهم كمان هيطلع لسه قريب من Amazon و Google.. كل ده بعيد عن أقمار مؤسسة N.A.S.A، أو مؤسسات و وكالات الفضاء الأوروبية و الروسية.. وطبعًا إحنا كعرب مالناش دعوة بالكلام ده 😀 .. إحنا مبدأناش عصر الفضاء أصلًا عشان ينتهي.. الموضوع واضح ومفيهوش مجال للكلام يعني.. خلينا إحنا ف اللي احنا فيه، وربنا هو المعين..

المصدر
مصدرمصدر

محمود علام

محمود علام هو كاتب روائي وباحث، وسيناريست مصري، بدأ النشر منذ سنة 2016، وصدر له العديد من الأعمال هي (كتاب الشمس ٢٠١٦ - الله لا يرمي النرد ٢٠١٧ - التنظيم ٢٠١٧ - السائرون ٢٠١٨ - الجيل الثالث ٢٠١٩ تخت النشر)، و التي نالت كلها صدى واسع في أوساط القراء، جاعلة إياه من أشهر الكتاب الشباب المتواجدين على الساحة وأكثرهم نشاطًا..

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى